عبدالله المتقي
وتساوقًا مع تتبّع استضافة برنامج «ما يسطرون» للكاتبة هيا صالح بقصد الحديث عن روايتها، نخلص إلى أن الجسر لا يعدو أن يكون فضاءً مفتوحًا يربط ويجمع بين الأحياء، وأرواح الغائبين الذين يرحلون عنا بفعل الموت، فهم لا يرحلون وإنما أحياء يرزقون ونعاينهم في حياتنا من خلال ملامحهم التي نراها في ملامحهم، ومن ذكرياتهم الموشومة في تجاويفنا وذواكرنا والتي تأبى أن تمحى.
وعليه، يكون الجسر مكانًا وملتقى وحيدًا، من خلاله تلتقي تلك الأرواح الحية والميتة للبقاء والتواصل والتراحم. و«الموتى لا يغادرون عالمنا، حتى لو حملتهم سيارات الإسعاف، وحتى لو رقدوا في المشرحة بين جثث الغرباء». محمد المنسي قنديل.
وعطفًا على ما سبق، ما علاقة هذا العنوان بمضمون وأحداث الرواية؟ من الميت الذي خرج من الحي؟ ومن الحي الذي خرج من الميت؟ وبصيغة أخرى من الغائب الخارج من الحاضر؟ ومن الحاضر الخارج من الغائب؟
تتناول رواية «جسر بضفة وحيدة»، حكاية سامية وحيدة أسرتها ذات الجذور الفلسطينية والمقيمة في مدينة الموصل، التي ارتبطت بعلاقة غرامية في مراهقتها مع ابن الجيران العراقي والنحات «عمار»، ومعه ستتعرف على معالم المدينة وحضارتها، عن المنحوتات التي يبدعها، وعن تعلقه بها.
بيد أن هذه العلاقة تتقوّض بعد حرب الخليج الثانية التي انتهت بسقوط بغداد في الحرب وويلاتها، وما خلفته من لاجئين، وضمنهم أسرة سامية التي تستقر بالأردن، لتتأثر سامية بجراح ووجع الفراق، وفي الأردن تحاول التصالح مع محيطها وذاتها، بعقد علاقات مع صديقاتها بالمدرسة، ثم علاقتها بـ«سالم» شقيق صديقتها «نيرمين»، وبعدها تجربة الخطوبة وإفساخها بعد رحيل والدها ثم أمها، يتسبب في أن يتوزع النسيج الروائي لـ:
أ- الحب
أجمعت كل الأساطير والحكايات والأغاني الشعبية في مختلف الثقافات الكونية على حضور الحب في حياة الإنسان الباحث عن نصفه الآخر كما في أسطورة الخنثى، ولم تشذ الرواية العربية عن هذه الموضوعة التي طبعت الرواية عالميًا ولوّنت علاقتها بالحب في تجلياته المختلفة، إما بشكل صريح أو بشكل عرضي، سواء كان المصير سعيدًا أو تعيسًا.
وبخصوص رواية «جسر بضفة وحيدة» يحضر الحب موضوعة مهيمنة وحاضرة في كل فصول الرواية، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن حب «سامية» لـ«عمار»، وحب «سالم» شقيق نيرمين لـ«سامية» وحب «صلاح» لزوجته «سامية».
بخصوص الحب الأول يقول السارد: أحببت «عمار» لدرجة أنني كنت أطير سعادة كلما حمل لي الشوكولاتة والعصير ورقائق البطاطا من البقالة ص39، وتنخرط ذاكرة السرد بعدها في الوله، وتلقي لحظات ومشاهد لم تتخلص ذاكرة «سامية» من اشتباكاتها التي فرضها خزين الذكريات بعد الفراق الذي فرضته ويلات الحرب.
وبخصوص الحب الثاني تتشكل علاقة عاطفية بوجهين، وجه يبدو فيه «سالم» اجتياحًا لعواطف «سامية»: «اجتاحني سالم بقوة جعلتني أحب طريقته في محبتي» ص54.
ووجه ثانٍ غايته ملء الفراغ العاطفي الذي تعيشه، وتعويضًا للحفر الذي خلفه «عمار» عميقًا في تجاويفها، وهذا ما يجسّده شكل الحوار مع الذات في المرآة، يقول السارد: «سألتها: «هل تحبينه؟»، صمتت لحظات قبل أن تقول: «أحب أن يكون موجودا في حياتي، هدا ما أعرفه» ص63.
هذا التلاطم ينتهي بمجرد الإعلان عن خطبتها مما تسبب في انطفاء سالم، ودخوله دائرة الإحباط، نقرأ في الصفحة «بعد زمن اتصلت بنيرمين التي قررت مقاطعتي، فخاطبتني بقسوة: «أنت لا تخافين الله… لماذا فعلت هذا بسالم؟ لقد هجر الطعام وتدهورت صحته وانقطع عن الجامعة، سيلاحقك ذنبه أينما كنت» ص65.
