الهواري غزالي – شاعر وباحث جزائري
لماذا تثيرنا صورة جزيرة الفحل في كتابات سيف الرَّحبي أكثر منها في ذلك الموج المتلاطم ببحر عمان؟ في الصَّفحة 34 من كتابه الأخير “عاصفةٌ على جناح متعب”، يترقَّبُ سيف وهو يطلُّ على ساحل مسقط “جزيرةَ الفحل” التي يصفها كما لو أنَّها حوت سندباد؛ فيقول : ذلك الحوتُ الخرافيُّ الذي ارتاحَ على ظهرهِ المنبسطِ السندبادُ البحريُّ بعد رحلته الطَّويلة، ليس إلّا جبلَ (الفحل) الذي أراه اللَّحظةَ أمامي شاخصًا وسطَ غضبِ الموجِ ببحرِ عُمانَ المرتطمِ بالحوافّ والآفاقِ الفسيحة والضَّباب.
وجزيرة الفحل التي تسمَّى أيضا بجزيرة القرش عبارة عن جبل وسط البحر. تتكوَّن صخوره من الحجر الجيري الذي رسى خلال العصر الإيوسيني، أي قبل يومنا هذا بما يقارب 35 إلى 55 مليون سنة. وكما برزت على ساحل سلطنة عمان العديد من الجزر التي تقدَّر بمائتين وتسعين جزيرة، ظهرت جزيرة الفحل على السَّطح تحت تأثير الصَّفائح التَّكتونية المتحرِّكة على الدَّوام بباطن الأرض، لاسيما بعد تراجع مستوى سطح البحر وانحسار مياهه عمَّا كانت عليه في السَّابق. ولا تزال هذه الجزيرة توفِّر حتَّى الآن ملاذاً لكثيرٍ من الكائنات البحرية كالصَّدفيات والمرجانيات والطَّحالب وغيرها من أنواع الأسماك، ولذلك، فهي تُعتبر محميَّةً طبيعيَّةً تستوجبُ زيارتُها تصريحاً.
ولقد منحت هذه الجزيرةُ سيفَ الرَّحبي فرصة التَّعبير عن أملٍ يحذو بنفسه لمعانقة حياةٍ خضراء، ففي نصٍّ أخرٍ مقتطف من أعماله الكاملة، يصفها بالصَّخرة ذات الدُّكنة السَّوداء واللَّون الحادِّ والتي تطوي داخلها أزمانًا وأجيالًا كثيرة، لكنَّه تمنَّاها لو كانت خضراء مثل جبال بحر الصِّين الجنوبي. ففي عمق (هذا) البحر، يقول سيف: أنظر إلى صخرة ضخمة بحجم جبل الفحل في عُمان. لكنها تختلف عن الجبل العتيد في كونها مغطَّاة بالأشجار والنَّباتات الاستوائية بالكامل حتى لا تبدو جزيرة صغيرة وسط البحر الأصفر المتلاطم. / تمنَّيت لو بين ليلة وأخرى، يصبح جبل الفحل على المنوال نفسه مُحتلاً من فيالق الطَّبيعة الخصبة الخضراء، رغم تعوّدي – حدَّ الإدمان – دكنته الصَّخرية التي استعارها من طبيعة الأزل وألوانه الحادَّة التي تكدّست على أديمه الأزمان والأجيال. ( الأعمال الكاملة : 3- 106).
في التَّوظيف الأخير للفحل، سيفاجؤنا سيف باستنطاق مراحل تكوُّنه الحيَّة التي جعلت منه حوتا قبل أن يُمسخَ في شكلِ حجرٍ وسط البحر، وسيضطرُّ نا هذا التَّوظيف لطرح السُّؤال ههنا: لمَ هذا التَّوجه في اختيار الحوت للتَّعبير عن التَّحوُّلات ؟
عندما اِلتَمَسْتُ من سيف الرَّحبي مرافقته إيَّاي لقرية سرور بسمائل، وارتَضيتُ في خضم نشاطات معرض مسقط الدُّولي للكتاب لعام 2023 أن يكون هذا السَّفرُ وجيزًا، أدركت بعدها أنَّي ارتكبت خطأً كبيرًا باستعجالي العودة مساءً، فالبقاء بسرور ساعاتٍ من الزَّمان يشبه ارتشاف الرُّوح لقطعةٍ من الموسيقى قبل أن يعبُر الأذنَ سريعًا رنينُها ثمَّ لا يتركُ للذَّاكرة منها شيئًا إلَّا إيقاعَها الفتَّان.
