عبد الله المتقي
“متجر الأحلام”، باقة قصصية للتونسية دلندة الزغيدي المقيمة في سلطنة عمان، صادرة عن الآن ناشرون وموزعون، الأردن، عمان، يزدان غلافها بلوحة تشكيلية للفنانة “هاجر ريدان”، وتشتمل على 12 قصة قصيرة، متباينة الموضوعات والقضايا، جاءت عناوينها كالتالي: برشتان، هيلينا، المعطوب، عيشة كلبة، عملاق راكشاساس،خيوط متناثرة، أناركيا،ما ينقب عين الغراب كان خوه، نبض حجارة، حجر المر، ثلاث كلمات.
فما الجديد الذي جاء به هذا المتجر القصصي؟ وما القضايا التي تطرحها؟ وبأية طريقة تقدمها للمتلقي؟
تتصل نصوص المجموعة بموضوعات ذات صلة بشؤون الناس، ومتخيلهم الشعبي في بعده التراثي الخارق والعجائبي، وكذا تاريخهم المحلي الموغل في قدامته، مما جعلها مدونات قصصية ماتعة ولذيذة.
ارتأت الكاتبة في قصتها الأولى، ادخال القارئ في عوالم سحرية وعجائبية، مغرقة في الغرابة والدهشة، هذا التعجيب، يصادفنا بدءا من عنوانها “برشتان” الغامض والغريب ، والذي سيعثر القارئ على دلالته في رحم القصة وتدافع أحداثها ، وهو اسم لمدينه في عالم عجائبي ومفارق لعالمنا، والتي سيدخلها الأمير “مؤمن”، بعد اقتراحه أن يدفن في قبر بعد صدمة غرامية .
وبعد توالي الأيام ، ليكتشف عوالم شاسعة من الإدهاش والغرابة، ولتكون الحورية “نانا ” ، التي ستكون بمثابة دليلا سياحيا تعرفه على عجائبية هذه المملكة الغريبة وساكنتها “قصورها ذات جدران ذهبية ،عزازيل ، رأس يدو ر بزاوية مر تين وسبعين درجة،تمثال البومة ،الأشكال اللاآدمية” ص ، وعلى ملكها ” شتان ” ، الذي سينصبه صلة وصل بين مملكته ” ” ومملكة أبيه” ” ، ليكتشف في النهاية أن أن هذه المدينة ليست سوى مجزرة لأكل اللحوم البشرية ” «يا إلهي! لقد أتيت بأبناء جلدي وقدمتهم قرابين لنانا وشاشا ياللهول “ص 24
نفس العجائبي نقرأه في قصة ” عملاق راكشاساس” ، فبعد انتظار ” نعماء” لمولودها بعد رحيل زوجها ، وبعد تجاوزها الشهر الثالث عشر ، تنجب أخيرا نعماء ” شعلان ” و تكون المفاجأة :” لقد أنجبت نعماء ، ذكرا ضخما مكسوا شعرا يميل إلى الصفرة ، عنقه طويل ورموشه كذلك ، أطلقت الجويرات العنان لألسنتهن ” ص 67
هكذا ، تشرع هذه الولادة الباب للحضور العجائبي ، من خلال ، قوم ” ذوي الشعر الأسود الكثيف المجعد والذ قون الطويلة قد أفسدوا في الأرض” ص 70، كائنات عاثت فسادا ، والتي ستكون نهايتها على يد ” شعلان ” ، الذي انتقم من الجلاد الذي اغتصب أمه أمام عينيه ، وبعد التخلص منه ، بشكل عجائبي ، وفي سياق هذا التعجيب ، تأتي قفلة القصة بدورها أكثر غرائبية :” انتقم شعلان لأمه وسافر حتى على براق النصر حتى القمر ” ص 72
وعليه ، لا يمكن اعتبار ” برشتان ” و” عملاق ” نصين للمتعة فحسب ،بل نموذجا للمكر والإحباط والكشف ما يتعرض له الاطفال من تعنيف ، والحلم بواقع سمته تقديس الإنسان وحقه في الحياة ، وسجلا أيضا لبعض المواقف السياسية ، سياسة لا صلة لها بالسياسوية المتداولة في الصالونات ، ومن تم ، فهي مواقف سياسية جمالية وإبداعية سقتها الكاتبة في كؤوس جديدة ومدهشة
وتساوقا مع هذه الحكائية العجيبة والجمالية ، تمتح نصوص ” متجر الأحلام ” مواضيعها من الواقع الحي والنابض ، حيث تتفاعل مضامين حساسة كالحب ، والقهر ، والمكر ،والمعاناة االزوجية ، غدر الزمان وغيرها مما يكشف اصرار الكاتبة الى تقديم صور مختلفة ورامزة .
