صورة الساحر في سرديات محمود الرحبي

صورة الساحر في سرديات محمود الرحبي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    خالد علي المعمري

    هل يمكن للسرد أن يبتكر صورة جميلة لشخصية الساحر؟ أم أن الحكاية الشعبية سبقته فرسّخت صورته كيفما أرادت؟
    لقد سبق لي أن كتبتُ مقالة عن الحكاية الشعبية في روايتي (حفلة الموت) لفاطمة الشيدي، و(درب المسحورة) لمحمود الرحبي، وذكرتُ فيها مرجعية حكايات التراث الشعبي في الأعمال السردية، وتحديداً في الروايتين المذكورتين.
    في هذا السياق يلجأ كثيراً كُتّابُ السرد إلى التراث مستلهمين قصصه وحكاياته الشفهية وتوظيفها سرداً متخيّلاً. ولعلّ محمود الرحبي واحد من الكُتّاب الذين اشتغلوا على هذا التوظيف وذلك بإعادة رسم صورة الساحر المتخيلة التي وردت على ألسنة الناس في الثقافة الشعبية إلى النصوص السردية، فنجده منح شخصية الساحر ملامح تمزج بين الخيال ومقاربته للواقع بما يخدم الحدث السردي الذي يدور حوله النص.
    لقد أبرزت رواية (درب المسحورة) صورة الساحر التي رسمها الناس في مخيلتهم وحكاياتهم الشعبية انطلاقاً من توضيح سبب قيامه بأكل لحوم البشر وإنهاء حياتهم بذلك، فهو قائم على كراهيته لهم، كتبتُ عن ذلك قائلاً: “…كما تتفق الروايتان على شخصية الساحر، وترسم له صورة مخيفة، وقبيحة، ومقززة قائمة على التلذذ بأكل الآخر. إنّ اشتهاء الساحر للحم الآخرين هي مرجعية حكائية تناولتها الحكايات العمانية القديمة…”، وكتبتُ أيضا: “إلا أنّ (درب المسحورة) تُظهر صورةً للساحر قائمةً على الكراهية للبشر، فهو لا يتلذّذ بأكل الناس وحسب، بل يُقدّم كراهيته لهم سبباً في انطلاق الفعل، تقول الرواية على لسان الساحر (ص23): “أيها البشر، كم أكرهكم! كم أتمنى زوالكم جميعا! أن تُصهروا في معدتي ومعدات رفاقي. سنسحلكم بسهولة في معداتنا الجافة. ستتحول لحومكم إلى سوائل نقذفها نتنة في الصحراء”. وفي موضع آخر (ص24): “ستتّحدُ كراهيتنا لسلالة القرود هذه”.
    لقد اشتغل السرد كثيرا على هذا الحضور لشخصية الساحر، والذي ربط من خلالها بين الخيال السردي والخيال التراثي؛ نجد ذلك عند الرحبي في غير موضع من كتاباته القصصية. لقد أوجد الرحبي هذه الشخصية من ذاكرة التراث الشعبي وأضفى عليها شيئاً من تدخلات السرد مقيماً علاقة توازٍ بين الحدث السردي والذاكرة الحكائية المتخيّلة في مجتمعنا.
    تلك الشخصية المرعبة والمخيفة، آكلة لحوم البشر والمتلذّذة بعذابهم ونهايتهم، والشخصية المقترنة بالشرّ في رواية (درب المسحورة)، نجد محمود الرحبي يُظهرُ توبتها في قصة (غفلة الساحر)، إذ إنّ كبير سحرة بهلا يُقرّر التوبة من السحر، ولكنه قبل ذلك يقرّر مواجهة عالم السحرة، ويخوض معركة كبيرة مع سحرة نزوى، فـ:” حين قرّر كبير سحرة بهلا أن يتوب، ويهوي بضربة السيف على عنق أسطورة السحر في عمان، كان عليه أن يصل إلى حيلة ليقطع بها الفرضة الموجودة في سوق نزوى، التي يستظل بها ضحايا السحرة هناك، حيث تتم المزايدة عليهم قبل سحبهم تحت الستارة التي تُخفي بهجة الضيافة والأكل، ليصنعوا بهم ما يشاءون من خوارق. ولأن تلك الغرفة لا يمكن قطعها إلا بيد أصحابها، فإن مشقة البحث عن حيلة أخذت وقتا طويلاً في رأسه. ومثل هذه المعارك كانت معروفة بين الطرفين، وإتيان الخروقات في التعامل مع الضحية، حتى أنّ سوقي المدينتين كانا مثار العجائب في مسخها وإبادتها، فحين يأتي سحرة نزوى بفعل خارق في ضحية ما، وتنتشر بين الناس، فإن سحرة بهلا لابد وأن يظهروا بخارقة أكبر، وتستمر اللعبة وفي ميدان الضحية وحدها، دون أن يطال السحرة شيء منها، وحين قرّر كبير السحرة في بهلا التوبة، والامتناع عن أكل لحوم الناس والعبث بأرواحهم كان ذلك بمثابة فتح شرخ عميق، وسابقة مهّدت تصدع وذوبان صناعة السحر في عمان”.
