“كويت بغداد عمّان” لـ أُسيْد الحوتري.. كتابة السيرة الذاتية.. وإشكالية الهوية والانتماء

“كويت بغداد عمّان” لـ أُسيْد الحوتري.. كتابة السيرة الذاتية.. وإشكالية الهوية والانتماء


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    خديجة مسروق 
    (كاتبة من الجزائر)

    التداخل الأجناسي بين النصوص الأدبية أصبح ضرورة ملحة تمليها متطلبات حداثية، يمكن القول أنها أفقدت الرواية مقوماتها وجعلتها جنسا أدبيا هجينا يصعب تمييزه.
    النص الذي سنتناوله في هذا المقال “كويت بغداد عمان” للروائي أسيْد الحوتري هو نص حداثي بامتياز، تتداخل فيه مجموعة من الأجناس الأدبية.
    تشكل “كويت بغداد عمان” (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2022) إضافة نوعية للمشهد الروائي العربي. فهي عبارة عن تجربة إبداعية جديدة في مجال الكتابة الروائية شكلا ومضمونا. ومن بين ملامح التجديد فيها هندسة الديكور السردي الحداثية، التي بانفعالها مع عناصر الفن المسرحي والسينمائي تجعل القاريئ يشعر كأنه أمام فيلم. فقد افتتح الروائي النص بـ(آكشن) وختمه بـ (كَتْ)، وقسمه إلى مشاهد تجعل القارئ مشدوها كالمتأهب لحضور عرض مسرحي.
    تقوم الرواية على التدوير السردي، أي أن النهاية تحيل للعودة إلى البداية، وكذلك على التقسيم الزماني والمكاني، مع سوداوية مشحونة بتأثيرات نفسية وذاتية للروائي.
    “كويت بغداد عمّان” رواية حداثية قام فيها الحوتري بتأويل الحدث التاريخي على نحو دلالي يتداخل فيه الخيال بالواقع، وأتقن لعبته السردية للانفلات من قبضة قارئ يمكن له أن يدينه، بسبب اختراعه تاريخا جديدا أملته عليه مخيلته الإبداعية لا علاقة له بالتاريخ الرسمي. يقول الحوتري: “سأكتب عن الإنسانية أولا، وعن العروبة والإسلام، وعن الوطنية دون مغالاة، ودون عنصرية، ودون تعصب أو تشدد”.
    تتحدث الرواية عن محطات بارزة في تاريخ العرب والمسلمين، بدءا بسقوط الدولة العثمانية وصولا إلى العصر الحديث. هي رواية المسكوت عنه، تتعرض للتاريخ المهمش الذي أُسقط من سجل التاريخ الرسمي.
    “سعيد” هو الشخصية الرئيسة والوحيدة في الرواية، بحيث ظل نص الرواية أحادي الصوت حتى الصفحات الأخيرة من الربع الأخير، التي تظهر فيها شخصيات عديدة. “سعيد” وُلد بالكويت، شيخ مسن موجود بالمستشفى، أصيبت ذاكرته بالخرف، وخوفا من أن تسقط منه ذكرياته أو إحدى حلقات التارخ المنسي، أراد توثيقها في كشكول. كان يغتنم فرصة عودة الذاكرة له من حين لحين ليكتب ما يمكن كتابته على كشكوله.
    تذكر الرواية بأن سعيد وُلد بالكويت، لكنها لم توضح هويته الأصلية بالتحديد. يقول: “أنا أردني من أصل فلسطيني من مواليد الكويت”.. إنها جغرافيا الحب وتاريخ العواطف.
    تذكر الرواية أسباب وتداعيات سقوط الدولة العثمانية، التي بسقوطها قدمت فلسطين للأعداء في معاهدة بلفور، ثم بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. كما تذكر اجتياح القوات الصهيونية للبنان.
    يتعرض الروائي للدور الكبير الذي قامت به الكويت في دعم القضية الفلسطينية، ووقوفها إلى جانب مصر خلال النكسة. ويتحدث عن الاحتلال الذي قطع الأوصال وفرق العرب إلى دويلات. ويتحدث عن تمزق شمل الأمة العربية، التي تقسمت إلى دويلات بفعل تخطيطات اللوبي الصهيوني والأحلاف الغربية المعادية، وكل ذلك من أجل كسر شوكة العرب والمسلمين. الإنجليز يسميهم الحوتري “أصحاب الوعدين”: وعْد مكمالهون الذي نكثوا به، ووعد بلفور الذي وفوا به، الوعد المشؤوم الذي قدم فيه الإنجليز أرض فلسطين إلى الصهاينة ليقيموا فيها كيانا عنصريا لهم.
