“ليلة واحدة تكفي” لكشفِ عمرٍ كامل!

“ليلة واحدة تكفي” لكشفِ عمرٍ كامل!


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “الميادين”

    في 186 صفحة من القطع المتوسط، يقدّم لنا الروائي الأردني قاسم توفيق في روايته “ليلة واحدة تكفي” الصَّادرة مؤخراً عن “الآن ناشرون موزّعون” في الأردن حكاية تدور أحداثها في الليلة التي شهدت نكسة حزيران / يونيو عام 1967، وتتخذ من مقهى مفترض مسرحاً لأحداثها. وتمثّل الرواية استمراراً لمشروع قاسم توفيق الذي جسّد البيئة العمّانية في عدد كبير من أعماله، كان آخرها رواية “جسر عبدون” عام 2021.
    هل يمكن أن تتسع ليلة واحدة لمقترح سرديّ يشدّ القارئ ويغريه بمواصلة القراءة ويقدّم له المتعة التي يطلبها والتشويق الذي يرتجيه؟ الجواب يقدّمه لنا توفيق في فصول روايته الأربعة على لسان بطلَيها الرئيسيين المهيمنين على المسار السردي من أوَّله إلى آخره: “وجدان” الممرّضة في مستشفى التوليد ذات القوام الجميل والوجه المشرق والعينين الخضراوين، و”ذيب” العامل في مقهى “الريفيرا سناك”.
    وبينما الطائرات المعادية تسطو على سماء عمّان وتدكّ المطار ومبنى الإذاعة، ودوريَّات الشرطة تكرّر أوامرها بإطفاء الأنوار، والإذاعة تبث الأغنيات الوطنيَّة والبلاغات العسكريَّة وأحمد سعيد يعدّ طائرات العدوّ التي جرى إسقاطها، تدور حياة أخرى في المقهى الذي لجأت إليه وجدان بصفته المكان الوحيد الفاتح أبوابه على طريقها في رحلتها من المستشفى إلى البيت في “جبل القصور” والتي لم يقدّر لها أن تكتمل. عامل المقهى الصموت “ذيب” يقرّر أن يغيّر عادته ويفتح قلبه، ووجدان التي ورثت عن أمها القابلة مهنتها، والتي عاشت حياة رتيبة بعد رحيل حبيبها السابق عيسى بركات الذي كان يعمل مدرساً في الكويت بحادث مأساوي، خفق قلبها من جديد وكانت مستمعةً جيّدة دفعت ذيب لإخراج مكنونات صدره، فالنساء مفاتيح صدور الرجال، وليلة واحدة قد تكفي لكشف عمر كامل!
    هكذا يعود بنا ذيب إلى طفولته، وتمرّده على قراره والده بأن يكون فلاحاً أميّاً وإصراره على التعلّم رغم تعثره الواضح قبل أن ينتقل مع عائلته إلى المدينة، ومنها وحيداً إلى بيروت حيث عمل كعامل تنظيفات في مقهى “جوزيت” ثمَّ مساعداً للساقي ثمَّ ساقياً، أحبت العجوز الثرثارة صمته الدائم فقرّبته منها، ليعود بعدها إلى عمّان كأيّ مغترب قرَّر أن يموت في بلده وأن يعمل في مهنته نفسها. وما لم يكشفه السرد على لسان ذيب تكشفه رسائل احتفظ بها في صندوق داخل غرفته الصغيرة خلف المقهى عثرت عليه وجدان ففضَّت رسائله وقرأتها واحدة واحدة.
    وفي المقابل، نعود مع وجدان إلى زمن نزوح والدها أيوب الزحار من حيفا عام النكبة، حيث تخلَّف عن “عتالي الأمل” الذين قرَّروا البقاء في “حفيرة عرابة” المتاخمة لمرج ابن عامر على أمل العودة القريبة بعد قدوم جيوش الدفاع العربية من شتى الأقطار للقضاء على اليهود، وعن “اليائسين” الذين قرَّروا التوزّع على بيوت أقربائهم وأصدقائهم وأنسبائهم في نواحي فلسطين القريبة، واختار الانتقال مع زوجته وابنته بصحبة سائق الشاحنة إلى عمّان. شاحنة أخرى ستقضي لاحقاً على البائع المتجول الذي لم يؤثر السلامة ويتخلى عن بضاعته وهي كل ما يملك فكان نصيبه الموت تحت عجلاتها ليترك زوجته وداد وابنته وجدان اللتين اختارتا مهنة واحدة تقف على النقيض من الموت المحيط بهما هي الوقوف على ناصية المحطة التي يدلف منها الأجنّة إلى الأرض أطفالاً.
