“الرأي”
“شهادة إبداعية – قاسم توفيق”
أحب أن أبدأ بالاعتراف بذنبٍ صغير، لا يفضي إلى الجحيم إن لم أتُب عنه، ولا هو بحاجة لكفّارة لكي يُمحى. لقد فكّرت قبل أن أضع هذه الشهادة أن أستعين بشهادات كتبتها عن رواياتي السابقة، لكني لم أُوفَّق، وسلّمت لحقيقة أنَّ التجربة الإبداعية لا تختلف بين كاتب وآخر وحسب؛ بل بين الكاتب ونفسه أيضاً.
إنَّ حديث المؤلف عن العوالم التي شكلت روايته، يغيّب أثر هذه العوالم عليه. ليس من جانب الحدث الواقعي أو الخيالي الذي جاءت منه الرواية، بل من جانب العلاقة التي تنشأ بينه وبين العوالم والشخصيات التي صاغها وتحوَّلت إلى كتاب، من دون أن يكون لها أثر واضح لا في العملية الإبداعية منذ بداية تجلّيها بالأفكار، ولا في الكلمات التي تجمَّعت في صفحات من الورق حتى أضحت رواية.
في المرحلة التي تبدو كأنها النهاية؛ مرحلة صدور الرواية، ينشأ عند الكاتب واقع جديد ومختلف عن عالمَيّ الرواية؛ الفكرة والكلمات. قد يكون هذا الواقع هو الأكثر تأثيراً في ديمومة العلاقة بين المؤلف وروايته، وفي استمراريته في الكتابة، من دون أن يتربص لحظةَ الراحة التي يقرر فيها أن يعتزل. الكاتب لا يعتزل، لأنه يعيش حيوات مختلفة مع كل رواية جديدة يكتبها، ولا انفكاك له من هذا الأسْر، إلا بالموت.
إنَّ الإدراك الذي يستولي على المؤلف عندما يرى ما صنعه بالكلمات وقد تحوّل وأصبح رواية؛ حالة تعجيزية، ليست انشطاراً نفسيّاً، ولا تهويماً في حالات من الجنون أو السحر، بل هي حالة تحقُّق لوجود جديد، يعيشه بتفاصيله التي تصبح أكثر تأثيراً فيه من الواقع الحقيقي الذي يعيشه، ولا يقدر أحد على التعرُّف على هذا الوجود سواه.
من غير الضروري أن يكون الشكل الذي نعيش فيه، وعلاقته المتشابكة، وآثاره التي تحفر على جلودنا بنصل حادّ، هو الشيء الحقيقي، أو الفعلي، أو حتى الواقعي. لقد غيّبت الفوضى المتوحشة التي سطت على البشرية كلَّ ملامح الواقع وجعلتها مسوخاً. لم يعد هناك مكان لما يسمى “الحقيقة”، لأنَّ التخبط الذي تعبر فيه البشرية، لم يُبقِ أثراً لهذه الحقيقة، اختلاف القيم وتغير النظم وتشويه الجمال، صنع شكلاً آخر لمفهوم الإنسان، وبالتالي لم يعد هناك من حقيقة يمكن أن نلتجئ إليها لكي تحمينا، ولا حتى من أنفسنا، لقد أصبح لشرِّنا وبطشنا وكراهيتنا قيمة، وأصبح الخير بدعة أو جهالة أو جنون. عندما نلتجئ للرواية، نحاول أن نعيد للذاكرة سيرتها الأولى، لا نطمح إلى أن نصنع عالماً مثالياً ولا حياة تستحق أن تعاش، بل أن نتذكَّر القيمة الحقيقية للخير وللشر، من دون أن نمسخهما ونحولهما إلى مشاعر خرافية.
كلما أمسكت رواية جديدة لي أول مرة، وعدتُ بذاكرتي للحظة نشوئها وارتقائها وما عايشتُه وعانيتُه حتى أصل إلى هذه اللحظة، يتملكني شعور طاغٍ في أنَّ الحيوات التي صنعتُها فيها، أكثر قيمة وضرورة لوجودي من تلك التي أعايشها في كل لحظة من عمري.
ما أريده من الكتابة، أمر خرافيّ؛ أن أطرد من عمري مئات الفزّاعات مختلفة الملامح، التي تطوّقني بدءاً من لحظة صحوي، وانتهاء بلحظة صحوي.. ظلت تحاصرني طوال حياتي كأنَّها إخوتي وأصدقائي وأولادي وحبيباتي والرفاق والفلاسفة والمفكرون والمخبرون والقتلة والمفسدون والشيوخ والدعاة والمصلحون والمكفرون والمدَّعون والمنافقون. ما تفعله فيّ الرواية، تلك اللحظة، أنها تطردهم كلهم وتجعلني أتحرَّر من كل هؤلاء المزيفين، لأعيش مع البشر الحقيقيين الذين صنعتُهُم.
لحظة استلامي للنسخة الأولى من “ليلة واحدة تكفي”، وعندما أخذت بتقليب الصفحات على عجل، انتفضت ذاكرتي، جاء لعقلي أمر غامض يدفعني لأن أتذكر الأسباب الأولى التي أوصلتني إلى هذه النقطة، وقتها يصبح مفروضًا عليّ أن أتذكر أول فكرة ألحّت على خاطري قبل أن أبدأ بالكتابة، وأول كلمة كتبتُها وأردت أن أدلف من بوابتها إلى عالمي الجديد، الذي ليس على الأرض ما يشبهه.