جاء سيف ضحًى وعزمنا الذَّهاب إذَّاك لسرور، وقطعنا تلك الصَّحارى المهيبة حيثُ الجبال واعدةٌ بالقطيعة مع الحياة، ووصلنا كما يصل بحَّار إلى مرفإ تتَّكيءُ عليه -وهي في زورقها المتهادي- ذاكرةُ شاعرٍ مجروح.
في تلك الواحة حيثُ يتجلَّى تناقض الطَّبيعة، بين جبالٍ جرداء قاحلة ومرعبة تعتلي العين في اغتصابٍ لها وبين أراضٍ خصبةٍ خضراء وساكنة في انخفاضٍ للقدمِ إليها وتواضعٍ، يبدو الإيمان بالباطنِ أكثر ضرورةً للحدس والعقل والنَّفس من الاعتقاد بالظَّاهر، واعتناقُ البسيطة أولى درجةً من الكفرِ بالكبرياء. وها هي عيني تسقطُ على جداول ماءٍ رقراقٍ نابعٍ من تلك الجبال ومنسابٍ بين الحقول في أفجاجٍ متوازيةٍ ومتوازنةٍ، تسبحُ فيها أسماكٌ لا أدري من أين جاءت وإلى أين تذهب.
شكَّلت لي هذه الصُّورة صدمة حقيقيَّة أمام الطَّبيعة، فكيف لأسماك أن تسبح بجداول ماء في أكثر المناطق صمودًا أمام الجحيم؛ أسماكٌ لم تعرف البحر، تكون قد نزلت مع الوديان من الجبال، أو خرجت من الحجر كالماء.
في هذه اللَّحظة، تشكَّلت لديَّ نزعةٌ دفعت اعتقادي قدما في اعتبار السَّمكة كائنًا صحراويًّا بحتًا، لا كما تراه علوم الطَّبيعة البحريَّة جزءًا من الأنهر والبحار.
يعود سيف الرَّحبي إلى هذه الكائنات والمخلوقات ليصنع منها رموزًا ويمنحها دلالاتٍ، كما هو الحال في المقطع الشِّعري المعني بالتَّحليل حيثُ يُصرِّحُ أوَّلا أنَّ الحوت خرافيٌّ، فذكره على أساس كونه جزءًا ممَّا دار من أحداثٍ في حكايات سندباد. وفي الواقع، فإنَّ نقل نصِّ الحكاية سيكون مفيدًا لفهم حركيَّة التَّخييل عند سيف الرَّحبي ولتذكير القاريء بها. تقول الحكاية على لسان سندباد : “وَبَيْنَما نَحْنُ سَائِرُونَ فِي عُرَضِ الْبَحْرِ، إِذْ لَاحَتْ لَنَا جَزِيرَةٌ صَغِيرَةٌ مُرْتَفِعَةٌ عَنْ سَطْحِ الْمَاءِ فَاقْتَرَبْنَا مِنْهَا، وَنَزَلَ بِهَا بَعْضُ التُّجَّارِ — وَنَزَلْتُ مَعَهُمْ — وَبَقِينَا عَلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ زَمَنًا وَنَحْنُ نَلْهُو وَنَلْعَبُ حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الْغَدَاءِ، فَأَتَيْنَا بِخُشُبٍ مِنَ السَّفِينَةِ وَأَوْقَدْنَا بِهَا النَّارَ لِنَطْبُخَ عَلَيْهَا طَعَامَنَا، وَلَمْ نَكَدْ نُوقِدُ النَّارَ حَتَّى اهْتَزَّتْ بِنَا الْجَزِيرَةُ اهْتِزَازًا عَنِيفًا، فَصَرَخْنَا مِنَ الْفَزَعِ وَالرُّعْبِ وَصَاحَ بِنَا رُبَّانُ السَّفِينَةِ: «اُنْجُوا بِأَنْفُسِكُمْ قَبْلَ أنْ يَحُلَّ بِكُمُ الْهَلَاكُ!». وَلَمْ يَكَدْ يُتِمُّ قَوْلَهُ حَتَّى غَاصَتِ الْجَزِيرَةُ كُلُّهَا فِي الْبَحْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَأَسْرَعَ إِلَى السَّفِينَةِ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا فَنَجَا وَغَرِقَ الْبَاقُونَ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ جَزِيرَةً — كَمَا حَسِبْنَا — بَلْ حُوتًا هَائِلًا مِنْ حِيتَانِ الْبَحْرِ كَانَ نَائِمًا عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَوْقَدْنَا عَلَيْهِ النَّارَ أَحَسَّ الْحَرَارَةَ فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَغَاصَ فِي الْبَحْرِ، فَنَجَا مَنْ نَجَا وَغَرِقَ مَنْ غَرِقَ.”
