«فاطمة» لمحمد الزيود ذاكرة المكان الأردني.. قرى قبيلة بني حسن غرب الزرقاء نموذجاً

«فاطمة» لمحمد الزيود ذاكرة المكان الأردني.. قرى قبيلة بني حسن غرب الزرقاء نموذجاً


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “مهدي نصير”
    “شاعر وناقد”

    هذه الرواية هي الرواية الأولى للدكتور محمد عبد الكريم الزيود والصادرة عام 2021 عن الآن ناشرون وموزعون وبدعم من وزارة الثقافة وتقع في 220 صفحة، جاءت هذه الرواية بعد مجموعتين قصصيتين للدكتور الزيود هما: «ضوء جديد» عام 2015 و»وحيداً كوتر ربابة» عام 2019.
    في هذه الرواية نقرأ تاريخاً وعاداتٍ وثقافةً ومفرداتٍ وحكاياتٍ وخرافاتٍ وأساطيرَ شائعةً بين الأردنيين في قراهم وبواديهم، حيث جسَّدت هذه الرواية هذا المخزون الحياتي من خلال الحياة وأنماطها في قرى الزرقاء الغربية والتي تقطنها في الأغلب بعضُ عشائر قبيلة بني حسن الأردنية كعشيرة الزيود والغويريين والعموش، تقودنا الرواية بلغتها العالية والفصيحة والمطعَّمة بمفردات الحياة اليومية الشعبية بما فيها من تراويد وحِداء وبكاء وغناء البدو الأردنيين ومعاناتهم في تأمين عيشهم ومواجهة شظف الحياة القاسي، وتصوِّر نمط الحياة اليومية للناس في هذه القرى والتي تعتمد على الزراعة ورعي الأغنام بالدرجة الأولى والتي بدأت بالتغير البطيء في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث بدأ شباب هذه العشائر الالتحاق بالجيش العربي أو بمصفاة البترول التي أُنشئت في «اسعيدة» والتي أصبحت الهاشمية لاحقاً، كذلك اتجه أبناء هذه العشائر للعمل في الورش والمصانع التي بدأت تنتشر مع نشأة مدينة الزرقاء وأحيائها وخصوصاً منطقة «الغويرية» والتي سُميت بهذا الاسم نسبةً لعشيرة « الغويري « التي تملك أراضي هذه المنطقة والتي بدأت بإعمارها،
    سأقرأ هذه الرواية عبر الملاحظات التالية:
    أولاً: زمن الرواية يمتد من منتصف الأربعينيات وحتى نهاية الستينيات من القرن العشرين، وهذه الفترة هي فترةٌ انتقاليةٌ وتأسيسيةٌ في تكوين المجتمع والدولة الأردنية الحديثة.
    ثانياً: مكان الرواية الرئيسي هو قرى الزرقاء الغربية والتي كانت مسرحاً للأحداث في هذه السردية، حيث أرَّخت الرواية ووثَّقت للقرى والتجمعات في الزرقاء والزرقاء الغربية : حيث أرَّخت الرواية لنشأة مدينة الزرقاء والغويرية والهاشمية وأحياء البتراوي وبرَّخ وقرى وتجمعات المسرَّة الشرقية والعالوك والشنقارة وغريسا وعين السخنة والمصطبة وجبَّة والمنط ومرصع وبيرين وأم العروق وشفا بدران وعين الحوايا وأبو خشيبة وصروت والسحارة وطواحين عدوان وخريسان والقنية وغيرها، كانت فلسطين والأغوار وأريحا والقدس ومعارك الجيش العربي فيها وأحياؤها وأبوابها حاضرةً،حيث حضرت تلة شعفاط وباب العامود وملعب الشيخ جراح ووادي الجوز.. الخ، أيضاً حضرت عمَّان وجبالها وأحياؤهاالتي كانت تتشكل في تلك الفترة من تاريخ الأردن، هذه الرواية احتفت وأرَّخت ووثَّقت للمكان الأردني والفلسطيني في سرديةٍ مفعمة بالوجع والشهادة والكبرياء.
    ثالثاً: أرَّخت هذه الرواية لشخصياتٍ أردنيةٍ كان لها حضورٌ بارزٌ في تاريخ الأردن ونشأة الدولة الأردنية، حيث حضر قاضي الدم ابن قلاب من عشيرة العموش، وحضر الشاعر حسن الزيود الملقب بزناد البلقا، وحضر الشهيد الخالد «النفس الزكية» صايل الشهوان العجارمة، وحضر الشيخ ماجد العدوان والشيخ حمد الشهاب الزيود والشيخ تمر الغويري الذي وصل صيتُ كرمه حتى بلاد الحجاز، وحضر المشير حابس المجالي قائد الجيش الأردني، وحضر الشهيد منصور كريشان شهيد معركة القدس التي خاضها بشرف الجيش العربي الأردني أعوام 1948 و1967.
    رابعاً: كانت هوامش هذه الرواية كثيرةً جداً، حيث لا تخلو صفحة من صفحات الرواية الا وأسفلها هامشٌ توضيحيٌّ لبعض المعلومات والمفردات والأماكن والأعلام الذين يردُ ذكرهم في سرد الرواية.
