“مغاربة في بيت أمريكي”.. عندما تبدع طنجة فنّاً خالداً

“مغاربة في بيت أمريكي”.. عندما تبدع طنجة فنّاً خالداً


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    عبد الغني صدوق
    (كاتب جزائري)

    الأسئلة مفاتيح العلوم، وفي سبيل فقه الرواية هي دافعة لإشراك المتلقي في عملية الإبداع، إنّ القارئ يمارس الإبداع أيضا عندما يبحثُ عن إجابة محتملة للأسئلة التي تعترضه خلال رحلة السّرد، لذلك يتفطن الكتّاب المتمرسون لأهمية السؤال، فما أن نشرع في مؤانسة المغاربة في البيت الأمريكي إلّا ويأتي السؤال كمادة أوليّة يستندُ إليها سقف المعمار، إذ يقول الراوي: “فهل تقدر طنجة على استدعاء الأساطير القديمة وتكرار عيشها؟”، وكأن الرّاوي ينبّهنا إلى أنّه يستدعي الأسطورة من جبّها لينتف من زمنها ما يفيد نصّه المُقدّم إلى المشرحة، فالرواية في أبعادها الحياتية أصبحت تحنُّ إلى الماضي تحاول أن تسجلّه حرفيّاً بكلّ ما شهدتْ عليه إذ ذاك، وهي امتداد لذلك الزمن تستنطق ما جرى فيه كلّ حين. إنّه عزاء لا ينتهي للفائتات.
    أرى أن الكاتب المغربي محمود عبد الغني -الباحث في حقل الآداب والعلوم الإنسانية- قد أقام محفلًا للفنانين في مدينة طنجة قبل الشروع في كتابة روايته “مغاربة في بيت أمريكي” (الآن ناشرون وموزعون، 2022)، وألمّ بحيواتهم من خلال النبش في سيّرهم، وأشهدَنا بحركاتهم وحواراتهم على عوالمهم الغريبة والعجيبة، مضفياً على أركان البيت ما يزيّنه بالخيال..
    هؤلاء الشخوص لهم من النصوص ما يشبع فضول المهتم، لكن أنْ نجدهم في نصٍّ واحد يقدّمون أفكاراً تساهم في زيادة الوعي الفنّي وصلاح الذوق، فهذا أمر يتطلّب دراساً ومراساً.
    في “البيت الأمريكي” تتفاعل “جين” إحدى بطلات البيت مع أصوات الطيور، إذ بدأت فور سماعها لألحانها تتمايل برأسها المليء بالأفكار والأحلام والمخاوف، هنا صفاء الطبيعة في أسمى تجليات الإبداع، يعكس مدى توق الإنسان للوصول للكمال، إذ يدركُ الإنسان أنّ كلّ اجتهاد لصناعة شيء ما تنقصه بصمة الطبيعة، فقطرة المطر المنحدرة على الزجاج تزيده بهاء، والعاصفة حين تهب تخلّصُ الشجرة من خشاشها وتورق الطريق.. متى نقع في غرام الرواية؟ حين اليقظة المتأخرة لإيقاع الجُمل، أم حين حضور الكاتب بقوة بعد مدّة من الفكاك عن لُجة التنطيط؟
    هذا النّص يقدّم خدمة معرفية أكثر منها إمتاعية، باعث لحقبة طنجاوية، زارها الأمريكيون من كتَبة وفنّانين، كان “بول” -صديق محمد شكري صاحب “الخبز الحافي”- ينتج أجمل نصوصه الخالدة، يقضي معظم الوقت في نسج حكاياته المستلهمة من الواقع الريفي المعيش، يلوح لنا السؤال بين الفصل والفصل: هل الأمريكي في بيت مغربي أم المغربي في بيت أمريكي؟
    ولعلّ الكتابة الإبداعية توقع محترفيها أحيانا في فخاخ، إذ ينفلتُ صوت السارد من قبضة الكاتب بدراية أو من غير دراية، فهو من جهة إمّا مجرّبٌ لصيغة قول ينتظر صداه في قراءات أو آراء أصدقاء، وإمّا متعمدٌ ذلك بداعي أنّ الإبداع الكتابي لا تعوّقه حدود، ففي هذه الجملة مثلًا “لا يظن القارئ الكريم أنّ (شكري) ترك (غالا) وخطيبها الثمل دون موعد” وقفة انتباه تدعو للتريث ثمّ مواصلة القراءة، لأننا سرعان ما نعود للصوت المألوف من البداية، لكن هل إشراك القارئ بمثل مداخلات كهذه ينم عن شعور السارد أنّ هناك غفلة طرأت بغتة، أم أنّ تقنية مفروضة أرادها الكاتب لبلوغ الفهم أو حفظ الحضور؟
    وما نلبثُ أن نجد اعتراف السارد أنّه أمام بطل استدعاه من الماضي لينشر رسالة الأدب، فهو على علم أنّه لجأ إلى توظيف بطل سرد عظيم في نصّه؛ رسول طنجة إلى العالم، نستطيع أن نقول إنّ التقنية لافتة في مجال الرواية المعاصرة، والجرأة على خوضها في حدّ ذاتها مخاطرة، لذلك اعترفَ السارد فقال: “أعرف أنني أمام قوتك مجرد قنطرة ضعيفة بينك وبين قُرّائك”.
    “مغاربة في بيت أمريكي” رواية تنقّب في خصوصيات أدبية، تحاول دمج القيَم الفكرية السالفة في الكتابة المعاصرة وخدمة الأدب مفصولاً عن الإيديولوجيات، ليست شارحة لحيوات فنانين عاشوا في طنجة بقدر ما تلقي الضوء على الظروف والصداقات التي انطلقت منها الرواية إلى العالم.