لكنها ظلت تنظر إلى تلك الأيام مع إحساس هوسي مكنون بالذنب تثبته هذه الجملة المؤلمة حين تقول، «بإرادتي أعددت من دون أن أدري ظروف الحادثة»، أما بخصوص الحب الذي يعني «سامية» وزوجها «صلاح»، فلا يعدو أن يكون حبًا مقنعًا ومن طرف واحد، نقرأ في الصفحة: «صلاح أحبني كما لم يفعل أحد من قبله، لكنه كان يشعر أنني لا أبادله الحب وكلما ازداد يقينا بذلك تعلق بي أكثر» ص26.
ونقرأ في نفس الصفحة: «أحتضن رأسه بين يدي، وأردد على مسامعه أنني أحبه جدًا، ولن أفكر في التخلي عنه لحظة واحدة، أكذب لأقيه جرحي، ولأقي نفسي من التيه بعده» ص26.
وعليه، تعيش «سامية» حياتها مرتبكة وملتبسة استجابة لعاطفة تسعى إلى ملء الفراغ والغياب، وعاطفة لا تريد سحق هذا الماضي «الذي أمسى وهمًا من الاستحضار لـ«عمار»، وتتمثل هذه الاستعادة في مجموعة من التفاصيل لا تخرج عن التكريس الدامغ الذي لا يمكن تفاديه، عبر وضع افتراضات وهمية، وذكر جميع السيناريوهات التي كان من الممكن عبرها تجنب السيناريو الموجع، يقول السارد والمحكي الروائي يشرف على إسدال ستارته بقليل: «أشعر بيد عمار تمسك بيدي وتساعدني على النهوض عن الأريكة، ثم نسير معًا».
ب- الفقدان:
الفقدان ألم قاسٍ من شأنه أن يخلخل العقل ويهز الروح، فهو «ينطوي على انحرافات خطيرة تنأى بنا عن نمط حياتنا الطبيعي» كما يقول فرويد في دراسته «الحداد والكآبة»، وفي رواية «جسر بضفة واحدة» يتعدد الفقدان ليرتبط بالوطن والموت؟
تبعًا لما سبق، تبدأ رحلة الفقدان الأولى لوالد «عمار» الذي غيبته الحرب: «فقدان» عمار لوالده في حرب الخليج، «كان والده في الجيش… خرج للقتال في حرب الخليج الأولى ولم يعد» ص41، ويتوالى الفقد الحارق، فقدان «سامية» الأم والأب: «رحل أبي بعد شهرين من خطوبتي، ولم يمض على رحيله أربعون يومًا حتى لحقت به أمي» ص65.
«ولم أصمد أمام الفجيعة، ففسخت خطوبتي، وقررت العودة إلى الجامعة والبدء من جديد» ص65، هذا الفقدان المتعدد والمتنوع، كان له تأثيره الموجع على مناخات «سامية» وذهنيتها، وتسبب في بلبلة أفكارها وزلزلتها نفسيًا، وليترك ندوبًا في تجاويفها، خاصة «عمار» الذي لم يمح حضوره وذكراه، لسنوات متلاحقة، حتى وهي في بيت الزوجية وإنجابها طفلين، إنه أقسی أشكال الفقدان الذي ظل معلقًا بداخلها، ولم تشف من جرحه لأنه لا يقود إلی «عمار» ومنحوتاته ولحظاتها السعيدة بمعيته.
بداءة، دعونا نتفق أن من مميزات الرواية أنها تسمح لجميع المكونات والأجناس بأن تدخل ضمن متنها النصي، إذ نجد داخل النص الروائي جنس الشعر والقصة والمقالة والخاطرة وغيرها، وعليه فإن النص الروائي يكون قابلاً للتناص الداخلي والخارجي لفظًا ومعنى، وهو ما يسمى بالانفتاح النصي الذي يهتم بالعلاقة القائمة بين النصوص والتعالق المشترك بينها، ولهذا يعد موضوع الانفتاح النصي من أهم الموضوعات النقدية التي شهدت اهتمامًا نقديًا في العالم العربي في العقود القريبة وتتخذ منه أساسًا في الدراسة النقدية.
أفردت الرواية مساحة لطبيعة علاقتها مع التصوير الفوتوغرافي، والنحت الموسيقي، مثل انفتاح المحكي الروائي على أشكال من الموسيقى ورمزها من قبيل: موسيقى الروك، والفنان الفرنسي المفضل كلود، ومغني الروك الأمركي إيجي بوب.
وأخيرًا، تبقى رواية «ضفة بجسر وحيد» لهيا صالح نصًا روائيًا مفعمًا بالحركة والصراع، بالحب والغياب والفقدان، ويستحق الكثير من الاهتمام للكشف عن إمكانات أخرى ■
نُشر في (العربي)