سونا بدير
كاتبة أردنية
يجعل ماهر القيسي من الشعر رحلة تذكر واسترجاع؛ فها هو يضع بين أيدينا ديوانه الثاني بعنوان “نخبَ هابيل” (الآن ناشرون وموزعون، 2021) محاولا فيه بلورة وجع الوجود ليصير شعرا عذبا، وهو بذلك يكمل ما بدأه في ديوانه “كاهن الطين”، وكأنه يعود بنا إلى أول الخلق وأول الفجيعة وأول المعاناة البشرية التي حُمِّلَها الإنسان المعاصر كما فعل الإنسان الأول، لذلك صار الوجود الإنساني كما يراه مقترنا بالمأساة:
“في البدء.. كان آدم
ثم استيقظت المأساة”.
فالإنسان كما يرى القيسي محكوم بالذنب الحتمي المتوارث، وقد بدأ الإنسان هذا الوجع مذ حُمِّل الحياة:
“بُعيدَ وُلّيتُ الحياة
اعترتني رغبةٌ
بالذنب لا أكثر”.
وبهذه الرغبة التي تبدو بسيطة وخطيرة في الوقت نفسه، صار الوجود عبثا، فلم يحقق الوجود ما يرنو إليه آدم الذي استنطقه الشاعر وجعل كلامه آخر ما نقرأ من الديوان:
“عبثا
تعلّمتُ الأسماء كلها
أنا الذي خَلقتُ خطيئة الأفعال”.
وكأن الشاعر في رحلته الشعرية يحاول العودة بنا إلى أول الأشياء، مستذكرا الهم الإنساني الوجودي ومحلّلا له، فلم يعد يكترث بحرب مع قوة أو أخرى بل صار محاكما لذاته.
فالفصل الأخير يحمل عنوان الديوان، ويحوي قصيدتين هما: “نخبك يا أخي” و”ثلاثة نقوش لذكور العائلة”. وفي قصيدة “نخبك أخي” نسمع صوت قابيل يبكي أخاه، فصوت أحدهما انعكاس للآخر وانكسار لوجوده:
“أنا مذ سقطتَ.. سقطتُ قربك يا أخي
يا ابن المحبة.. يا وجه البراءة
يا أخاً للشر أنت”.
بهذه الغنائية يرثي قابيلُ هابيلَ، معترفا بذنبه، متحملا الوجع بكامله، وهو بذلك يحمل ميراث أبيه:
“هذا الكون عارٍ
منذ أن خصفا على عورتيهما أبَواك
هذا الكون عارٍ
نحن سَوأتُه، انتبه
وأنت وحدك من تدثّر بالفضيلة ثم مات!
كيف مُتّ!”.
بهذا السؤال الذي لا يطلب إجابة قدر رفعه للوجع، ينهي قابيل نخب أخيه المسكوب أبدا.
أما القصيدة الثانية من الفصل الأخير (ثلاثة نقوش لذكور العائلة الأولى)، فقد تضمنت ثلاثة عناوين فرعية هي: نقش هابيل، ونقش قابيل، ونقش آدم.
ونسمع صوت هابيل هذه المرة في نقشه، موجها كلامه لأبيه آدم، يشكو مآله، ويتلو نبوءة القتيل:
“مشهد الأشجار يوحي
أن عَورة إخوتي لا
محالة سوف تُكشَف”.
هذه النبوءة لقتيل لم يعد خط الزمن عنده أفقيّا، فهو يخاطب آدم قبل الخطيئة محاولا تدارك ما قد حدث:
“آدم يا أبي أنقذ بنيك
وكُلْ من شجرة أخرى
ليغادر إخوتي هذا الجحيم”.
وكأن الشاعر يشير إلى حتمية الحكاية البشرية ومعضلتها، فلا يدرك الإنسان الحكمة إلا بعد فوات الأوان، وهكذا كانت نبوءة القتيل.
أما قابيل الذي مثّل الجانب الآخر لهابيل فهو يتحمل ذنبه:
“أورثت إخوتي المهالك”.
لكنه بذلك يذكّر آدم بأنه كان أول المذنبين، فيصير قابيل حمّالا لإرث أبيه لا بادئاً بالخطيئة:
“يا آدم العارف
أنا ابنك الخطّاء
ينزّ الذنب من جلدي
كيف أدفن عاري؟
كيف أواري سوأة الذنب”.
أما النقش الأخير في القصيدة (نقش آدم) فهو النقش الأول بالتسلسل الطبيعي للحكاية، وبها تعود الذنوب كلها إلى أولها:
“فضضتُ بكارة التفاح
واستهلكت توت الستر
هدمت فردوسي
كسرت ضلعي
ثم جعلته للطين فرنا
أحضرت نطفاً تقتتل في برّية المنفى”.
