ناظم ناصر القريشي
عندما ينمو الشعر في الحياة، عبر الأشياء اليومية، ويجسد الطبيعة وجمالها الصريح والفصيح، حتما ستكون هناك موسيقى، يرافقها الحضور أجلالاً وابتهاجاً، وسنسمع النغمات على بيانو الكلمات، وستعزفها أصابع الضوء الوضاء في بدايات الفجر وهو يردد ترنيمة الحياة، في حدائق المعنى، فالشعر في مجازه المرهف وانزياحه الشفيف، وإبداعه، هو الاشتقاق الجمالي للطبيعة، والذي نستحضره بالكلمات إلى شكل القصيدة هذا ما دونه الشاعر نضال برقان في ديوان (تحت سماء واحدة) الصادر عن (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2022)، كفكره أولى، وستتدفق بعدها الأفكار فيفتتح ديوانه بقصيدة تحت سماء واحدة، والتي جعلها عنوان لديوانه، فيشير هذا العنوان إلى السماء، على اعتبارها دهشة الوجود الأولى، التي تملأ فضاء الحضور الموجب، علينا أن نصغي للموسيقى وعلينا أن سمع ونرى فالشاعر اسند الموسيقى إلى الريح، والريح هي موسيقى الطبيعة فهل نتسم الموسيقى/ الحياة كل الحياة وهي تمر تحت سماء واحدة، فكل شيء سيبدو جميلاً حين يأتي، في مسافة الزمن، في لحظة مذاقها شعراً، حيث تحضر فكرة تداخل الحواس وتناغمها في توازن متسق، مع الصور الشعرية، كأننا نتذوق طعم الدهشة، بينما تنساب اللغة عميقاً في الجمال عبر تجليات روحيه، فنستمع إلى الشعر ونرى الموسيقى، هذا ما نقرأه في لوحات كاندينسيكي التجريدية ونستمع إليه عند بول كلي بلوحة صوت قديم، فتحت سماء واحدة، هذه اللوحة الأثيرية، التي تترنم على مقام النهاوند، فكأن صوت الموسيقى أزرق بلون السماء التي تعمق الإحساس بهذه الحالة من الصفاء والسكينة، ثم يـأتي الظرف الزماني بينما ليضعنا بين زمانين الزمن الأول ما قبله ثم هو كزمن مطلق في استمراريته، ثم الزمن الآخر أو الذي سيأتي بعده، وهو ضرب من الإيقاع الزمني والمكاني في الوقت ذاته، عبر حضور الإيقاعات الصورية، الممتد في الدهشة والمتحقق في الكلمات فيقول الشاعر:
«بينما تقفينَ في مهبِّ الموسيقى/ على الجانبِ البعيدِ من الكرةِ الأرضيةِ/ تجتاحُ جسدَكِ أمواجُ قشعريرةٍ زرقاء/ وبينما أقفُ على الجانبِ الآخرِ منها/ أمواجُ القشعريرةِ ذاتِها ستضربُ جسدي/ كلما وقفتُ في مهبِّ الموسيقى/ لعلنا لم نلتقِ بعدُ/ وربما لن نلتقي يومًا».
ثم ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى ذكر الأم على اعتبار حضورها موازي لفكرة الطبيعة الأم الكونية وهي الفكرة الأسمى، فالأم واحدة في كل زمان ومكان، لكن المدهش هنا أن تتحول الكلمات والصور الشعرية إلى ارتعاشات على إيقاع الابتهال، لنجد أن هذا المقطع ليس تخاطر بالأفكار أو الحضور الذهني بل هو نص بجمال شفيف موازي لحياتنا جميعا:
«أمّي.. التي لم أحدِّثُـكِ عنها بعدُ/ تستطيعين معرفةَ كلِّ شيءٍ عنها/ إذا نظرتِ إلى أمّكِ/ من خلالِ ثقبٍ في القلبِ/ أو شَرخٍ في جدارِ الروح/ هما شقيقتان../ ولدتهما أمٌّ كونيةٌ واحدة».