تؤكِّدُ هذه الحكاية في الواقع هامشًا أساسيًّا يفيدنا باطِّلاع سيف على أحداثها، وهو ما يعني حقيقةً أنَّه يريد بشكلٍ ما توطيد أسطوريَّة سندباد وربطها من خلال الفحل بساحل عمان مجدَّدًا.
ولقد تردَّد صدى الحوت الخرافي في أكثر من موضعٍ، فبينما يشير به إلى فكرة الضَّياع في قوله : حيثُ السُّلالاتُ أضاعتْ خاتَمَها / في بطنِ حوت. الأعمال النَّاجزة : 1-246، أو إلى الغرق بارتكاب المدن للخطايا في قوله : مدينةُ الكوابيسِ والرَّمادِ / مدينةُ الغرقى والجذامِ / أيُّ خطيئةٍ تميدُ منها الجبالُ / كي يبتلعَكِ الحوتُ الخرافيُّ / وتعيشي هكذا، / البشرُ في تجويفكٍ المتقيّئ / وأنتِ في بطنِ الحوتِ؟ الأعمال النَّاجزة : 2-102، أو إلى فكرة الغريب المخذول، فيقول : يعودُ الغريبُ / إلى ديارِ أسلافِهِ الأولى / بعد طولِ غيابٍ / منذ الخطوةِ الأولى / يتنفسُ هواءً مسموماً / وأحقاداً قديمةً / يودُّ لو لم يعدْ / لو دهستْهُ شاحنةٌ / أو ابتلعتْهُ الأفعى المجنّحةُ ذاتُ الأجراسِ / وربما حلَمَ بالحوتِ الخُرافيِّ / كما في الحكاياتِ. الأعمال النَّاجزة : 3 -145، فإنَّ أهمَّ ما يثير انتباهَنا هو استخدامه الرُّموز الكيميائيَّة، فالحوت الخرافيُّ والأفعى المجنّحةُ ذاتُ الأجراسِ والتي يُقصَدُ بها التِّنِّين إنَّما هي منافذُ حقيقيَّةٌ لتبيُّن المعاني العميقة للنَّص.
لكنَّ الأهمَّ من كلِّ هذا يكمن في محاولته إعادة الحوت إلى سيرته الأولى، هيئته التي كان عليها. ولعلَّ استخدامنا هذه العبارة “السِّيرة الأولى” يشير بما لا شكَّ فيه إلى قصَّة موسى بالوادي المقدَّس، وهي قصَّة توحي بتحوُّل العصا إلى حيَّة وعودتها مجدَّدًا إلى حالتها الأولى، بما يجعلنا نفكِّر حقًّا في عمليَّة تحوُّل جامدٍ إلى حيٍّ وعكسه. ولهذا يقول الشَّاعر الأندلسيّ بن أرفع رأس:
وَأَعْجَبُ مِنْ أحْوَالِهَا تلكَ، عَوْدُهَا | إلى حَالِهَا بَدْءًا إذَا مُلِكَتْ ضَبْطَا | |
فَما السِّرُّ فِي حُوتٍ حَيَا بعْدَ مَوتِهِ | وَشَقَّ سَبِيلَ البَحْرِ والمَوْجُ قدْ غَطَّا |
وبتدقيق النَّظر لفهم المشتركات السَّرديَّة بين موسى وسندباد، سنجد أنفسنا مضطرِّين في اعتبار النَّارَ هي المحرِّك الوجودي بينهما، فبينما يكلِّم الله موسى في شكلِ نار بالوادي المقدَّس وهو محوِّل العصا إلى حيَّة، فإنَّ النَّار التي أشعلها سندباد هي من حوَّلت الحجر إلى حوت.
