نايف النوايسة
ليس من السهل قراءة عمل روائي تماس مع الأحداث التاريخية والأشخاص الذين صنعوا تلك الأحداث، أما نحن الذين نتزامن مع هذه الأحداث ونقرأ من سير الأشخاص أوراقا ونلمس من آثارهم ما يستوقف، فعلينا أن نعيد النظر مرات ومرات؛ فالمعاصرة حاجز، واقتحام الأحداث المعاصرة يحتاج إلى دقة ودراية بأمور الناس وخواطرهم، فضلا عن الفنية العالية المتبعة في هذا العمل.
تكمن الصعوبة في العمل الروائي الذي يستند إلى أحداث تاريخية -ذكرها مؤرخ ما كوقائع مرتبة على منهج له فلسفته- بضرورة الركض في مضمارين انطلقا من نقطة واحدة وينتهيان إلى نقطة واحدة أيضا. هذا العمل هو الذي أنجزه الروائي أحمد فراس الطراونة بعنوان وادي الصفصافة .
يأخذني عنوان الرواية إلى مدى بعيد في التأويل.. وأنا من الذين يأخذون العمل الإبداعي بجدية واحترام لكل حرف وإشارة واردة، لأنها ما وردت عبثا حتى وإن لم يجد المبدع تفسيرا، فعلينا ان نؤول.. فوادي الصفصافة الذي جعله الروائي عنوانا لروايته هو المكان الجغرافي المتعين والمعروف بحدوده على الأرض. والناقد لا يقف عند ذلك كثيرا، وإنما يتجاوزه إلى ما يخدم رؤاه التحليلية المفككة للرواية، بمعنى لا بد من التعامل مع المكان النفسي الذي تولد، فحركة الأشخاص ومسار الأحداث يتمان على المكان الروائي الذي ينبغي أن يستقل إلى حد كبير عن المكان الجغرافي، ليحقق البعد الفني الذي تسعى الرواية إلى الارتفاع إليه.
إن الوادي الوارد ذكره في الرواية هو الذي ارتبط بشجرة الصفصافة، ولولا هذه الشجرة لأطلق عليه اسم آخر. وغالبا ما نجد الكثير مثل هذه التسمية في بيئتنا الأردنية، غير أن شهرة هذا الوادي لم تتأت من وجود الشجرة فيه، وإنما من الأحداث التي ورد ذكرها في الرواية، وكان بإمكان الروائي أن يحصر أحداث روايته في قريته ويحقق من وراء ذلك مصلحة خاصة ترتقي إلى حد ما إلى مستوى السيرة الذاتية للمكان، أو كما درجت التسمية في الوسط البلداني: حكاية مكان .
لكن الطراونة خرج من قبضة المكان الخاص والضيق على أهميته، إلى المكان العام، على أهميته أيضا، لأن الصدق الوقائعي والفني كان هاجسه، فوق أن طبيعة الأحداث ومسارها لا يمكن قلبها إلى حد التزوير ومجاوزة الحقائق وتحويل مسارها، بحيث تنهد العلاقة ما بين المضمارين المشار إليهما قبل قليل.
ونحن ما نزال في حقل التأويل. فلو قلبنا اسم المكان ليكون صفصافة الوادي ، فإن ذلك لا يخدم الرواية، لأن الأحداث ارتبطت بالوادي وليس بالشجرة، بمعنى أن الشجرة جزء من الوادي، ومعرفة به، لكنها ليست هي الوادي الذي استوعب الحدث وأسهم في تناميه في الرواية. فالانتقاء للعنوان دال على طبيعة المرحلة والأحداث والشخصيات على النحو الذي يتفق ورؤية الكاتب. والعنوان متصل بجسم العمل البداعي وروحه، ولا يمكن تفصيل العنوان بعيدا عن الحالة الشعورية للمبدع أثناء عملية نسج الرواية.
ترك الطراونة مفاتيح الدخول إلى عمله الإبداعي عند العتبة الأولى له، وهي عملية توريط مهمة لإغواء القارئ بالدخول، حتى إذا دخل ألقى القبض عليه في أروقة النص إلى أن تنتهي الرواية. فالعتبة العتيدة تكشف عن التواؤم اللافت ما بين الإنسان والمكان والزمان.. فالكل ينتظر أحمد ، العائد من بلاد الغربة، ليتورط بمجرد وصوله بغربة جديدة هي الغربة النفسية. لكنه شخصية محورية في البناء الفني للعمل. هو المحرك لأحداث الرواية داخل مسارها الذي تنتقل الأحداث به من قضية محلية إلى قضية كبرى. هذا هو شأن المبدع الذي يغير الرأي العام بطريقة غير مباشرة، مختلفا بذلك عن السياسي الذي يوجه الحالة إلى تحقيق مكاسب له. ويتداخل المكان والزمان في الرواية على نحو يكشف أن من يعش لحظة انتظار لا بد له من مكان ينتظر فيه.