وفي المقطع الأخير من القصيدة، يجعلنا الشاعر نتأمل جوهر الحياة تحت تأثير شاعريته بمشاهد تتعاقب وفق رؤية تشكيلية، بكلمات تملكها الشعر، بتكوينات بصرية مكثفه، تأسر الحياة وتماثلها، وتتجلى بها كل معاني، فبين حداء الرعاة في البرية الواسعة وأغاني الفلاحين أثناء الحصاد، وهذا يذكرنا الشاعر بلوحات فان كوخ وهو يرسم الحقول والفلاحين أثناء الحصاد، يتعالى ضجيج الباعة والصناع، ثم أدعية المؤمنين بخشوع مع دوائر الدخان في المبخرة، ثم تتصاعد كلُّ تلكَ الأصواتِ من مختلفِ الجهاتِ، لِتصبحَ أوكسجينا في رئتي الكونِ، تحتَ سماءٍ واحدة:
«حِداءُ الرعاة/ أغاني الحصّادين/ صراخُ الباعةِ والصُـنّاعِ/ أدعيةُ المؤمنين/ نقاشاتُ الملاحدةِ/ كلُّ تلكَ الأصواتِ تتصاعدُ من مختلفِ الجهاتِ/ لِتصبحَ أوكسجينا في رئتي الكونِ/ ذلكَ الذي سيتنفَّـسُ الصُعداءَ/ كلما اطمأن أننا لم نزلْ على قيدِ الأملِ/ ومتشبثين بثوبِ أمّنا.. الحياة/ حتى آخرَ صرخةٍ في عروقِنا/ نحن من هنا.. أنتم من هناك/ وكلنا، دائمًا، تحتَ سماءٍ واحدة».
وفي قصيدة (ماذا لم نرقص سوية إلى الآن…؟) سنجد إن الشعر يتدفق كالموسيقى، في تفاصيل صغيرة، تتشكل فيها لوحات راقصة، لوحة إثر لوحة، تعبر عن ذلك (الآخر) الجميل فينا، فالقصيدة كدعوى لحياة مقبلة وبديل من أجل السلام، فهي ردت فعل لرفض الحروب والعنف والدمار فيقول الشاعر:
«أتذكر ../ يركض النسيم قبل تنفس الصباح/ يوقظ الياسمينة/ يمسك ذراعها كما يمسك شاعر فكرة/ ويدوران/ يموجان تارة ويحلقان أخرى/ يتباعدان تارة ويتعاشقان أخرى/ لا يهدآن/ حتى تستيقظ الأغاني على الشفاه/ والأماني في الصدور».
تقنيا، تتسم القصيدة بجاذبية بصرية ومهارة عالية في حركة الكلمات، وأدائها الديناميكي في حالة التتابع الطبيعي، في مشهديات متتالية من الحب والشغف، تشتمل على عدد من التوافقات والتطابقات لفكرة الرقص، وتكوينها شعرا من حيث الفكرة والحضور والعرض، فالشاعر وظف كلماته على اعتبارها وسائله بصرية مع الموسيقى للتعبير عن حالة الرقص في حالة تحقيق الدعوى اليها، فشغف الشاعر بالموسيقى جعل هذه الفكرة تنضج بالشعر، فيما الكلمات تنتقل من والى الموسيقى وتتوحد معها، متحررة من حضورها البلاغي، وهي الآن تتصل بوجودها الأسمى، إنها لحظات مدهشه، مبهره، غنيه بالمعنى فيقول الشاعر:
«تسعى الغيمة.. والعصفور يسعى/ يقفان مره/ ويركضان أخرى/ يتهامسان مره/ ويتصايحان أخرى/ ويدوران../ حتى يحيلا السماء لوحة/ مليئة بالورود والفراشات/ يحيلا الأرض حكاية خضراء/ ويحيلا الحقيقة/ تلك التي اغتالتها الحرب/ حقيقة من جديد».