    خامساً: شاع في الرواية استخدام أسماء الأدوات والمفردات والأماكن والأكلات الشعبية والتي تطلبت شرحاً في الهوامش والتي وثَّقت نمط الحياة اليومية للناس في تلك الفترة من الزمن، ومن أمثلة ذلك : المطوى، الوهد، السناد، الروية، الخرج، ضروس الجميد، المريس، السناسل، الزغاريت، المدرقة والعُصبة، المرياع، العونة، الدحية، الشِّق.. الخ.
    سادساً: الراوي في هذه الرواية والشخصية الرئيسية فيها هي فاطمة اليعقوب التي توفيت والدتها بعد ولادتها ثم توفي أبوها يعقوب وهي بعد طفلة وعاشت مع أخيها الوحيد حمدان والذي يموت فجأةً في ليلة عرسه ليترك فاطمة وحيدةً وصغيرةً ويملؤها الخوف والحزن، تنتقل بعد وفاة أخيها حمدان للعيش في بيت خالها حسين في المسرَّة الشرقية، والخال حسين من شخصيات الرواية الرئيسية تلمس فيه شخصية الأردنيين في تعبهم وطيبتهم وكبريائهم وتضحياتهم الكبيرة، يمرض ويرقد الخال حسين هذه الشخصية الأصيلة بعد استشهاد بكره علي في معارك الجيش العربي في القدس عام 1967 ويُدفن في قريته المسرَّة الشرقية.
    تتزوج فاطمة من صالح المرزوق الذي يكبرها بعشرين عاماً وتنتقل معه بعد سنوات من العيش في المسرَّة بمعاناةِ أسباب العيش وشظفه واستغلال ميخائيل التاجر المرابي لهما ولجهدهما دونما فائدةٍ أو منفعة، ينتقلان إلى الغويرية في الزرقاء ليفتتحا دكاناً صغيراً لبيع السكر والرز والشاي والصابون وحاجيات الناس البسيطة في تلك الأيام من ستينيات القرن العشرين.
    صالح المرزوق العسكري المتقاعد بعد إصابته في قدمه أثناء خدمته في الجيش العربي، وهو البطل الذي قام بدق الوتد في ثوبه بمغارة الضبع في استعادةٍ لموروثٍ يتكرر في كل الحكايات الأردنية الغابرة، وفاطمة هذه المرأة النموذج لمعاناة المرأة الأردنية وتضحياتها والتي تعمل على مسح دموع المرضى والمحتاجين بعلاجهم النفسي من خلال الأولياء الصالحين الذين يأتونها في المنام كرؤيا صالحة، هذان الزوجان شكَّلا نموذجاً مؤلماً وقاسياً وطموحاً لجيلِ أبائنا في منتصف القرن العشرين.
    سابعاً: تتكون هذه الرواية من متتاليةٍ قصصيةٍ تضم (43) قصةً قصيرةً يمكننا قراءتُها منفصلةً عن بعضها والتفاعل معها وملء الفراغات السردية بها بكل سهولة، هذه المتتالية القصصية كانت استعاداتٍ وذكرياتٍ لفاطمة في مراحل حياتها وحياةِ أهلها على مدار حقبة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتدخَّل الراوي العليم في عددٍ قليلٍ من هذه المتتالية القصصية والمتعلقة فقط بتجنيد علي ابن الخال حسين في الجيش العربي وتدريبه في خو والتحاقه بكتيبة الحسين الثانية في معارك القدس علم 1967 واستشهاده على ثرى القدس الطهور.
    ثامناً: ضمَّت هذه الرواية مجموعةً من حكايات وخرافات وأساطيرَ شعبيةٍ كانت وما زال بعضُها سائداً في مناطق كثيرة من أرياف وبوادي الأردن، كأسطورة فيل خريسان والولي زيدان والولي ( أو الإله ) حدد أو هدد حارسُ السيل والتلال، وحكايا الضبع الذي يتحول في الليل إلى أفعى ونار تسير بجانب سيل الزرقاء.. وغيرها.
    كذلك ضمَّت هذه الرواية في سرديتها الشعبية المكانية والزمانية والقبلية بعضاً من أغاني الرعيان والحصادين والتي كانت تؤنس تعبهم وشقاءهم وحزنهم المتواصل، فمثلاً يرد ص89 غناء الحصادين بالصيف في هذه المقطوعة الشعبية :
    «منجلي وامنجلاه.. منجلي وامنجلاه
    منجلي وامنجلاه.. راح للصايغ وجلاه
    ما جلاه إلا بعلبة.. ريت هالعلبة دواه «
    كذلك كتنويعٍ سرديٍّ واقعيٍّ دخلت قصة سارة الغجرية (النورية) وجمالها وعشق سلمان الراعي لها وانتحاره شوقاً وعشقاً لها بعد غيابها وهروبها إلى المدينة (عمَّان).
    هذه الرواية هي رواية المكان والزمان والإنسان الأردني وتشكلاتهم ومعاناتهم وتحدياتهم وأشكال وأنماط معيشتهم من منتصف القرن العشرين وحتى الآن.