نجد القيسي هنا يعيد تشكيل الحكاية، فجلّى بهذه اللغة رمزيةَ المروي وما يحمله من فجيعة الوجود التي يجد الإنسان المعاصر نفسه أمامها شاهدا مشاركا، وارثا وفاعلا، منتقلا بالمرويات من إطارها الديني لتغدو مفتوحة على المطلق الفني، فيتدخل الشاعر بالرؤى الفلسفية الوجودية ويصهرها شعرا ينطوي على اللذة والمتعة في آن واحد. وما الشعر ما لم يشهد تلك اللحظة التفكيكية للبنى المعرفية المتراكمة!
يتجاوز الديوان شعرية المعنى، فالقيسي لا يكتفي بعرض الرؤى الوجودية، بل يغوص في هذا العمق الفكري بلغة رشيقة تحمل مفردات البيئة المحلية: الخراف، الفتية، القرية، البئر. كل ذلك مع التوسع باللفظة العادية المحلية لتصير شعرية منفردة مكثِّفة لصورة شعرية متفردة: “خراف الأرق، بئر العشم، حنطة القلب”، وبذلك يعود بنا القسيس من الصوت الإنساني الوجودي الذي يتغنى بالألم العام وهموم العالم وقلقه إلى صوت الشاعر الإنسان الذي يحمل هموم ذاته ومكانه، ويعبر عن مشاعره الوجدانية مستلهما التجربة الحياتية، لينجو بالقصيدة من يباس الفكر وبعده نحو حميمية الإحساس ودفء التجربة:
“كنتُ طفلا وكان عرشي على الحقل
لكني اليوم هائمٌ في بحر الثلاثين
معقوفة روحي في سقف حلقي
معقوفة مثل قرن الغزال
وعرشي هدّمته المدينة
هدّمته وهي تسحب خاطري صَفوَه
تسحبه ثم تقايضه معي آخر الشهر
بالمال
مثل البقول”.
إنه بهذا المقطع ينطق باسم كل شاب خرج من قريته قاصدا المدينة الحلم/ المدينة الكابوس. فالقرية من أهم بؤر النص الشعري؛ وقد تجلت صورتها في أكثر من موضع في الديوان، فهي تمثل الطفول البكر ومهد البراءة، فظهرت بصورتها الرومانسية وأهلها:
“معظم سكانها يطعمون المواشي بالكفّ”.
نجد القرية وأهلها بصورتهم الجميلة البسيطة معادلا موضوعيا لماضي الشاعر وطفولته، إذ يعبر عن تقدمه في العمر ومرور السنوات عليه بتغير صورته في عين القرية البسيطة:
“صرن يصافحنني من وراء القماش
كي لا يبطل في أجسادهن الوضوء
بطّلن يحتضنني
إذا مررت من عندهن
نسوة الحيّ”.
وحين تحضر القرية شعرا، لا بد أن نجد المدينة أيضا، فالشاعر يعبر عن مرور الزمان والمكان به، وما تركه هذا التحول في ذاته ووجدانه، وإذا كانت القرية هي المأمن والذكرى والانتماء، فإن المدينة تمثل النقيض: الأضواء والبرد والجفا. لذلك ينتصر الشاعر للقروي فيه:
“أنا ابن القرية يا حبيبتي
أنا ابنها.. ونظرة القروي التي تستكثر أضواء المدينة لي
وأطفالنا كانوا سيقطفون الزيتون فيما لو أتوا!”.
لكن الشاعر لن يجعل من القرية حبيسة الذاكرة بصورتها الرومانسية، بل يحاكمها الآن بعيون الواقع بعد مرور الزمن عليها:
“القرية التي مرغت أقدامي بطينها
ورسمتها في الدفاتر
صارت حبيبة الإسفلت.. دخلت التنظيم”.
فهل صارت القرية مدينة! وهل يطلب الشاعر من قريته أن تبقى سلّة للحنين! أم إنه يحاكم نفسه أيضا بعد أن أصبح بعيدا عن القرية التي لا بد أنها تغيرت:
“الأشجار التي كنت أرتمي تحتها فرحا
صارت تثمر وأنا في الوظيفة”.
وبهذا، يقف الشاعر على القرية خارج الزمن، واصفا لها على تغير الأزمان والأحوال، جاعلا منها معادلا موضوعيا للطفولة والفطرة الأولى.
ولأن الشاعر ينطلق من تجربته الذاتية، فإنه ينسج لنا الشعر بخيوط يتداخل فيها العام بالخاص، فالأب في أكثر من موضع هو السلطة والجلاد ومَن أورثنا الخطيئة والمأساة:
“ربما لا أميز وجه أبي من وجه الجلاد
لذلك أنا الآن أبكي
ربما أبي الجلاد
لهذا لا تفيد الدموع!”.
فكيف تفيد الدموع ونحن أبناء الجلاد، أبناء الخطيئة الأولى وورثتها:
“أما أنا
فابن الرعشتين والبكا
إرثي زلة واشتهاء
لذا.. أسقط مغشيا عليّ
كلما لاح وجه أبي مشروخا في مرايا السؤال”.