وفي قصيدة (لِمنْ تزرعينَ النجومَ في حوضِ النعناع؟)، نقرأ ونتأمل تمثلات الجمال في سيمياء الطبيعة والكون فالعنوان كتدوين موسيقى صوفيه على صفحة الاشتياق، قادمة من الطبيعة، روحانية، وعميقة، تأملية، تتصاعد وتستمر في مضارع حضورها الأخضر اللامع، الذي لا يضاهى، الذي يبدأ ويستمر ولا ينتهي، فهو لوحة تشكيلية، أنتشت تحت تأثير الشعر، بنجومها الفضية ونعنعها الأخضر وسؤالها الذي يلمع في التأويل، وبعد أن تورق سيمياء الطبيعة مع الموسيقى، ونحن نقتفي أثر الاشتياق، يضعنا الشاعر في زمن بيني في مطلقه البعيد في بعده، بافتراضات الغياب بتأويلات الحضور، وكثافة الحلم المرئي كاليقين:
«بينما كنتِ تحزمين حقائب النسيان/ كانت العتمةُ تملأ رئتيها جيدا
بروائح التذكّر/ إيذانا ببَدءِ نوبةٍ جديدةٍ../ من العمل. أيتها البعيدةُ/ أعرفُ أنّكِ/ في مكانٍ ما هناك/ تُغنين للأملِ/ وتُحيكين ملابسَ جديدة للحقيقةِ/ وتزرعين النجومَ في حوضِ النعناع/ أعرفُ أنّكِ كنتِ تودين تقليمَ أظافرِ الحرب/ قبلَ رحيلكِ/ كنتِ تودينَ تنظيفَ البلدِ من روائح الدماءِ/ التي تُراقُ بمجّـانية في كلّ مكان/ كنتِ تودينَ حمايةَ الأطفالِ/ من سُعارِ الطائراتِ الحربيةِ/ وأعرفُ أكثرَ أنّكِ الآنَ لستِ هنا.
والشاعر لا يدعوك الاستسلام لفكرة القصيدة على اعتبارها مرثية فقط، وإنما لموسيقى القصيدة الهادئة والحالمة، بإيقاعاتها الشجية، التي لا تقودك إلى الفقد وإنما إلى قصيدة غزل كونية في حضورها، فيها دعاء ورجاء وتأمل واشتياق
في ديوان (تحت سماء واحدة) قصائد جميلة ورائعة ابتكرها الشاعر نضال برقان، فسنجد في قصيدة (تعشيبٌ في حديقةِ البهجةِ) كيف ينمو العشب في منظور الكلام، وامضاً وإيحائياً وغاية في الإشراق، وفي قصيدة (عيني لا تدمعُ دمي لا يصدأ) سنجد حياة العائلة اليومية و المباركة، وسنجد أن الكلمات وأن تحققت ونمت، تبقي على قيد الحلم، تحققه المرئي، في هذا الطباق البصري،فتحت سماء واحدة، هذه اللوحة الأثيرية، المكثفة والغنية بالدلالات والإيحاءات، والمفتوح على التأويل، توازي العالم وتجاوره، والتي ستظل تمارس تأثيرها الخفي على قصائد الديوان، فشخصية الشاعر نضال برقان المثالية المستمدة من صداقته مع الطبيعة تتجلى في لغة القصيدة ونسقها، فنجده بانسجامه تام في اندماجه شعري وتوهجه الإبداعي المتناغم مع عوالمه الجميلة، وهذه هي قدرت الشاعر السحرية في إيجاد لغة جديدة، في هذا التجريب الجمالي، الذي دون سيمياء الطبيعة على صفحة الشعر.
نُشر في (الدستور الأردنية)
21/7/2023