“قصر الصبار” وإماطة اللثام عن حال العراق.. قصدية الكتابة

“قصر الصبار” وإماطة اللثام عن حال العراق.. قصدية الكتابة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “سوسن جميل حسن”
    “ضفة ثالثة”

    لعلّ الدعارة من أكثر الشواغل التي اشتغل عليها الأدب، العالمي والعربي، ولعلّها أيضًا، ليست المهنة الغارقة في القدم فقط، بل المستمرّة منذ نشوئها الأول إلى اليوم بأشكال تختلف باختلاف العصر، وتعقد المجتمعات، وتطور الحياة البشرية.
    العديد من الأدباء الأجانب شغلت الدعارة، بعالمها وأدواتها وبيئتها والمهن المرتبطة بها، رواياتهم، مثل ماركيز وباولو كويلو وهنري ميللر وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر، كذلك الحال لدى الأدباء العرب، كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وحنا مينة ومحمد شكري وغيرهم العديد، وإذا برزت المومس أو القوّاد أو غيرهما ممّن يشكّلون دعامة هذه المهنة القديمة كشخصيات روائية، منها ما رُسمت ببراعة لافتة كالمومس “فرنسا” في رواية “خمارة جبرا” للروائي نبيل ملحم، فإن الكاتب السوري إياد جميل محفوظ ألف كتابًا يدور حول المهنة بالذات في مدينة حلب، متتبّعًا تاريخها وحافرًا في تاريخ المدينة في القرن الماضي منذ بداياته، في كتابه “بيوت الخفاء في حلب الشهباء”.
    “تعرّضت نرجس إلى التغرير بها من قبل شاب أوهمها بأنه سيتقدم للزواج منها، فضّ عذريتها وتنكّر لها ثم اختفى، فانزلقت إلى عالم الدعارة!”
    ومن الروايات التي اتخذت من هذه التيمة موضوعًا لها، يدخل من خلالها المؤلّف في عمق المجتمع العراقي والتحولات الكبرى التي طرأت على البلاد، منذ الإطاحة بالملكية وقيام الجمهورية حتى احتلال القوات الأميركية للعراق، رواية القاصّ والكاتب العراقي زهير كريم، “قصر الصبّار”، الصادرة حديثًا عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، بتتبع حياة مومس قضت في جريمة ثأر قبل فترة وجيزة من دخول الدبابات الأميركية إلى بغداد.
    نرجس التي تنتمي إلى أسرة مختلطة، أب مسلم وأمّ مسيحية، تزوجا في أول ستينيات القرن الماضي، أنجبا ولدين، صبي “سامي” وفتاة “نرجس”، تتويجًا لعلاقة حبّ استحقت المغامرة وتحدّي الأعراف والقوانين، لكن التغيرات السياسية والتحولات العاصفة التي طرأت على البلاد منذ الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية، والانقلابات والحكم الديكتاتوري، وملاحقة الأحزاب المعارضة، وتمكن العقلية القبلية ونظام العشائر، والردّة الدينية، وتردّي الحياة في كل ميادينها المعيشية، كلّها انعكست على الأسرة ولم يستطع الحبّ الصمود أمامها، فانهار البيت وغاب الأب، والتحق الأخ بحزب الدعوة، بعد أن ازدهرت في داخله الميول الدينية والعقلية العشائرية على يد قريب لأبيه “هادي حمزة”، وكان سامي قد تعرّض للاغتصاب في طفولته، واضطربت الأم عقليًّا، بينما، باكرًا في عمر التفتّت الأسري، وكانت في الثامنة عشرة، تعرّضت نرجس إلى التغرير بها من قبل شاب أوهمها بأنه سيتقدم للزواج منها، فضّ عذريتها وتنكّر لها ثم اختفى، فانزلقت إلى عالم الدعارة، بينما قُتلت أمّها على يدِ ابنها سامي، بوشاية من نرجس ذاتها، ومات والدها مدمن الشراب والمشرد، بطعنة سكين وهو نائم في إحدى الحدائق، ودخل أخوها السجن، ثم خرج بعفو وغادر العراق نهائيًّا.
    تزوجها أول مرة رجل يدعى سالم، أرادها له وحده، ملكه، أراد أن تتحجب وتصلّي وتصوم، لكنها لم تكن تستطيع أن تكون ملك أحد، قتل سالم على يد ضابط أمن كما قيل، وتزوجها بعدها، لكن عباس أخ سالم قرر أن يأخذ بثأر أخيه، بعد أن أصبح الوحيد الناجي من أسرته، فقد اعتقل أحد إخوته بتهمة أنه شيوعي وأعدم، وأخ ثان بتهمة أنه إسلامي وأعدم، والثالث قضى في الحرب العراقية الإيرانية، مات الأب ولحقته الأم، لم يبقَ غير عباس، وسالم الذي أغرم “بقحبة”، كما يقول عنه عبّاس.