    وهكذا، بالرغم من قصر الزمن الذي تجري فيه أحداث الرواية (ليلة واحدة) إلا أنَّها تلقي الضوء من خلال هذه الأحداث وسواها على تاريخ الشخصيتين والعديد من الشخصيات المرتبطة بهما.
    ويطوف السرد بالخلجات الداخليَّة للبطلين مقدّماً حقيقة ما يشعران به تجاه بعضهما، وما يلمُّ بهما من أفكار وسط الوضع المضطرب في تلك الليلة المشؤومة التي لم يكن اختيار الكاتب لها كخلفيَّة للأحداث وتطوراتها فعلاً عبثياً بل متخماً بالدلالات والإشارات، فالبطل الذي أطفأ الراديو ليلاً على الأغنيات الحماسيَّة والبلاغات العسكريَّة التي تزف تباشير الانتصار القريب، استيقظ صباحاً على بثّ أغنية لشادية قبل أن يخرج صوتٌ غريبٌ لمذيعٍ يقول: استمعتُم إلى شادية في أغنية “قولوا لعين الشمس” من دار الإذاعة الإسرائيليّة في أورشليم القدس بعد أن انضمّت لموجاتنا العاملة صباح هذا اليوم، لينهار وتُلجَم وجدان وتعيد إطفاء الراديو وتتناول حقيبتها وتمضي خارجةً من دون أن تلتفت وراءها.
    ويقول قاسم توفيق عن أجواء الرواية: “هل من المعقول أن تقف أمَّة بكاملها على عتبة يوم واحد من تاريخها لا تبارحه لأكثر من نصف قرن؟ تساؤل عاش معي منذ لحظة استيقاظي في عمان صبيحة 5 حزيران 1967 ولم أكن قد بلغت الثالثة عشرة من عمري، على أصوات زوامير الخطر، وعلى فزع غريب كان يستحكم فوق رؤوس السكان الوادعين الآمنين في عمّان الذين فوجئوا بأعداد كبيرة من الطائرات تغطي سماء المدينة، وكانت منخفضة وقريبة من الأرض لدرجة أن بعض الرجال المعروفين بسعة خيالهم أقسموا أنهم شاهدوا الطيارين الإسرائيليين وقرؤوا ملامح وجوههم وهم يلقون بقنابلهم على أرض المطار. لقد أصبح ذلك اليوم تاريخاً أعظم من كل ما عرفناه من أحداث طوال قرون، فهو لم يمضِ ولم يعبُر؛ بل بقي متسمّراً فينا، ويصدمنا بهزَّاته الارتداديَّة إلى الآن”.
    ويوضح أنَّ “ليلة واحدة تكفي” تحاول الإجابة عن السؤال الكبير الذي وُضع في المقدمة: “هل من المعقول أن تقف أمّة بكاملها على عتبة يوم واحد من تاريخها لا تبارحه لأكثر من نصف قرن؟”. ويتابع: “كان لا بد أن أبحث عن مَخرج لما مر بيّ وما عشته بعد ذلك اليوم وما يزال يؤثر في حياتي. لقد حاولت أن أجعل من لقاء امرأة ورجل في ظروف مُلتبسة وغريبة وفي مكان غير اعتيادي، مدخلاً لنفسيهما، عندما يقرّران الكشف عن أزماتهما وعقدهما وانكساراتهما، وكأنَّهما بهذه العقد يحاكيان حال الأمة كلها قبل ذاك اليوم، ليعلنا أنَّ الهزيمة لم تقع في ذلك اليوم؛ بل كانت مستوطنة في الناس قبل ذلك بكثير”.
    يُذكر أنَّ قاسم توفيق المولود عام 1954 في جنين/ فلسطين، حصل على جائزة كتارا للرواية العربيَّة (2018). وقد صدر له عدد كبير من الروايات والمجموعات القصصيَّة أبرزها: “ماري روز تعبّر مدينة الشمس” (1985)، “أرض أكثر جمالاً” (1987)، “عمّان ورد أخير” (1992)، “ورقة التوت” (2000)، “الشندغة” (2006)، “حكاية اسمها الحب” (2009)، “البوكس” (2012)، “رائحة اللوز المرّ” (2014)، “صخب” (2015)، “فرودمال” (2016)، “نزف الطائر الصغير” (2017)، “ميرا” (2018)، “حانة فوق التراب” (2020)، و”جسر عبدون” (2021).

    بقلم الكاتب والصحفي اللبناني: مهدي زلزلي.