وإذا كانت النَّار غير مذكورة في مقطع سيف الرَّحبي، فإنَّ وجودَها هو ما توحي به مفردة الضَّباب التي تشير إلى حرارة الماء في مقابل برودة الجوِّ. فإنَّ النَّار -كما يقول الشَّاعر والكيميائيُّ مؤيِّد الدِّين الطُّغرائي في كتابه : “نهايةُ الطَّلب في شرح المكتسب”- إنَّما هي التي يظهر جسمُها للعيان بغير واسطة، ويظهر منها شيءٌ لطيفٌ متحرِّكٌ نورانيٌّ متحيِّزٌ في الفضاء، أمَّا الحرارة والبرودة فإنَّهما مخفيان بالعيان محسوسان بالأثر، وهذا الأثر هو ما نتلمَّسُهُ حصرًا في مفردة الضَّباب.
ولعلَّه من المفيد جدًّا قبل أن نتحدَّث عن تدخُّل الحرارةِ أو عن عدمِ تدخُّلِها لتحويل الحوت مرَّةً أخرى إلى حجر، أن نتكشَّف الرَّمز الكيميائيَّ للحوت لنفهم حقيقةً معناه عند سيف الرَّحبي. فالحوتُ عند الكيميائيِّين هو الآخر يظمَأ معدنًا تحت فعل الحرارة، ضمن تلك السَّيرورة العمليَّة للتَّحويل، وها هو الطُّغرائيّ يقول : كَالحُوتِ لَا يَرْوِيهِ شَيْءٌ يَلْقَمُهْ،/ يُصِبحُ ظَمْآنًا، وَفِي البَحْرِ فَمُهْ.
إنَّ للحجر، في التَّقليد الاسلامي، علاقةً وطيدةً بالحوت. فهذا الأخير يسمَّى بالنُّون، وقد خلقه الله ليبسط الأرض على ظهره. ويظهرُ الحوت قرآنيًّا في قصَّة يونس الذي قضى أيَّامًا في بطنه، وهو يرمز إلى دخول الانسان فترة من الظلام، كأنَّها وسطٌ بين حالتين من الوجود بحسب تعبير رونيه غينون؛ بين الموت والبعث، هذه التي تصفها التقاليد الإسلامية بالولادة الجديدة. ويظهر الحوت أيضًا في قصة موسى، الذي حمل معه سمكة بحثًا منه عن مجمع البحرين، وفي نقطة التَّقاطع هذه واتِّحاد التناقضات، وبينما هو تحت ظلِّ صخرة، كما تروي سورةُ الكهف ذلك، استلقى لينام، فتضرَّب الحوتُ حينها وموسى لايزال نائمًا، فأحجم الفتى -وهو الذي كان يرافقه- عن إيقاظه، لكنَّه لما استيقظ، نسي إخبارَه بذلك. وتقول سورة الكهف إنَّهما انطلقا حتى إذا كان من الغد، قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَباً، أي تعبَا فقال له الفتى : أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. ويعتقد المفسرون أنَّه لمَّا استدرك النِّسيان وعاد إلى موضع الصَّخرة، وجد الحوت قد تركَ أثَرًا فارغاً، فمشى موسى عليه، حتى أفضى به الطَّريق إلى جزيرة في البحر وهي التي وجد عليها الخضر.
تفيد تحليلاتُنا حتَّى الآن لاسيما من خلال اعتمادنا المرجعية العربيَّة للثَّقافة أنَّ التَّحوُّلات تكاد تتَّفق معًا في أنَّ الحوت والصَّخرة لا تنطويان على معنى قرآنيٍّ من خلال سورة الكهف أوسرديٍّ من خلال قصَّة سندباد فحسب، وإنَّما أيضًا على معنَى شعريٍّ من خلال إعادة توظيفهما ضمنيًّا في كتابة شعريَّة.
