“هكذا تكلمت خالتي أم يعرب”.. للكاتبة وجدان الصائغ..حين تحارب الموت بالضحك

“هكذا تكلمت خالتي أم يعرب”.. للكاتبة وجدان الصائغ..حين تحارب الموت بالضحك


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “غيمة الضحك تهطل من سماوات الحجرة التي بدت سريرًا واحدًا بأغطيته وأفرشته والتحام الأجساد التي لم تترك قيد أنملة فارغًا لتورق خدرًا لذيذًا، الأرجل تنعقف وتتقلَّص تتقرفص لكيلا تصطدم بأرجل أخرى في الجهة المقابلة من الحجرة، الأجساد تتكوَّر لكيلا تأخذ حيزًا أكثر ولتعطي مساحة لغيرها”.
    هكذا يقاوم هؤلاء المهجرون من منازلهم ومدينتهم كل تلك الأهوال بالضحك. يجتمع 27 شخصًا في حجرة ضيقة بالكاد تستوعب أجسادهم متراصة كأعواد الثقاب، لكنها تضيق عن أحلامهم التي تناطح السحاب، إذ يرجو كلٌّ منهم الأمان مثلما يتراءى لمخيلته، وإن رضخ كلٌّ منهم لانتهاك الخصوصية في أصعب صوره، فينامون متراصين كلٌّ وزوجه وأبناؤه دون مكان لفاصل ولو رقيق يحفظ لكلٍّ سره، بل إن الأسرار لا مكان لها سوى في القلوب، ولا مكان لإشباع أي رغبة عدا النوم والطعام.
    وصف الموت من بعيد ليست كمعاينته.. الرواية الصادرة حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 326 صفحة من القطع المتوسط عاش أبطالها مع الموت أيامًا ولياليَ مهجَّرين ومطاردين، من مدينة إلى أخرى، حتى حانت اللحظة التي يفرون منها وكأنها حلم يأتي بطيئًا.. فلا تفلح النهاية شبه المفتوحة أن تخفف من وطأة الموت الذي يحيط بالجميع، وإن أفلحوا في تأخيره فإنهم لم ينجحوا في الفرار منه.
    غادرت شهرزاد وأسرتها تلك المدينة المزعومة؛ “كمِّ الوردة”، مدينة أحلامها، فارين إلى بيت خالتها أم يعرب في مدينة أخرى متخيلة كذلك، ألا وهي مدينة “النرجسة”، فرارًا من طوفان قذائف السيد الرئيس، ذلك الرئيس الذي أطلق أوامره بالقضاء على كل معارض له، ولا يهم إن كان سيحيا وحده في بلاد الواق واق؛ التي آثرت مؤلفة الرواية إطلاقها على تلك الدولة العريقة التي امتدت حضارتها موغلة في القدم بطول الرافدين “دجلة والفرات”.
    لخًّصت الكاتبة وجدان الصائغ تجربة الوطن المنتهك بيدي بعض أبنائه في كلمات تضج بالحسرة والأسى، قادرة على تصوير سنوات من الظلام الدامس، والقسوة اللامتناهية عاشها العراق كسلسلة من الأحداث التي ترتب بعضها على بعض، قائلة:
    “إن وطنًا مطاردًا أنت فيه كفأر ليس وطنًا، إنما هو حفنة من الكلمات التي عليك أن تتخلَّص منها كما يتخلَّص الأجرب من جلده، لتبقى بوجه شائه لا فكاك منه. هي الأوطان مثل الهبات، وطن يهبك الإحساس بالأمان ووطن يسلبك الإحساس بالأمان، الأوطان مثل الآباء، وطن يرعاك صغيرًا ويحنو عليك كبيرًا ويلم ثراه رفاتك ميتا، ووطن يغتصب طفولتك ويغتال مباهجك صغيرًا ويرمي بك في قلب الهاوية لتجد نفسك بلا قبر، بلا ذاكرة، بلا ناس، تعيسًا تضرب عمق الأرض بلا هدى، باحثًا عن الخلاص من غضب السيد الرئيس. إحساس غريب أن تشعر بأنك فراشة في خضم ثورة اللهب تلك، ربما ريشة في وسط عاصفة هوجاء لا سلطة لك على شيء حتى على جسدك”.
    ولشديد الأسف أن ذلك الوطن الذي وصفته الكاتبة لهو عاجز عن أن يمنح أبناءه أي شيء، لا الحماية ولا الإحساس بالأمان، ولا حتى يكفل ميتة سوية.
    فيا لها من أوطان غربتنا حتى عن ذواتنا، وكتب علينا أن نفني أعمارنا في التكيف مع كل ما اقتضته علينا أقدارنا، دون حول منا أو قوة!
    من الجدير ذكره أن وجدان الصائغ حاصلة على شهادة الدكتوراة من جامعة الموصل، عملت أستاذة للأدب العربي والبلاغة في عدد من الجامعات العربية لأكثر من ١٥ عامًا، وعملت في تدريس اللغة العربية ومادة الإعلام العربي في قسم دراسات الشرق الأوسط – جامعة ميشيغان منذ عام ٢٠١٠ وحتى الآن.
    نشرت أكثر من ٢٤ كتابًا نقديًّا في نقد الشعر والرواية والمسرح وأدب الطفل وترجمت بعض دراساتها النقدية إلى اللغات الأخرى مثل كتاب «اللؤلؤة والبحر: قراءات في شعر علي عبدالله خليفة»، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، ٢٠١٩، والذي ترجم إلى اللغة الفرنسية وصدر عن دار لامارتين – فرنسا، ٢٠٢٠، وإلى اللغة الإنجليزية وصدر عن دار يوني فيرس، أمريكا ٢٠٢٢، نشرت بعض دراساتها النقدية باللغة الإنجليزية، وآخرها كتابها النقدي «برقع وأحمر شفاه، قراءة في ثلاث روايات عربية»، بالاشتراك مع الشاعر توماس زيمرمن.
    حصلت بعض كتبها النقدية على جوائز منها جائزة إبداعات المرأة في الأدب عن كتابها «الصورة البيانية في النص النسائي الإماراتي»، الشارقة ١٩٩٨، وجائزة أفضل كتاب مطبوع للأدباء الشباب عن كتابها «الصورة البيانية في شعر عمر أبي ريشة»، من وزارة الإعلام العراقية ١٩٩٧، جائزة العفيف للآداب عن كتابها «العرش والهدهد، قراءات في القصيدة اليمنية»، اليمن، ٢٠٠٥.