    تتحدث الرواية عن محطة أخرى في تاريخ العرب الحديث، هي حرب الخليج واجتياح العراق للكويت، وتذكر بأن مطالبة العراق بضم الكويت تعود إلى عام 1924، واستمرت هذه المطالبة إلى غاية التسعينيات، حين اقتحمت جيوش العراق أرض الكويت مدعية أن الهدف من وراء ذلك هو الرغبة في تحرير فلسطين.
    الروائي مقتنع من موقف الحكومات العربية، الذي يتمثل في رفضهم اجتياح العراق للكويت، لكن يرى أن اختلافهم آنذاك كان يكمن في كيفة إخراج العراق من أرض الكويت، فمنهم من فضّل الحل السلمي المتمثل في الحوار، ومنهم من قال بالحل العسكري. والمستفيد من هذه الحرب هو الولايات المتحدة.
    ويتحدث الحوتري في روايته عن مناقب القائد العراقي عمر علي الذي لبّى نداء الواجب لتحرير فلسطين عام 1948، فتمكن من تحرير جنين، لكن الحاكم العراقي طلب منه سحب الجيش العراقي من المنطقة، ثم استُدعي ليمثل أمام المحاكمة وكأنه أدين بفعل مشين.
    يتوارى الروائي خلف شخصيته الروائية محاولا بغموض متقن توثيق بعض الحلقات التاريخية المنسية، ونقل صورة عن الأرشيف المهمش في الأقاصي البعيدة في سجل الذاكرة العربية. يتحدث عن التهميش الهوياتي الذي يعاني منه أولئك الذين ولدوا على أرض الكويت ولا يعرفون غيرها أرضا لكنهم يعامَلون كغرباء، مثلما حدث مع شخصة “عيسى الطاروف” الذي ولد من أب كويتي وأم فلبينية تعمل خادمة بالكويت وتدين بالمسيحية. عيسى لم يعترف به أهل أبيه ونبذوه، فهاجرت به أمه إلى موطنها. وهذا تدليل على التمييز العنصري في المعاملة بين الناس من منطلق العرق والديانة، وليس من منطلق إنساني.
    تمثل “كويت بغداد عمّان” رحلة “سعيد” التي تبدأ من الكويت، الأرض التي فيها وُلد وفيها عاش طفولته. وبعد اندلاع حرب العراق قررت أسرته الرحيل إلى عمّان، وكانوا قد مروا ببغداد ثم استقر بهم الحال على أرض الأردن. وكان “سعيد” قد سجل انطباعه عن العراقيين في تلك الرحلة، وخلص إلى أن موقف العراقيين من احتلال صدام للكويت كان مقسما، بين شامت ومستاء، وبين رافض ومؤيد.
    “سعيد” المصاب بالخرف، أراد توثيق ذكرياته في كتاب بعنوان “هنا الكويت” (وهو عنوان الرواية الحقيقي لكن الروائي شاء أن يكون عنوان روايته مستوحى من محطات رحلة سعيد “كويت بغداد عمّان”)، وترك الفصل الأخير المعنون بـ “سفر الخروج” فارغا. أثارت كتابة “سعيد” انتباه السارد العليم، فقدم هذا الكتاب للطبع بعد أن قام بملء ذلك الفراغ، لكنه يتفاجأ بعد نشر العمل بحذف الفصل الذي كتبه في سفر الخروج.
    يمتلك الروائي قدرة عالية على التلاعب بالعملية السردية، نلمح ذلك من خلال انصهار السارد بالشخصية الرئيسة أحيانا وانفصاله عنها في أحيان أخرى، إذ يشعر القارئ في بعض الأحيان بأن تلك الشخصية هي نفسها شخصية الروائي ثم يتفاجأ بتنصل الروائي منها. السارد العليم و”سعيد” والروائي تحكموا بإتقان في إدارة مقود الحلقة التاريخية المفقودة، واستطاعوا استنطاق الخطاب التاريخي المسكوت عنه، ونقله للقارئ على نحو موارب.