وإذا كانت الصَّخرة قد أفضت بتتبُّعِ موسى أثر الحوت إلى جزيرة الخضر، وهو رمز المعرفة الباطنة، فإنَّ جزيرة الفحل، وبرصدنا إيَّاها لكونها تحوُّلٌ أساسيٌّ للحوت، قد تعبِّر هي الأخرى عن حجر المعرفة البعيد، أو الحجر الأوَّل الذي تمخَّض بفضل النَّار عن حوتٍ. فلماذا يعتقد سيف أنَّ جبل الفحل هو الصُّورة الأخيرة التي اكتملت فيها تحوُّلات الحوت؟
يمثِّل البحر بالنِّسبة للكيميائيِّين اللَّاوعي، أمَّا الحوت، فيمثِّلُ رمزًا للذَّات، وأحيانًا رمزًا للَّه. وإذا قدَّرنا شرحًا للذَّات، فإنَّ ذلك سينطبق رمزًا على حوت سيف الرَّحبي نفسه. وفي بحر عمان، سيكون غوص الحوت في اللَّاوعي، أين سيتواجهان هو وسيف الرَّحبي معًا في محاولةٍ للتَّخلُّصِ من ماضٍ جماعيٍّ قديم. ولشرح ذلك، سنستعين بعمل الكيميائيِّين الذي ينقسم إلى أربعة أقسام: التَّصفير والتَّحميرُ والتَّسويدُ والتَّبييض، ونجد هذه المراحل -التي أعاد طرحها عالم النَّفس السَّويسري كارل يونج بطريقة مختلفة نوعًا ما- واضحةً في قول الشَّاعر الأندلسيِّ بن ارفع رأس:
وَتَسْوِيدُهُ بَعْدَ احْمِرَارِ اصْفِرَارِهِ، | وَتَخْلِيصُهُ فِي سَبْكِهِ مِنْ غَثَائِهِ | |
وَتَبْيِيضُهُ بالمِلْحِ فَهْوَ غِذَاؤهُ، | وَلاَ بُدَّ في تَدْبِيرِهِ مِنْ غِدَائهِ | |
إلَى أنْ تَرَاهُ مِنْ صَفَاءٍ وَرِقَّةٍ، | كَمَاءِ النَّدى في لَوْنِهِ وَصَفَائِهِ |
فأيُّ عمل كيميائي لا يتم إلَّا بتحقيق هذه المراحل في بوتقة محكمة الإغلاق تسمى التَّنُّور، وداخل التَّنُّور، سيُقْبِل الانسان على سفرٍ كيميائيٍّ يعاين فيها أولَّاً ذاتَه، يلتقي بظلِّها، ويتعلَّم كيف يتعايش مع هذا الجانب من نفسه الذي غالبًا ما يكون مرعبًا. يصطلِحُ الكيميائيُّون العرب عليه بالتَّصفير (هو التَّسويد عند كارل يونغ)، وهو دخول الانسان حدود ظلِّه أين يكون بمقدوره الاعلان عن كونه غريبا، لا هو هو، ولا هو ما يراه عليه الآخرون.
في هذه المواجهة، يكون عليه أن يتجرَّد من نفسه التي تدعوه للتَّألُّق الدَّائم، فتولد حالةٌ من الارتباك النَّفسي والاضطراب، وتفرز نوعا من ضرورة التَّغيير؛ نوعًا من الصَّحوة الذاتيَّة التي تشكِّلها النَّارُ المشتعلة. هذه النَّار، هي التي تجلَّت في سبب تحرُّكِ الحوت الخرافي عند سندباد، وهو ما يشكِّل وعيًا جمعيًّا لذات عربيَّة متسائلة في الوقت الرَّاهن، في مجابهة لظلِّها الآخر، الذي تتصارع معه على الدَّوام.
