“محمد م. الأرناؤوط”
“كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري”
مع صدور رواية “سارة وسيرافينا” للكاتب البوسني جواد قرا حسن عن دار (“الآن ناشرون وموزّعون”) بعمّان هذا العام، بتوقيع المترجِم الأردني إسماعيل أبو البندورة، يكون القارئ العربي قد أصبح في وُسعه أن يطَّلع على أهمّ الروايات في الأدب البوسني؛ ابتداءً من أوّل رواية فيه “المرجة الخضراء” لأدهم مولى عبديتش، التي صدرت في سراييفو عام 1898 (“الآن ناشرون”، 2018)، وحتّى جواد قرا حسن المعروف الآن على المستوى الأوروبي، مروراً برواية “القلعة” لميشا سليموفيتش (“وزارة الثقافة الأردنية”، 2007)، ورواية “القُناق” لكامل سياريتش (“الآن ناشرون”، 2020). وبالمقارنة مع غيرها يبدو أن هذه الرواية الجديدة تحمل بصمة المحرّر الأدبي في الدار، وهو الشخص المجهول في غالبية دُور النشر العربية، وهو ما يجعلها سَلِسة كأنّها مكتوبةٌ في العربية.
وكنتُ قد التقيتُ في عام 2019 الروائي جواد قرا حسن في “مقهى فيينا” بفندق أوروبا بسراييفو، الأثير لديه الذي يَرِد ذكره في روايته هذه وغيرها، ولمستُ فوراً شخصيّته المركّبة والعميقة التي تجمع الشرق بالغرب. وكان قرا حسن قد لفت النظر إليه بروايته “الديوان الشرقي” (1989) التي تكشف عن سِعة وعُمق معرفته بالثقافة الشرقية الإسلامية، حيث إنّ الرواية تدور أحداثها ما بين العراق وإيران في ذروة العصر العباسي من خلال ثلاث شخصيات عربية – فارسية: عبد الله بن المقفع وأبو حيان التوحيدي والحلّاج.
ومن خلال هذه الرواية يكشف قرا حسن عن الفوارق بين المسلمين الأصوليّين والصوفيّين، ليصل إلى أن العالم ينقسم إلى مجالين خارجي وداخلي، وأن الداخلي هو الأهمّ والأكثر قيمة والأكثر واقعية. كانت الرواية قد صدرت عشية انهيار يوغسلافيا والمجازر التي حدثت لاحقاً في الحروب بين “الأخوة الأعداء”، ولذلك استدعى روايته “الديوان الشرقي” ليقول ما لم يقله صراحة في الرواية: إن النزعة للعنف والحروب والإقصاء هي في جوهر الثقافات والحضارات وليست في هامشها، وفي كلّ مجتمع لدينا الآخر المختلف والمنبوذ والمضطهد.
رواية تقول كيف نسفت الحرب نسيج سراييفو الاجتماعي.
ربّما يكون هذا أفضل مدخلٍ لتناوُل الرواية المترجمة التي صدرت في سراييفو عام 2000، أي بعد خمس سنوات فقط على انتهاء الحرب الدموية في البوسنة (1992 – 1995) التي روّعت العالم. فقد كان الجانب الظاهر من الثقافة في يوغسلافيا التيتوية، التي يُفترض أن تعبّر عن “الأُخوّة والاتحاد” بين شعوب يوغسلافيا، يقدّم صورة وردية عن واقع ومستقبل البلاد حتّى السنوات الأخيرة من حياة تيتو، ولكنّ الجانب الخفي في هذه الثقافة الذي هو الأعمق والأكثر واقعية حسب قرا حسن انفجر لاحقاً ليعبّر عن نفسه بأسوأ شكل (التطهير العرقي) بالمجازر التي ارتُكبت في حرب البوسنة.
كانت البوسنة الجمهورية الوحيدة في يوغسلافيا السابقة بأغلبية مسلمة منفتحة، ولم يشفع لها أنّها كانت الأولى في يوغسلافيا من حيث الزواج المختلط بين البُشناق المسلمين والصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك. كان قرا حسن نفسه نموذجاً لهذا العبور بين الحدود الدينية – الثقافية، حيث إنه وُلد كما يقول لـ “أب شيوعي مؤمن وأم مسلمة تقيّة”، في بلدة صغيرة بغرب البوسنة والهرسك، وتشكّلت هويته خلال دراسته للأدب والمسرح في سراييفو التي كانت حاضنة للهوية اليوغسلافية الواحدة التي تتعالى على الهويّات الفرعية، وتزوّج من صربية ولكنه سرعان ما اضطر إلى مغادرة حبيبته سراييفو التي خصّها بأفضل ما كتب في 1993، ليغدو كاتباً معروفاً في النمسا وألمانيا ويحوز الجوائز باعتباره أصبح ينشر بالألمانية وتترجم كتبه إلى اللغات الأوروبية، ليتوّج بعددٍ من الجوائز كان آخرها “جائزة غوته” (2020).
