بديعة زيدان
كاتبة وناقدة
تبدأ الرواية من حيث منتهاها.. العجوز “فاطمة” تجلس على درجات بيتها في حي الغويرية بمدينة الزرقاء الأردنية، تحمل سبحتها وتعد المارّين واحداً واحداً، والحديث هنا عن رواية “فاطمة” لكاتبها محمد عبد الكريم الزيود، والصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” في العاصمة الأردنية عمّان.
يعود بنا الكاتب للطفلة “فاطمة”، حيث كانت تعيش وأسرتها في بيت من الشعر ببادية الأردن، أربعينيات القرن الماضي، معرّجاً على وصف دقيق للمنطقة، وما يحيط بها من تجمعات سكانية، والبيئة الجيوسيسيولوجية بالمجمل، وبلهجة أهل المنطقة، ما يجعل القارئ يشعر بأنه بات على مقربة مسافة قليلة، أو يكاد يكون رفقة “فاطمة”، مع أنه كان بحاجة، خاصة إن لم يكن ابن البادية الأردنية، لتلك الشروحات والهوامش الكثيرة التي ضمنها الزيود روايته حول العديد من المصطلحات والأماكن والشخوص والأحداث والملابس وغيرها، بشرح تفصيلي يجعل من الرواية مرجعاً، خاصة أنه أسهب أحياناً في الشرح التفصيلي في إطار الهوامش هذه.
وتدور أحداث الرواية ما بين أربعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتحوي جهداً بحثياً لجهة توثيق حياة البداوة دون الابتعاد عن تقنيات صياغة نص سردي محكم لغوياً، عبر تلك الشخوص المتخيلة التي حاول صهرها مع تلك الأحداث الواقعية في مجملها حتى باتت تشكل يومياتها.
تحدثت الرواية من بين ما تحدثت عنه، عن تطور حياة سكان المنطقة، وتحوّلاتها، وخاصة انتقالهم من بيوت الشعر إلى بيوت الطين والتبن، ودخول “الراديو”، و”البابور”، و”مياه الحنفيات”، و”التيار الكهربائي” في يوميّاتهم.
“هذه البيوت بنيت بحب، فالجميع شارك في العمل، استقرّ كل الناس في القرية، هجروا بيوت الشعر والخيش والمغاور، وبدؤوا بحفر آبار بجانب البيوت الطينية لجمع وخزن المياه، لكننا نحن معشر النساء، لم نتوقف عن جلب الماء من العين الجديدة، وساعدنا هذه المرّة من يمتلك حماراً، لنضع عليه الروليت، ومن ثم نفرغ الماء في بئر البيت”.
وكان لحروب فلسطين حيّزٌ كبيرٌ في أحداث الرواية، عبر تسليط الضوء على الدور المحوري الذي لعبه الجيش العربي الأردني في حربي العام 1948 والعام 1967، فبعد أن خطف الموت والديّ “فاطمة”، لم يتبقَ لها من أسرتها إلا شقيقها “حمدان”، الذي اصطاده الموت بينما كانت القبيلة تستعد لحفل زفافه، وهنا تنتقل المتبقية الوحيدة من العائلة لتعيش مع أسرة خالها “حسين”، رفقة ولديه “علي” و”سليمان”.
ينضم “علي” إلى الجيش الأردني، وما هي إلا أشهر قليلة حتى تندلع حرب العام 1967.. كان “عليّ” مع الفرقة التي وصلت إلى القدس، و”خاضت حرباً مع الصهاينة”، بحيث استشهد مع عدد من رفاقه، وبقي جثمانه مجهول مكان الدفن، وإن كان الأرجح أنه دُفن حيث استشهد، ما يدلل على عمق العلاقات التي تربط الأردني بالفلسطيني، فهي علاقة دم لا بالمصاهرة فحسب، بل بما سال من دماء لشهداء وجرحى أردنيين على أرض فلسطين، في سبيل تحريرها، ليبقى “علي نايم عند أهله في فلسطين”.