أمَّا المرحلة الثَّانية فتسمَّى بمرحلة التَّطهير، أو التَّحمير (هي التَّبييض عند كارل يونغ)، وهي مرحلة تتناسب مع تكوين يهدف إلى ترشيد الدَّوافع الغريزية والابتعاد عن المركزيَّة الذاتيَّة. في هذه المرحلة، يتغير الفرد كثيرًا: فهو لن يعود إلى إطلاق الأحكام على الآخرين، بل سيصبح أكثر تفهمًا، وأكثر أخوية. إنَّه سيتَّجه حقًّا نحو العمق إنْ كان في السَّابق سطحيا، ويصبح أكثر حياديَّةً إنْ كان في السَّابق تحيُّزيًّا. لقد أقامت ذاتُه كلًّا من الخير والشَّرِّ معًا على النِّصاب والمنظور الصَّحيحين، فأيُّ خطَإٍ يُرتكبُ في حقِّ الآخر لن يعدَّ إلا على أساس كونه خطأ شخصيًّا. تبدأ الرُّوح، بهذه المرحلة، في الانجذاب حول مركز جديد خارج مركز الذَّات. في هذه المرحلة، يتَّجه الحوتُ نحو عمق البحر، خارج تلك الذَّات التي ركَنَت لسنوات أو لقرون حتَّى تحوَّلت إلى بسيطة تعيشُ عليها كائنات الجزر والبحار. سيمرُّ الحوت بالمرحلة الحمراء، حيث سيدفعُهُ غضبُهُ النَّاتجُ عن هذا الصِّراع إلى اِلتِهام أشخاصٍ سرعان ما يلفظهم في حالةِ بحثٍ عن معنى آخر وحقيقي لذاته الجديدة.
أمَّا مرحلة التَّسويد وهي الثَّالثة (هي التَّصفير عند كارل يونغ)، فهي تتيح لنا أن ندرك العناصر الأوَّليَّة التي لا تزال في اللَّاوعي الجماعي، فيتمُّ نقل القيم من مستواها البيولوجي إلى مستواها الرُّوحي، فالحبُّ كمثال هو وعيٌ ينتقل تدريجيًّا من كونه اختبارًا مطلقًا للعاطفة بعد أن كان طاقةً مرتبطةً بالجسد.
إنَّ الحوت في هذه المرحلة سيقعُ بين كونه حيًّا إلى صيرورته جامدًا، وسيفقد شيئا فشيئًا طابعهُ الحيوانيِ ليصيرَ ذا طابعٍ روحانيٍّ، كما هو حال حوت موسى الذي كان دليله نحو الخضر، فكأنَّه انقلب إلى جزيرةٍ وقف عليها الخضرُ في انتظار صاحبه موسى. إنَّ هذا الحوت الرُّوحاني سيبدو حتمًا وهو وسط البحر أمام سواحل عمان كأنَّه معبود الكائنات البحريَّة وبيت الحوريَّات وعزلة يشتهي الشُّعراء نديمًا من ندامى الأفكار فيها.
لاحظ يونج تطوُّرًا في الصُّور الرَّمزية التي تمثِّل هذه المرحلة، وفقًا لأربع درجات يفقد بها -عبرَ الزَّمن- عاملُ الجنس قوَّتَه لصالح انبهاره أمام التَّطلعات الفنيَّة أو الفكريَّة أو الروحيَّة للانسان. فالرَّجل يصنِّف المرأة على درجات أربع تنتقل بينها تدريجيًّا: من المرأة الغريزيَّة ذات الطَّابع الجنسي القويَّ، إلى الرُّومانسيَّة المشحونة جماليا وحيث الإثارة الجنسيَّة تمتدُّ إلى صورتها الأنثوية بأكملها، ثمَّ إلى المبجَّلة حيثُ يتمُّ استبعاد الجنس ثم إلى كونها إلهيَّة كأثينا، تسطع بالحكمة. أمَّا بالنِّسبة للمرأة، فالذكوريَّة تبدأ في شكلها البرِّي المتوحِّش، حيث تتجسَّد القوَّة البدنيَّة والجنسيَّة معًا، ثمَّ الرُّومانسيَّة حيثُ يُفسح المجال أمام الإعجاب بنبل الإحساس أو الشَّجاعة، ثمَّ يتَّجه الاحساس نحو من يملك الجرأة على اتِّخاذ القرار، نحو ذلك الزَّعيم السِّياسيّ أو الدِّيني، ثمَّ نحو أولئك الذي يملكون القدرة على ملامسة حدود الكون فهمًا بفضل الذَّكاء الفلسفي، وهم العظماء والفلاسفة والمفكِّرون.