في قصتها ” المعطوب ” ، نتعرف على علاقة حب موغلة في الوفاء حتى أقاصيه ، تجمع بين ” إشراق ” ومهذب ” العاشق ، طالب الفلسفة و المناضل العضوي في صفوف الطلبة :” :” عاشر الفلسفة كما لا يعاشرها أحد، لم يكن مجرد عامل من عمالها ، كان يمارسها في الواقع” ص ..” ص45
لكن ، ريثما ينقل هذا الحب من بهجاته إلى حداده ، ليرحل ” مهذب ” جراء معاناته مع تصفية الدم :” تعالت أصوات النّسوة، صياح وعويل وانتحاب بحرقة، اهتزت البلد ة لهذ ا الخبر المشؤوم “ص 43 ، ولا شيء خلفه ل”شروق” ، غير ميراث من الوفاء العضوي لهذه العلاقة الصافية ، في زمن تحول في الحب إلى ما يشبه حلوى مكشوفة ، وعلاقات عابرة ولعبا مغشوشا، ويكفي هذا المقطع دليلا :” خرج من مركز تصفية الدم بين حياة وموت. أمر أخاه بألا يرجع إلى البيت لأنه يريد أن يستنشق عبق الحياة كما لو أنه يستنشقه لآخر مرة ، لم يرفض أخوه طلبه ، ابتسم وسأله :
_ الوجهة ؟
_ ” العامرة ” ص 49
وفي خلفية “العامرية ” نشم ” شروق” ، وحين نفرك القصة أكثر ، نشم روائح العامرية مكانا ، نشم ثانية هجوم البوليس على الحرم الجامعي لإطفاء كل محاولة تعني الاحتجاج :” ضربت أبواب الحجرات حتى كسرت بعضها، و أخرج الطلبة والطالبات في البرد القارس، أيديهم فوق رؤوسهم كأنهم أسرى حرب” ص 48
في قصة ” عيشة كلبة ” ، نقرأ عن ” قمر ” الأرملة الأنثى المقهورة والمنزوعة الحقوق ، التي تقاوم عنف الأيام بالنسيان:” تنسى إن كانت قد تناولت غداءها، تنسى إن كانت قعد أ دت صلاتها “، ص 60 ، نسيان تسببت فيه ذكورة زوجها السادية ، ولننصت إلى بعض النماذج من هذا القهر من عذابات الماضي :
-” ما ناراهوش في المنام ما نراهوش خلاص ، ما تهنّيت وما رضت كان كي مات … الله لا ترحمو ” ص 61
_ ” انقض عليها كأسد جائع نهم، وانهال عليها ضربا بععا كان قد قصها من شجرة زيتون” ص 61
ولا تخفى هنا ، قدرة الكاتبة ومهارتها في اقتناص ذبذبات القهر, جراحات المرأة وLعاناتها من عذابات المجتمع الذكوري بدقة ، رغم التبجح بحقوق المرأة والاحتفاء بيومها العالمي .
وبذلك يكون عنوان القصة ” عيشة كلبة” تحقيقا لكفاية لغوية ، ويعلن منذ البداية نية النص ، ويرسم آفاق انتظار المتلقي ، ويؤسس لاستراتيجية لا تخرج عن مغزى الحدث.
في ” متجر الأحلام ” ، تعددت التقنيات ووسائط التعبير ، من استثمار للتاريخ التونسي القديم كما في قصة ” نبض حجارة ” ،ونعني به التاريخ ، الذي لا يختلف عن الروايات التي همها البحث في أغوار الشخصية التاريخية أو الحدث التاريخي ومحاولة رسم كل ما هو جوهري وعميق في تلك الشخصية أو ذاك الحدث .
وتكتمل متعة الحكي بانفتاح متجر أحلام” دلندا” باستحضار مجموعة من الأسماء من سجل الأسطوري ، من قبيل : ديدون عليسة مؤسسة قرطاج ، عشتار ، بان إغريقي رمز الفاحشة والشبق ، بنلوب الالهة الإغريقية زوجة أوديسيوس ، استحضار يشي بانفتاح قصص المجموعة ، وغناؤها بخلفية المعرفية ثرية .
وللشعر الفصيح والشعبي حضور في قصص ” دلندا ” ، فنقرأ مقاطع لكل من
بدر شاكر السياب ومحمود درويش وكريم العراقي ، ومن الشعر الشعبي نقرأ من التراث العراقي :
” أنا الجريح اللي من يديك مطعون
طعنة غدر من خلف بين كتوفي “
كما نقرأ نصوصا هجينة ” تبسم الشيخ وقعال: «يا بنيتي ها الصوف راهو أسود ومستحيل يبياض ” ص 121 ، «هز زادو وزوادو وشق البلاد على غير بلادو» ص136 ،
وهذه خاصية أسلوبية إيجابية ، من شأنها نقل القصة من خطاب منولوجي أحادي إلى خطاب قصصي حواري بوليفوني متعدد ، ونوع من التجريب بقصد إحداث مغايرة على الشكل والأسلوب الكتابي,
ومن معاني المتعة ، اشتغال الأدب الشعبي في هذه المدونة القصصية الماتعة ، والذي من شأنه إضاءة جوانب من البعد الحواري لهذه الأحلام ، والذي اتسم بتداخل ميراثين تونسي وعربي وشعبي ،والذي يعني أن هذا الأدب مازال على قيد الحياة وفاعلا في الذاكرة الثقافية التونسية ، ونستحضر قصة ” حجرة المر ” نموذجا .
خلاصة القول ، ” متجر الأحلام” ، باقة قصصية ممتعة وجديرة بالقراءة ، تنضاف إلى ريبورتوار القصة التونسية والعربية ، باعتبارها نموذجا للنص القصصي الذي تكتبه المرأة في المهجر ، الذي يمتح من الحكي العجيب ، وسفرية في الموروث الشعبي والأسطوري ، وفي قضايا اجتماعية تغري بالحفر والنبش ، ومن ثم ، فهي متجر قصصي جدير بالزيارة والدخول إلى عوالمه المدهشة .
تبتكر عالما سحريا وعجائبيا يجعل منجزه القصصي مغرقا في الغرابة والدهشة ،