وتحت عنوان “بدء المعركة”، جاء في الرواية ” كانت القدس هادئة هدوءاً عجيباً ليلة الخامس من حزيران، الشوارع مضاءة وشبه خالية من الناس، لا تسمع سوى صوت الأذان وأجراس الكنائس، فتسري القشعريرة في أجساد العسكر الرابضين في خنادقهم.. تفحّص علي رشاش الـ500، وتأكد أنه صَنَعَ حاجزاً من أكياس الرمل، وجعل له طاقة ليرى منها رغم الظلام والتعب الذي يرتسم على الوجوه.. كان هو وزملاؤه من الفئة الخامسة مثل الأسود متأهبين للانقضاض على طير يمرّ دون إذنهم من هنا، بالقرب من مركز شرطة الشيخ جراح”.
وكان لافتاً أن “عليّ” كشخصية متخيلة من صنع الزيود، لم يكن برفقة شخوص جميعها مبتكرة، بل حضرت شخصيات كان لها تاريخها ودورها العسكري والسياسي البارز، وخاصة في حرب فلسطين، وبينهم حابس المجالي، الذي يشير الروائي في أحد الهوامش إلى أنه “مشير ولد في معان العام 1910، والتحق بالخدمة العسكرية في العام 1932، وتدرّج فيها إلى أن أصبح قائداً عاماً للجيش العربي الأردني (القوات المسلحة) في العام 1958، ووزيراً للدفاع في العام 1969، وحاكماً عسكرياً عاماً وقائداً عاماً للجيش في العام 1970.. ويعتبر أول قائد كتيبة عربي في حرب العام 1948، إذ خاض بكتيبته الرابعة معارك القدس واللطرون وباب الواد، وتوفي في العام 2001”.
وممّا جاء في هوامش الرواية أيضاً عن معركة “باب الواد” أنها من المعارك القليلة التي انتصرت فيها القوات العربية، فقد “بلغ عدد القوات الأردنية 1200 جندي مقابل 6500 جندي إسرائيلي، وكانت المعركة بقيادة النقيب حابس المجالي، أما القوات الإسرائيلية فكانت بقيادة أرئيل شارون الذي وقع أسيراً بيد القوات الأردنية مع 1000 من اليهود، فتم نقلهم إلى معسكر في المفرق، حتى تمت مبادلتهم بأسرى أردنيين في الهدنة الثانية”.
ولكن المجالي تحول في بعض مشاهد الرواية أو مقاطعها إلى شخصية ذابت في السرد مع الشخوص التي شكلها الروائي من طين كلماته، وخاصة “عليّ”.. “حدثني عن العسكر والجيش، وأنه كان جندياً في كتيبة حابس المجالي، وهاجم اليهود في اللطرون، ووصف لي البساتين، وطيبة الناس في فلسطين، أهلنا غرب النهر، حتى إنه كشف لي ساقه وكان فيها أثر من جرح غائر قديم. قال لي يا فاطمة هذا جرح من شظية عندما لاح لي صف من عصابات اليهود، نادي عليّ حابس: أبوي يا صالح عليك بيهم (…)”.
ويمكن القول إن الروائي الزيود خرج في روايته هذه بخليط سردي يتأرجح ما بين الانحياز للمكان تارة، وللتاريخ تارة أخرى، ولشخوص كان لبعضهم حضورهم الطاغي في التاريخ الأردني، ومنهم من كان على تماس مباشر بل هو منغمس في الحكاية الفلسطينية التي لا تزال تسجل فصلاً تلو الآخر يوماً عقب يوم، وما بين تلك الشخوص التي رسمها الزيود، وأبرزهم تلك التي حملت الرواية اسمها، أي “فاطمة”.
كما يمكن الإشارة إلى أن الكاتب استخدم هنا تقنيات الرواية في كتاب بحثي حول الحياة الاجتماعية والسياسية في جغرافيات بعينها في المملكة خلال ما يزيد قليلا على الأربعين عاماً، فكان ذلك برأيي، على حساب بناء الشخوص المحورية ورسمها وتطورها في إطار سرد الأحداث، أما اللغة فكانت مناسبة لطبيعة ما اشتملت عليها “فاطمة” الرواية، بحيث شكّل استخدام الدارجة البدوية متعة من نوع خاص، هي متعة الاستكشاف ربّما لمصطلحات لا يعرفها الكثيرون، وإن كانت الهوامش قامت بالمهمة طوال تقليب الصفحات من أولها إلى آخرها.