لكن الشاعر رغم إقراره بحمل هذا الإرث يقرر التمرد عليه بذاتيته، فما الذي يملكه الإنسان إلا الشعر والذات أمام هذا الوجود:
“معتم أنا والصبح لا يعنيني
لذا من حقي أن أكتب قصيدة أخرى
تجعل أبي أكثر ندما من امرأة أمية”.
فالقصيدة حيث هي النور الناتج من إطالة النظر في المعتم، هي أيضا تلك الشمعة التي ينذرها الشاعر في وجه الريح، وبذلك يصير الشعر فعلا ثوريا، يظهر الشاعر متمسكا بنصيبه من هذه العتمة:
“أيها المبجل يا ليل
أنا ولدك… (ماهر المعتم)
وأريد قصيدتي منك يا أبَتِ!”.
لكنه لا ينسى صورة الأب الحاني، وإن كانت (أمنيات لا تتحقق):
“أريد أبي بقامته الطويلة.. لا بجيبه الملآن!
بوجهه الحاد.. لا بلحيته البيضاء”.
أما الأم فهي الأم الحقيقية، التي يمارس الشاعر بذكرها إنسانيته بأكثر صورها دفئا، فهي الاستثناء من مادية العالم المعاصر:
“إلا أمي.. (فضة)
فضّة الراضي الضيف الله العبد الحي
ياما أغدقت جرّة العمر بالعسل!
وياما لفّعت ضلوعي بالأمان!”.
وجعل القيسي الأم معادلا موضوعيا للوطن والبلاد في أكثر من موضع، وإن بدت في تلك الصور مستضعفة فإنها تحمل وجه العطاء والخير أيضا:
“قال لي أخي إن أمي حقل كبير
من حينها وأنا أرى المنجل في يد أبي
وأرانا نتطاير حولها كالجراد”.
وفي موضع آخر تبدو الصورة صريحة:
“مسحة من تشابه يا الدلال
بين ما تسكبين في الفناجين..
وبين دمي
بين دمي.. والبلاد
بين البلاد.. والتي أنجبتني”.
بهذا، فإن الأم مرآةٌ للوطن، والعلاقةُ الأبقى بنظر الشاعر الذي خبرَ تغير الأحوال، حيث يصير الصديق عدوا:
“والأصدقاء.. تفرقوا
مرّروا حقائبهم من خلف ظهري
ومشوا من أمامي مصطنعين مكالمة هاتفية!”.
هذه حال الحياة، فكل شي فيها يتقلب:
“والأصدقاء
الذين تدفّقنا معا في الصبا نحو الشعاب
صاروا حصىً مصقولة في سيول الحياة!”.
هذا لا يمنع تغني الشاعر بالصداقة أحيانا، لكنها الصداقة المحصورة بالتذكر والمقرونة بالطفولة:
“كان لي صديق يحب الليل
والخيل، والجيرة، والشاي
والحديث عن الأحبة الراحلين”.
وقد تكون هذه الذكريات سببا ليلين قلب الشاعر ويصفو:
“يا رب فلتغفر له
هذا صديقي
ربِق قلبي هذا الفتى
اغفر له سمرة الوجه
خوف الظلال
حبه للشموس”.
ويُلحَظ هنا أن هذا الصديق ابن القرية أيضا، وابن الحياة والتجارب.
بذلك يأخذنا القيسي إلى أقاصي الأشياء؛ من الأب رمزاً للقوة وللأمان إلى الأب رمزاً للسلطة، من الأم برباط الحليب والدعاء إلى الأم الحقل، من الحنين للقرية وللبراءة إلى جلد التغير والانسلاخ وإرث التعب والضنك، من الصديق في الذاكرة شريكا في المصير إلى الصديق الذي يتنكر.. من اليأس من الإصلاح والتغيير: “اتركيني متعباً كالقرى/ واغسلي كفّيك مني/ لا شيء يُصلح هذا العطب!” إلى ذروة الأمل بالتغيير والثورة والتحرر والوقوف بتجرد ووضع “الحياة على الطاولة”:
“ماذا لو قلنا للموت: لن نجلس قبالتك
لن نمرر الحياة من تحت الطاولة
ماذا لو قلنا لأنفسنا
إن الكلام الدافئ هو الذي يجعل لنا عيونا
ترى في الظلام
هو الذي يدلّ كفوفنا إلى بعضها بعضا
في غمرة الخوف
ماذا لو قلنا إننا لن نموت بإذعان
سندرّب أنفسنا على الحياة”.
هكذا، يأخذنا ماهر القيسي في رحلة تذكُّر وتأويل، جامعا بين الأضداد، واضعا الذات والآخر والوجود والحياة والموت أمام محاكمة شعرية، تهضم الواقع والمتوقع وتسكبه نخبا للجمال.