    يمكن القول أن هذا النص يدخل ضمن كتابة السيرة الذاتية. فقد تحدث فيه الروائي عن مراحل من حياته، وعن طفولته التي قضاها بأرض الكويت، وعن حبه الكبير للكويت ووفائه له. يقول: “سأُصدر لكل من يحب الكويت وثيقة حبّ تؤكد بأن الكويتية حبّ الكويت.. لكي تكون كويتياً عليك أن تحب الكويت”.
    وبعد أن يوهم الروائي القارئ في بدايات الرواية بأن “سعيد” يرقد بالمستشفى لإصابة ذاكرته بالزهايمر، يعود ليذكر في “سفر الخروج” بأنه دخل إلى المستشفى بالتآمر مع صديقه الطبيب الذي يخبر الناسَ بأن “سعيد” يقوم بتوثيق ذكرياته وهو يعاني من عجز في الذاكرة، كي يحقق كتابه مبيعات كبيرة، احتذاء بما فعله كافكا حين أوصى بحرق كتابته بعد وفاته، إذ حققت روايته “القصر” التي طُبعت بعد موته مبيعات كبيرة وانتشارا واسعا لفضول القراء في معرفة ما أوصى كافكا بحرقه كي لا يصل إلى أيدي القراء.
    بعد تقديم كتاب سعيد “هنا الكويت” للطبع، تطلب دار النشر بتحويله إلى رواية، فالروايات بحسب قول الحوتري هي “الأكثر مبيعا”.
    يمكننا أن نتساءل في هذه الحالة: لماذا يحتضن القارئ رواية التاريخ؟ ولماذا أصبح يعزف عن قراءة كتب التاريخ؟ ومن الذي ينقل التاريخ بأمانة؛ الروائي أم المؤرخ؟ أم كلاهما ينقله بذاكرة مشوهة؟ يلعب كل من المؤرخ والروائي دوره في تشكيل الحدث التاريخي وبلورته وفق قناعته الشخصية، يُدون ما يراه ملائما من زاوية نظره الخاصة.
    يكشف الروائي في آخر روايته بأن “سعيد” ليس مجنونا، بل هو مصاب بحالة نفسية معقدة، إنه الشعور بالاغتراب والتشظي، بالوحدة وبخذلان الجميع. يقول: “لم أعد أدري من أكون ولمن أنتمي، أشعر بالغربة، بالضياع وباللا انتماء”. إن الأمر يتعلق بالهوية.
    يتكلم الحوتري عن الأهمية الصحية للرواية، وإمكانية التداوي بها استنادا لما توصلت إليه باحثتان بريطانيتان من خلال تجربتهما على 751 رواية. فهذه الروايات في اعتبار الباحثتين بمثابة علاج للقراء، حيث تتفرد كل رواية في علاج داء معين انطلاقا من مقولة أن الرواية هي تاريخ ما يجب أن يكون. هذا يؤكد أن الرواية فن إبداعي يرتكز على التخييل، وفضاؤها لا محدود في تعاملها مع الحدث، ومنه لا يمكن التعاطي معها بصيغتها الفنية على أنها رواية توثيقية للتاريخ.
    أسيْد الحوتري في “كويت بغداد عمّان” أراد التوثيق لأحداث تاريخية ولم يذكر مرجعيته التي استقى منها مادته التاريخية، وأسند عملية السرد لشخصيات متخيلة وأحداث افتراضية، والرواية التاريخية في حقيقتها تعتمد على الوثيقة التاريخية أو الذاكرة الشعبية الموثوق في صدقها، مع إلغاء الوظيفة التخييلية التي يمكن لها أن تشوه الحدث التاريخي. وبالتالي لا يمكن عد “كويت بغداد عمّان” رواية تاريخية بالمفهوم التقليدي، بل هي رواية تاريخية أدبية بفهومها الحديث. والروائي نفسه يصرح في متن روايته بأن ما كتبه هو رواية أدبية.
    التساؤل الذي يثيرنا في الأخير هو: هل أصبح من الضروري على التاريخ أن يستنجد بالرواية لتنقله للقارئ؟ أم إن الرواية هي التي أصبح من الضروري أن تستنجد بالحدث التاريخي كوثيقة فنية تحقق لها الانتشار وتضمن لها الخلود؟

    نُشر في (الرأي الأردنية)
    13-7-2023