لقاء حميم، دافئ، مفرح، محزن ومتفجر بالذكريات.. ها هم الناس الذين صنعتهم بإرادتي يتجمعون من حولي، يحضنونني بشوق موجع، لقاء أوسع من الواقع وأكثر غموضاً من الخيال، تنهمر الكلمات في روحي متدفقة، تأخذني للبداية الأولى لأحاكي شخوصي للمرة الأخيرة، أهمس لهم وهم معلقون على صدري وبين عينيّ، أقول: “يا كائناتي الجميلات، أعترف أني عشتُ فيكم راحتي وفرحي وسلوتي، كنتم الأطيب والأحنّ والأكثر صبراً، لكني خذلتكم.. اغفروا لي أني كشفتكم للآخرين وأنا أقصد ذلك، لم أترك أسراركم طيّ صدري؛ بل أشهرتها بملء الصوت على الملأ، صرت أنادي عليها في سوق الحكايات، لأُسمعها للقاصي والداني. سامحوني أني بُحتُ بأسراركم التي ائتمنتموني عليها، وكشفتُ المتواري والمخبوء الذي عشناه معاً، وقد كان سرّنا الصغير.. هي لعنة الكتابة يا رفاق، فاغفروا لي”.
عندما ذهبت إلى مكتب ناشري؛ “الآن ناشرون وموزعون”، كانت نسخ “ليلة واحدة تكفي” تنتظر باستسلامٍ مصيرَها، مثل عذراء طاهرة ليلة عرسها، لم أجرؤ على النظر إليها، ألقيتُ التحية على الحاضرين، سألتهم عن أخبارهم، انتظرتُ أن يتفرّغ لي مدير الدار صديقي د.باسم الزعبي، تلهّيتُ بالحديث مع الموظفتين سجود ومرح، سألتُ عن أخبارهنّ واعتذرت لهنّ عن العناء الذي سبّبته لهنّ ونحن نعيد ترتيب تلك الليلة الواحدة! افتقدتُ صديقَيّ جعفر العقيلي وسامر المجالي. هؤلاء هم جميعهم، وصديقنا الفنان بسام حمدان الذي صمم غلاف “الليلة”؛ هم مَن اشتغلوا بمشقة ومحبة لكي تكون هذه الرواية، بين أيدي الجمهور.
أخيراً تجرّأتُ وأمسكتُ بروايتي، قلت مرحباً لـ”وجدان”، وسلّمتُ على “ذيب”، الذي بدا عاتباً عليّ، لكنه لم يحكِ شيئاً. أعترف أني جعلته يبدو مخلوقاً غير سويّ، لم أفكّر في أن أبرِّر نفسي له، وأُفهِمه أنَّ مَن سيقرأونه سيكتشفون أنه قد يكون العاقل الوحيد في عمّان عام 1967. لكنّي لم أفعل، قلتُ إنه سيعرف ذلك بنفسه في وقت ما.
هل من المعقول أن تقف أمة بكاملها على عتبة يوم واحد من تاريخها لا تبارحه لأكثر من نصف قرن! تساؤلٌ عاش معي منذ لحظة استيقاظي في عمّان صبيحة يوم الخامس من حزيران سنة 1967 ولم أكن قد بلغت الثالثة عشرة من عمري، على أصوات زوامير الخطر، وعلى فزع غريب كان يستحكم فوق رؤوس السكان الوادعين الآمنين في عمّان، الذين فوجئوا بأعداد كبيرة من الطائرات تغطي سماء المدينة، وكانت منخفضة وقريبة من الأرض لدرجة أنَّ بعض الرجال المعروفين بسعة خيالهم أقسموا أنهم شاهدوا الطيارين الإسرائيليين وقرؤوا ملامح وجوههم وهم يلقون بقنابلهم على أرض المطار.
لم تكن عمّان تلك الأيام سوى بيوت قليلة متواضعة، لا تبعد أحياؤها كثيراً عن بعضها بعضاً، وكان المطار الوحيد آنذاك، الذي يحمل اسم الحيّ الذي يتمركز فيه؛ (ماركا)، مكشوفاً لنا. كنّا نرى المدرَّج وهو يُدَكّ بعنف، ونراقب الانفجارات وحركة دوران الطائرات ونحن نحتمي في ملاجئ البيوت. لقد أصبح ذلك اليوم تاريخاً أعظم من كل ما عرفناه وسمعنا عنه من أحداث طوال قرون، فهو لم يمضِ ولم يعبُر؛ بل بقي متسمّراً فينا، ويصدمنا بهزّاته الارتدادية إلى الآن.
“ليلة واحدة تكفي” تحاول الإجابة عن السؤال الكبير الذي وُضع في المقدمة؛ “هل من المعقول أن تقف أمة بكاملها على عتبة يوم واحد من تاريخها لا تبارحه لأكثر من نصف قرن!”.
كان لا بد أن أبحث عن مَخرج لِما مرَّ بيّ وما عشتُه بعد ذلك اليوم وما يزال يؤثر في حياتي. لقد حاولتُ أن أجعل من لقاء امرأة ورجل، في ظروف مُلتبسة وغريبة، وفي مكان غير اعتيادي، مدخلاً لنفسيهما، عندما يقرِّران الكشف عن أزماتهما وعقدهما وانكساراتهما، وكأنهما بهذه العقد يحاكيان حال الأمّة كلها قبل ذاك اليوم، ليعلنا أنَّ الهزيمة لم تقع في ذلك اليوم؛ بل إنها كانت مستوطنة في الناس قبل ذلك بكثير.