    “تُبنى الرواية على الأصوات المتعدّدة، وعلى الوثيقة، والتقارير الصحافية، والمذكرات أو اليوميات، وعلى الشهادات، بناء على اللعبة التي اعتمدها الكاتب”.
    ثم تزوجها رجل كبير في العمر، “الحاج رافع”، في عام 2000، اشترى لها البيت/ القصر، ثم انفصلا بعد فترة قصيرة، امتزجت سيرته بالأحداث المفصلية في تاريخ العراق منذ أواخر الستينيات، كان من المجموعة الموالية لصدام حسين منذ 1968، وكان من ضمن الوفد الموقع على اتفاقية الصداقة والتعاون بين العراق والاتحاد السوفييتي، ثم قاد عملية الصامتة عام 1973، الذي توغلت خلالها القوات العراقية ضمن الأراضي الكويتية، وقد كلف بمهام استخباراتية عديدة، وأصبح أيضًا المساعد الأول لوزير الداخلية عزة الدوري، وفي عام 1977 كان حاضرًا على الإعدامات التي نفذها صدام حسين بحق قيادات بعثية، خلال سنوات التسعينيات ظلّ في منصب غير محدّد، إنما مقرب من الرئيس، مساهمًا في ملف لجان التفتيش، عضوًا في اتفاقية النفط مقابل الغذاء، ثم تزوج بنرجس. كان ذلك في بداية عام 2000، ذهب معها إلى بيروت، وهناك تعرفت على سونا، اختفى بعد احتلال القوات الأميركية للعراق، لكن نرجس حوّلته إلى بيت متعة، روّاده أو زبائنه من طبقة السلطة والتجار المتحالفين معها، محاط بأسوار عالية من السرّية والخصوصية، يعمل فيه عدة أشخاص، مدبّرة منزل اسمها خلود، طباخة لبنانية تدعى سونا، حدائقي يعمل يومين في الأسبوع، سائق اسمه سعيد، من أسرة عراقية كانت غنية وخسر أبوه كل ملكيته في القمار والسكر وحياة الليل، حارس اسمه جبار لديه مشكلة مع زوجته التي تمتلك هوية جنسية مختلفة للمألوف، الحب بالنسبة إليها منزّه عن العلاقة الجسدية، وكانت تقام فيه حفلات وسهرات إلى أن حصلت الجريمة، بأن تسلّل عباس إلى القصر بخداعه الحارس، وقتلها، وقُتل في الوقت نفسه رجلان من طالبي المتعة، ومن الشخصيات المهمة،  وانتهى كل شيء.
    “تتشكل الرواية من مجموعة من الحكايات التي لا تتناسل من بعضها، إنما تلتقي وتتشابك في نسيج كلّي يقدّم حكاية القصر وحكاية نرجس، وترتسم وتنهض الشخصيات من خلال هذه الأصوات، وتاريخ العراق”.
    في البنية الروائية: تُبنى الرواية على الأصوات المتعدّدة، وعلى الوثيقة، والتقارير الصحافية، والمذكرات أو اليوميات، وعلى الشهادات، بناء على اللعبة التي اعتمدها الكاتب، وهي أن الراوي الـ “العليم”، في الأساس يعمل صحافيًّا، لكن الإثارة التي حملتها إليه قصة القصر عن طريق لقائه بالمصادفة بأستاذ تاريخ متقاعد كان يسكن بقربه، قدّم له الفرصة في أن يمتلك مفاتيح تتبع سيرة القصر والشخصية التي كانت محور الرواية “نرجس”، وذلك بأن أعطاه مما لاقى بجانب الحاوية، بعد إخلاء المنزل، دفاتر تخص نرجس، يوميات، سجل تلفونات، عناوين إلخ، عدا أن “أطنانًا من الوثائق المهمة صارت الآن في أيدي الجميع بعد الاحتلال، وثائق المؤسّسات الأمنية وغيرها، سياسية وثقافية ومشاريع”، ما أشعل رغبة وخيال الراوي بكتابة رواية بدلًا من تقريره الصحافي، فقام برحلة البحث واستنطاق من بقي من الأشخاص على قيد الحياة، ممن كانوا يعملون في القصر، أو سؤال من هم مقربون منهم في حال اختفاء أحدهم، وبذلك توزّع القصّ على عدة ألسنة، بالإضافة إلى يوميات نرجس، فتتشكل الرواية من مجموعة من الحكايات التي لا تتناسل من بعضها، إنما تلتقي وتتشابك في نسيج كلّي يقدّم حكاية القصر وحكاية نرجس، وترتسم وتنهض الشخصيات من خلال هذه الأصوات، وتاريخ العراق، ليس فقط من وقت الإطاحة بالملكية والتحولات الاجتماعية والسياسية والحروب التي دخلها العراق، بين الحرب مع إيران وغزو الكويت وغيرها، والحصار حتى الاحتلال الأميركي، بل قبل ذلك، تاريخ بناء القصر في عام 1920، وذلك بالتقرير الذي أعدّه الصحافي بعد بحثه واطلاعه على مراجع، منها ما كتب الضابط الإنكليزي الذي كان أول ساكن للقصر، وكان مقرّبًا من ميس بل، المرأة الإنكليزية المعروفة في تاريخ العراق أيام الاحتلال البريطاني. ليصل في النهاية إلى أن بغداد آلت إلى أن تكون، بعد الاحتلال الأميركي، مدينة “يسيطر عليها اضطراب سياسيّ.. قوات احتلال وبركان طائفي على وشك الانفجار”.