مع هذا المدخل الذي يساعد على فهم أول رواية مترجمة له إلى العربية قد يفاجأ القارئ حين يصل إلى الصفحة الأخيرة بأن هذه الرواية المخصّصة عن معاناة سراييفو خلال الحرب (1992 – 1995) من حصار خانق وقصف مُتواصل، وقنص مستمرٍّ للسكّان في الشوارع من المُرتفعات التي تحيط بالمدينة، دون أن يرى شيئاً من فظاعات هذه الحرب، و”بطولات” الأطراف المتحاربة التي تعني هنا التفاصيل المعبّرة عن الجانب الخفيّ من الثقافة الظاهرة، ومن ذلك القصف المتعمّد لـ”معهد الدراسات الشرقية” في أيار/ مايو 1992 في سراييفو، وتحويله إلى هشيم لتدمّر بذلك أكبر مجموعة للمخطوطات الشرقية في البلقان.
عوضاً عن ذلك يختار قرا حسن تداعيات الحرب على سكان هذه المدينة، من خلال نماذج أو حالات فردية تنتمي إلى أطراف مختلفة دون أن يسمّيها أو يكتفي بالتلميح لذلك، ليقول كيف نسفت هذه الحرب النسيج الاجتماعي الثقافي في سراييفو الذي كان سائدا قبل الحرب. ومن ذلك لدينا فقط الراوي الذي يحمل سمات الكاتب الفيلسوف المتحصّل على دكتوراة في الفلسفة من “جامعة زغرب”، الذي يتعمّق في فلسفة الأمور التي لا تلفتُ الانتباه؛ مثل تصنيف أفراد المجتمع وسلوكهم إلى عدّة فئات حسب استجابتهم لقرع جرس بيوتهم، أو مكانة الخبز في حياة الانسان وارتباط ذلك بنشوء الحضارات، وصديق له اسمه ديرفو يُفهم من السياق أنه يعمل في الشرطة، ويشارك في القتال دون أن يسمّي الجيش الذي يقاتل معه (جيش البوسنة الذي يمثل الشرعية)، أو يقاتل ضدّه (جيش صرب البوسنة الذي يحاصر سراييفو)، وصديقةٍ لهما تحمل اسمين مشتقّين من بعضهما سارة وسيرافينا، وما ينسَلُّ عنهم من شخصيات محدودة تمثّل معاناة سكّان سراييفو من الحرب أو من الحصار الخانق، الذي يدفع البعض إلى تدبُّر أيّة وسيلة للخروج من هذه الجحيم.
يقدّم سردية أثيرة لدى أوساط أوروبية تتناسى مسؤوليتها
من رموز هذا الحصار الخانق كان النفق الذي حفره المدافعون خلال ربيع عام 1993، ليصل بين قلب سراييفو المحاصَرة ومطار المدينة الذي كانت ترابط فيه قوات الأمم المتحدة، الذي تحوّل إلى “سرّة الحياة” لسراييفو وأصبح متحفاً بعد الحرب. ونظراً لأنّ ديرفو خاض تجربة العبور في هذا النفق نجدُ أن الراوي ينقل عن صديقه ما يمثّل مفارقة الحياة بين من يذهبون في اتجاه المطار ومن يأتون عبره إلى المدينة. فـ “من المدينة كان يُنقل كلّ ما هو مهمّ، وكلّ ما يخصّ المرء كثيراً: الحُبّ، والذكريات، والمعاني”، أما إلى المدينة فكانت تُنقل “المؤن والطعام والملابس الدافئة والأدوية والوقود والمشروبات، وكلّ ما تحتاجه المدينة للعيش”.
ومع قلّة الشخصيات يمكن القول إن بطلة الرواية التي تشتبكُ الأحداث حولها وتفصح عن المزيد هي سيرافينا، التي تعرف اختصاراً باسم سارة، والتي حمل اسمَها عنوانُ الرواية. ومن خلال الأسماء نبدأ في فهم انعكاسات الحرب على أولئك الذين كانوا قد تجاوزوا الحدود المقدّسة للأطراف غير المُعلَنة، وأصبحَ عليهم خلال الحرب، وسعي الأطراف إلى تكريس حدودها أن يدفعوا الثمن سواء بمغادرتهم المدينة المحاصرة أو ببقائهم فيها.
كانت سارة تعيش وحيدةً مع ابنتها أنطونيا التي أصبحت ضحيّة للحصار الخانق، حين تعرّف عليها الراوي ونقل لها استعداد أختها أنجلينا التي انتقلت إلى زغرب – وأصبحت لها مكانةٌ بعد أن تزوّجت هناك شخصيّة لها اعتبارها – أن تساعد ابنتها أنطونيا على الخروج من سراييفو المحاصَرة إلى زغرب. كانت أختها لا تعرف أن أنطونيا أحبّت شاباً مسلماً يُدعَى كِنان واتّفقت معه على الزواج حينما كان ذلك عادياً قبل الحرب، ولكنّه أصبح الآن مشكلة بعد اندلاع الحرب. فقد كان من المطلوب أن تحصل أنطونيا على شهادة المعمودية (الكاثوليكية) ليصبح وصولُها واستقرارها في زغرب مقبولاً، ولكنّ أنجلينا لم تكن تعرف أن ابنة أختها قد ارتبطت بشابٍّ مُسلم.