    هنا تبدأ القصة بفعل التوبة وهو فاتحة الأحداث، ومعها يدخل الراوي إلى عوالم الحكايات الشعبية واستنطاقها للتأكيد على واقعية الفعل؛ لقد أوجدت القصة مكانين مختلفين لصناعة السحر في عمان (بهلا، ونزوى) وذلك بالعودة إلى الحكايات القديمة حول البلدتين في هذا الموضوع، كذلك أوجدت قيمة كبرى لعالم السحر بوجود كبار السحرة وتلاميذهم وهو ما يمكن وصفه بالمدارس التعليمية لهذه الصناعة، كذلك أوجدت المواضع التي يُصنع فعل السحر فيها وهي الأسواق التي هي مواضع البيع والشراء ويدخل ضمنها بيع وشراء المسحورين، كل ذلك عمدت القصة إلى إظهاره لإقامة جانب واقعي/ سردي مقترن بالجانب التخيلي/ الموروث الحكائي، فما الحيلة التي اخترعتها القصة لانتقال الأحداث إلى نهايتها؟
    إن انتقال الأحداث وتصاعدها جانب مهم في القصة خاصة مع الخيالي والغرائبي من الأحداث، وهنا يصعد الراوي بالأحداث حاملاً القارئ على أخيلة الغرائبي، فكان على كبير سحرة بهلا أن يدخل سوق نزوى متخفياً لممارسة قوته، وإظهار مهاراته في عالم السحر وصولا لما يريده من قطع الفرضة التي هي محور الشر في الكون. هنا يظهر الصراع محتدماً بين كبيري السحرة في البلدتين، وهو صراع كان محتدما في السابق بحكم السحر، وامتدّ الآن لإنهائه. نقرأ في غرائبية الأحداث وتصاعدها والتصادم بين الشخصيتين الأمهر في عالم السحر من خلال الأحداث الآتية: “كانت فعلة كبير السحرة هي أن يتحول إلى ضحية، ويذهب إلى تلك الفرضة، وحين دخل المدينة لم يتعرف عليه أحد من نزوى، حيث بدا ملثّما وفي لباس البدو وعيناه تشعان بالحذر، وحين اقترب من تلك الفرضة، وجد فناء واسعا تتوسطه حصيرة سعفية يتوسطها مسن تمر ودلة قهوة وإناء، تعوم في مائه ثلاثة فناجين مثلومة الحواف”.
    يرتفع عنصر التشويق في سرد الأحداث الغرائبية وغير المتوقعة إلا في حكاياتها الشعبية: “اقترب من الظل بحذر وثنى ركبتيه ثم مد يمينه على الصحن وعيناه تدوران في محجريهما دون توقف، آنذاك اقتربت أربعة ظلال من خلف جدار طيني قرب الفرضة، كانت تظهر أعناقها في الأرض الرطبة وهي تتلوى وتهمس في جدل صامت، وكبير السحرة يراقب بتلك العينين الساطعتين ما يدور في ذلك الخفاء.
    وحين انزاح أحد الظلال من مجموعته مقتربا، عرف بأنه الساحر، وحين ظهر بملامحه، أخفى كبير السحرة عينيه ملتهيا بهز القطرة الأخيرة في فنجان القهوة، ثم رفعها دفعة واحدة إلى حلقه وفي هذه اللحظة اصطدمت عيناه بعيني الرجل القادم، فتفرس في هيئته فبادله الآخر النظرة فارجا أساريره بخبث وهو يشرب. حياه كبير السحرة واقفا، ثم أجلسه بجانبه، ودار بينهما حديث طويل، قبل أن يقترح القادم ضيافته للعشاء في بيته.