    غلب على السرد المونولوج الداخلي حينًا، والحكايات التي تشبه الاعترافات حينًا آخر، أكثر المونولوجات في مذكرات نرجس، التي يمكن من خلالها تكوين الرسم الكلّي لشخصيتها، الداخلية والخارجية، وفلسفتها في الحياة التي استخلصتها من استعادة تجربتها والتفكّر فيها. تقول: “لم يكن ما حدث لي كله اختيارًا، لم يكن أمامي حلّ، خفت من كلّ شيء، من العالم، من نفسي وحياتي، ثم أصبحت وحيدة تمامًا، لكنني قرّرت ان أعيش وأحافظ على أنيابي الحادّة، لأغرسها في قلب كل من يؤذيني”. انطلاقًا من هذه الفلسفة التي عاشتها حياتيًّا، وفهمتها من خلال التجربة وصلت إلى تبني مفهوم مختلف عن الخير والشر، فهما موجودان دائمًا في داخل الإنسان، والشر عندما نفتح له القفص، إمّا أن نستطيع إعادته إليه أو يبقى حرًّا إلى الأبد، وهي فتحت القفص لذاتها المحبوسة وقالت: “إما حياتي أو حياة الآخر، حتى لو كان الآخر هو أمّي”. كذلك يمكن الوقوف على ما يستدعي السيناريو في أماكن عديدة من السرد، بما يحمل من مشهدية واستفاضة في الوصف، وتقطيع للمشاهد.
    “غلب على السرد المونولوج الداخلي حينًا، والحكايات التي تشبه الاعترافات حينًا آخر، أكثر المونولوجات في مذكرات نرجس، التي يمكن من خلالها تكوين الرسم الكلّي لشخصيتها، الداخلية والخارجية، وفلسفتها في الحياة التي استخلصتها من استعادة تجربتها”.
    الميتا رواية: منذ البداية يمكن الوقوف على قصدية الكتابة في هذا العمل السردي، فقد عزم الراوي النيّة على أن يكتب عملًا روائيًّا، لذلك يسرد القصّة مما سمع وقرأ في دفتر نرجس، “وعندما قرأت ما دوّنته من هذيانات واعترافات في دفترها، عرفتها بشكلٍ أفضل”، ذلك أن للرواية سحرها وغوايتها، وهما “ناجمان عن هذا الالتباس بين الواقع والخيال”، ويقدّم لشخصية نرجس، مبرّر الكتابة عنها “الشخصية المحيّرة، المحايدة واللا مبالية، التي لا يظهر لها موقف محدّد إلّا من رغبتها في أن تعيش، حتى لو تطلّب الأمر موتَ العالم كلّه. استدعت في خيال الراوي، العازم على كتابة الرواية، شخصية مارسلوت في رواية الغريب لألبير كامو”. فهو يتناول بوعي ذاتي أدوات السرد، ويكشف للقارئ لعبته وخدعه السردية.
    أمّا في الفصل المعنون بـ “الراوي العليم يجمع خيوط الواقعة”، فيقول: “اعتمد مبنى هذا العمل السردي ـ في الأساس ـ على تدوينات نرجس وسونا، على حديث جبار، واللقاء فيما بعد بأم سعيد. وأيضًا على أرشيف صحافي وأمني ومعطيات تاريخية ووثائق، لكن الحكاية كانت تحتاج ـ خاصة في هذا الفصل ـ إلى بعض المعطيات البسيطة لهذا أضفت خيطًا من الخيال إلى الحكاية”. بذلك نرى أن الرواية في مستهلّها ونهايتها، تتفكّر في نفسها، يقدم الكاتب من خلال بعض الشروح والإيضاحات، ما يوفّر إجابات على تساؤلات محتملة لدى القراء حول مبنى الرواية، ومبرّر الاستفاضة أو الشرح والتدخل في بعض المواقع.
    في النهاية، فإن رواية “قصر الصبار” التي تحمل فيها شجرة الصبار في حديقة القصر دلالة على تاريخ المنطقة، فهي “لا تحتاج إلى عناية، ولا تموت”، كأنها كائن مكتفٍ بذاته، شيطان أو ملاك، “كما لو ان الجميع اتفقوا على تركها شاهدًا على العواصف التي مرّت من هنا”، هذه الرواية تضاف إلى ما كتب قبلها من أدب يميط اللثام عن حال العراق منذ الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية، إلى لحظة احتلالها من قبل القوات الأميركية، تحفر في طبقات التاريخ المعاصر، وتحاول تفكيك الظواهر الاجتماعية التي آلت بالمجتمع العراقي إلى ما هو عليه.