كان الحلّ أن يقبل كِنان بأن تصدر له شهادة معمودية مزوّرة باسم آخر، وبمساعدة قسّيس صديق للراوي، ولكنّ المشكلة برزت الآن مع كِنان الذي رفض أن يستخدم اسماً مزوراً له ولهويّته أمام زوجته، ولذلك أصبح الحلّ يكمن في خُروجَين مُنفصلين. لكنّ الحل تعقّد مع اكتشاف السلطات البوسنية مقرَّ الشابّ الذي يزوّر الشهادات وتركه لهذا العمل للنجاة بنفسه، ممّا اضطرّ أنطونيا للخروج وحدها على أن يلحق بها كنان لاحقاً. ولكن كِنان حافظ على هويّته وتطوّع للقتال في جيش البوسنة ليُجرح في إحدى المعارك ويبقى دون يد، بينما وقعت حبيبتُه في إحباط الغربة في زغرب وقرّرت الهجرة إلى نيوزلندا.
في هذه الحال يمكننا أن نتخيّل ما حدث لسارة أو سيرافينا، التي أبرزت كلّ ما لديها من طاقة إيجابية في تحويلها المدرسة التي تعمل فيها إلى واحة حياة للحيّ الموجودة فيه، قبل أن تفقد أعصابها بعدما عرفت بما حدث وتخرج طائشة إلى المكان المفضل للقنّاصة (الصرب) من المرتفعات المحيطة بسراييفو الذين كانوا يستهدفون المارّة في الشوارع. ولكن من شاهَدَ سارة كيف تستعرض نفسها في تلك المنطقة، دون أن تتعرّض للقنص استغرب جداً، بينما كان الجواب جاهزاً عند الراوي بخبرته: “كان للقنّاصة أيضاً معاييرهم في استهداف ضحاياهم، وهي لم تكن تكن تشمل إنسانة مثل سارة أو سيرافينا!”.
وعلى ذكر هذه الازدواجية في الاسم يستدعي الراوي ما حدث ليهود سراييفو خلال الحرب العالمية الثانية، عندما أصبحت البوسنة جزءاً من “دولة كرواتيا المستقلة” (1941 – 1945) المُتحالفة مع ألمانيا النازية، حين بدأ التدقيق في الشوارع بالاستناد إلى هويّات المارّة وتحميل اليهود منهم في شاحناتٍ إلى معسكرات الاعتقال. فقد كانت سيرافينا، المعروفة باسم سارة، مع صديقتها اليهودية إيلا كمحي حين تم توقيفهما في الشارع. وبسبب الاسم المميّز تم توقيف إيلا كمحي فوراً، وعندما سئلت سيرافينا عن اسمها قالت: سارة، وهو ما جعلها تصعد إلى الشاحنة مع صديقتها اليهودية. ولكن عندما عرفت في الشاحنة السبب استعادت نفسها، وأفصحت عن بطاقتها التي تثبت أنها سيرافينا الكرواتية الكاثوليكية وليست سارة اليهودية.
في الرواية تفاصيل عن معاناة إنسانية لأفراد ضمن ذواتهم أو ضمن أسرهم، وهم على اختلاف هوياتهم ضحايا لوضع صعب لا يسمي بصراحة الأطراف المتسبّبة فيه، ولا يكشف عن المعاناة الجمعية لطرف حَكم على سراييفو بالحصار الخانق والقصف المتواصل والقنص اليومي، ولذلك يسيطر اللون الأبيض (الثلج) على سراييفو، عوضاً عن اللون الأحمر (الدم)، الذي يفترض القارئ أن يكون موجوداً هناك بسبب الحرب العنيفة.
هذا النوع من السردية أصبح مفضّلاً بطبيعة الحال في القارة الأوروبية التي تريد أن تتناسى مسؤوليّتها عما حدث في سراييفو، كما هو الأمر مع مسؤولية القوّة الهولندية “الحامية” لسربنيتسا التي لم تمنع حدوث المجزرة الجماعية فيها. ولذلك يلفت النظر في مبرّرات “جائزة غوته” التي حصل عليها المؤلّف البوسني/ النمساوي جواد قرا حسن عام 2020، أنها ركّزت على كونه كان “يدعو دائماً لتجاوُز الحدود سواء كانت سياسية أو ثقافية”. أمّا في موطنه البوسني فقد أصبح المؤلّف متّهماً بمحاباة الطرف الآخر (الصربي)، وأصبح عليه أن يدافع عن نفسه في مواجهة ذلك حتّى الآن.