    وتظهر لعبة الساحرين وقوتهما وبراعتهما في بيت كبير سحرة نزوى، وهنا تصل الشخصيات بالقارئ إلى ذروة الإمعان والتفكر في سماتها الخارقة، نجد الخوارق الناشئة على يديهما والتي تشير إلى قوتهما الخارقة في تحويل الأشياء، والاستفادة منها خيراً أو شراً، نقرأ ذلك مثلا في المشهد الآتي: “بقي كبير السحرة وشفتاه تتراقصان بتمتمات متسارعة وعيناه تتفحصان ما يضيئه مدخل الغرفة على أشيائها، حيث ظهر النصف العلوي لسلاح قديم، وصفحة من (جزء عم) محشورة في جرف، وكتب داكنة، وخيط عنكبوت بدأ يرتعش، وفي الأرض ظهر الجزء الأمامي لحصيرة السعف، وفي دائرة القنديل بدأت تحوم بعض الحشرات الضعيفة إلى أن بددتها خطوات صاحب البيت الذي أقبل وفي يده إناء من المرق وضعه بصمت ثم اختفى، تزايدت تمتمات كبير السحرة ثم أغمض عينيه وفتحهما على الإناء الذي ارتفع مثلما تسحبها خيوط خفية ليلتصق منقلبا على السقف وصفحة المرق تتلألأ منه دون أن تسقط. دخل صاحب الدار وفي يده صحن من الخبز، وحين سأل عن إناء المرق أشار اليه كبير السحرة بعينيه الجاحظتين إلى السقف، والتمتمات تهتاج من بين شفتيه دون صوت فباغتته هالة من الذعر، لكنه تراجع إلى شق متآكل في جدار الغرفة، ومن كيس هناك أخرج حفنة من الرماد ونثرها في جسد الضيف الذي تحول في لحظات إلى (دِبِيّة) وحين تَقَدَّم صاحب البيت ليطأها رأى جسده يتحول إلى (قاشعة) ويرتفع محمولا بين شفتي الحشرة إلى بهلا. خرجت الدبية خفيفة من الباب، وطارت مرتفعة فوق النخيل والكثبان، مسافات طويلة وحبة القاشع في فمها”.
    إن صراع السحرة في المشهد السابق قدّم صورة عن الخوارق التي يمتلكها الساحر في المخيال الشعبي وحكاياته. لقد استطاع السرد الانفتاح على الثقافة الشعبية واستحضار حكاياتها وإعادة تطويرها وتقديمها في الكتابة السردية بما يضمن الامتزاج بين الموروث القديم والسرد الفني.
    أخيرا يمكن أن نقف على نموذج آخر مختلف عند محمود الرحبي يظهر فيه الساحر بهيئته الشريرة الراغبة في الانتقام، نقرأ قصة (حكاية الأمير وقمر الكتاب) في مجموعة (ساعة زوال، 2011م) التي تحكي قصةً تحيلنا في طريقة سردها على قصص التراث القديم كألف ليلة وليلة مثلا، الذي جاء ظهور الساحر بسيطاً في آخر القصة، انفتحت معه فكرة القصة وصولاً إلى الأميرة التي حبسها الساحر في كتاب لأنها رفضت الزواج به وظلّت تصرخ على الأمير لإنقاذها حتى توصل إلى مكانها.
    تدور أحداث القصة في عالم متخيل، وشخوص تقليديين أشبه بقصص التراث كما ذكرت، وفي طريقة السرد التقليدية البسيطة التي تقدّم شخصياتها بكل بساطة. فكان لوجود الساحر في نهاية الأحداث دلالات اقتضتها الحكاية، وربطها بقرائن في القصة (الصوت المتكرر في المنام، المغارة، الكتاب القديم، العنكبوت، خيوط قديمة) كلها دلالات أراد الراوي من إقحامها في القصة محاولة تغليف السرد بجو من القلق والرعب. ومع أنّ شخصية الساحر هنا بسيطة لا وجود بارز لها كما هو الحال في قصص أخرى، فإنّ السرد عبّر لنا أن للساحر صورة سوداء خارقة مرتبطة بالذهن البشري، فها هو الساحر يلجأ للحيلة في حبسه للأميرة في كتاب في مغامرة لفترة طويلة. إذن فنحن على اعتقاد مسبق أنها الصورة الأوحد للساحر، الصورة التي ترسّخت لدينا من خلال حكاياتنا عن بشاعة الوصف للساحر. إنها صورة متخيلة وكفى.

     

    جريدة عمان
    الثلاثاء 26|12|2023