تُسمَّى المرحلة الأخيرة بمرحلة التَّبييض (بالنِّسبة لكارل يونغ هي التَّحمير)، وهي تتمتَّعُ بالسُّطوع والقوَّة. ومن وجهة نظر نفسية، فلحظة التَّحوُّل الأخيرة ليست لحظة يفقد فيها الأنا مكانته المركزية نهائيًّا، لصالح الذَّات، بل يمكن للمرء البدء في تجربة تحقيق الذات تحقيقًا كليًّا، يكون بمقدورها الاكتمال. إنَّها إعادة تأسيس الشَّخصية التي يسمِّيها المتصوِّفة بالانسان الكامل، أو السَّعيد، أو بالحالة الذَّهبيَّة، وذلك، أنَّ الذَّات في مواجهة الآخر، ستسمح لها القوى المنبثقة منها جديدًا بالسباحة ضد تيار القيم الجماعية، ستشعُّ ذاتُه، وسترفض الفساد تمامًا مثل الذَّهب. لقد تغير موقعها في الكون بشكل جذري، ومركز ثقلها الجديد سيجعلها تعيش في أخوَّة غامضة مع الحيوانات والآلهات والسُّدُم والنُّجوم، دون إعجاب أو استنكار أو فخر. ويطلق يونغ على هذه الذات في هذه المرحلة عبارة “إنَّ لله بداخلنا”، أو “إنَّ الله معنا”.
ستتجلَّى علامات تلك القدرة المطلقة للذَّات في تقديم أوصافٍ كتلك التي نجدها مبعثرةً في شعر سيف الرَّحبي : النُّسور العملاقة، الحيتان، البراكين، الشَّموس، الأيائل، الأزمنة السَّحيقة، نهايات العالم، إنَّها تعبيرٌ خالصٌ عن مواجهة الشَّاعر للقوة الموجودة داخله. لذلك، فإنَّ جزيرة الفحل المتحوِّلة عن الحوت، والمحاطة بغضب الموجِ ببحرِ عمانَ المرتطم بالحوافّ والآفاق الفسيحة والضَّباب ليست سوى القدرة المطلقة لتلك الذَّات التي سمحت أخيرا للشَّاعر بالوقوف في مواجهةٍ أمام الوعي الجماعي.
وقبل أن نختم المقال في الأخير، بودِّنا إدراج صورة الحوت في تمثيلات الكتابة الهرمسيَّة التي يعتمدها الكيميائيُّون، وقد ذكرها بن وحشيَّة النبطي في كتابه شوقُ المستهام في معرفة رموز الأقلام، وتظهر صورة الحوت في شكل جبلٍ.
إنَّ المراحل الأربعة التي ساعدت الحوت على تحوُّله إلى ذلك، ليست عمليَّة خاصَّةً بالشَّاعر وحده، وإنَّما تكون قد بدأت استعارةً عند الشَّاعر منذ عصور ركوبِ الأرض ظهر النُّون، وعصور موسى والخضر، وسندباد والحوت، ولقد أقرَّ الشَّاعر ذلك في مناسباتٍ عدَّة من نصوصه الشِّعريَّة. إنَّما الذي توقَّف على الشَّاعر دون غيره، هو استبدالُه جزيرة الخضر (العقل الباطني) بجزيرة الفحل. ولذلك، فإنَّ الفحل (اِسمًا وصورةً) سيكون حقًّا هو الصُّورة النِّهائيَّة التي وصل إليها البطل الشِّعري بعد سنواتٍ طويلةٍ من مقاومته الباطنيَّة لظلِّ الذَّات ومرادفاتها من العالم الخارجي المقيت. إنَّه خروج صاعدٌ نحو أرقى طبقات المعدنِ الذي لا يمكن أن يتمثَّل إلا في الذَّهبِ صورةً وفي الخضرِ تهيُّؤًا وفي الفحولةِ وجودًا.
نُشر في (الناشر الأسبوعي) العدد 62 2023