الدخول إلى فضاء الرواية يحتاج إلى التنبه للثنائية الظاهرة في هذا الفضاء، وقد خدم هذا الأسلوب في تسليط أضواء كاشفة على العديد من المفاصل التي تتشكل منها الرواية؛ أحمد ووالده ثم أحمد وحشمت، وأحمد وامه، وحسن وبدر، والمتصرف وقائد الحامية، ووالي الشام وسامي باشا الفاروقي، ودمشق والكرك. كل هذه الكتل تتحرك لتخلق حالة ذهنية خاصة، وقد لا يلمس القارئ ذلك إلا إذا انتهى من قراءة الرواية واستذكر منها ما يساعد على التحليل.
ما بعد تخطي العتبة الأولى، يصبح أحمد /الشخصية الرئيسة في الرواية، وجها لوجه أمام محركات السرد. الصندوق هو بؤرة الانبثاق إلى المضمارين. الصندوق بأوراقه هو الصفصافة بواديها؛ وخطورة ما يخفي الوادي ببطنه يتعادل مع ما يخفي الصندوق بأوراقه. ما بين المكانين تشابه كبير في المستوى الصوتي الذي تحققه حروف الكلمات ودلالاتها النفسية؛ فالصندوق بغموضه وفضائحية حروفه لا يقل تأثيرا عما يترشح من دلالات من كلمتي وادي الصفصافة .
تبدأ الرحلة السردية في الرواية بالتمهيد لقيمة الأرض ودور الإنسان في إغناء هذه القيمة وترسيخها كثوابت تقتضي الدفاع عنها بكل الإمكانات. وأحمد هو نتاج ما بعد الثورة، ويمثل الانطلاقة الصاعدة تجاه المستقبل، أما الجد حسن فهو الركيزة التي قام عليها البناء، واكتملت بدمه الذي سال على مذابح الحرية، دورة جديدة متجددة للحياة. بمعنى أن ثورة الكرك هي ثورة إيجابية حققت أهدافها المدنية، وإن لم تنجح عسكريا، إذ وصلت إلى نتائج جيدة ألمح اليها الكاتب في ثنايا الرواية في أكثر من موقع.
تبدأ الحكاية / النواة داخل معمار الرواية بثلاث كلمات مهمة تضفي على النص مسحته الصادقة، بقول الكاتب في الصفحة الخامسة عشرة: المساء يوغل في الوحشة . هذه الكلمات هي التي يترتب عليها البعد الزمني على القاعدة المكانية من خلال الشخصيات التي تخطت العتبة الأولى، ثم مرت عبر محور الصندوق لتركض في مضمارها الذي خطه لها السارد. ويمضي الطراونة إلى تركيب الظلال ونوابض الحركة على مفارق المضمارين بقوله: والخريف يلقي بظلاله على أرواح الناس عملية متقنة لتحريك الآلة السردية بتماسك متين لم ينفرط عقده حتى نهاية الرواية.
ونحن حين نجمع ما توارد على الخاطر من ملاحظات على النص، نصل إلى توليفة إبداعية قوية في مضمونها عالية في بنائها الفني. نلاحظ أن الرواية قامت أحداثها على عشرة فصول، وكل فصل تضمن مشاهد عدة، وصلت إلى مائة وعشرة مشاهد، وتتفاوت جميعها بطولها حسب المواقف والأزمات.
تنبثق شرارة الثورة من تلاقي أفكار حسن من الشراقا، وأفكار بدر من الغرابا، على أرضية التفاهم. هذه الأفكار التي وجهت الرأي العام لمواجهة الظلم التركي الذي استند إلى عقيدة الطورانيين ومن تبناها من جمعية الاتحاد والترقي التركية، والتي قلبت نظام الحكم لصالحها على حساب كرامة الشعوب الأخرى المستعبدة للإمبراطورية التركية.
إن الخروج من قوقعة العزلة العشائرية والجهوية كما تحقق لحسن وبدر، هو إنجاز بحد ذاته، لأن مقاومة العدو الواحد تتطلب جهدا واحدا لا مناص منه. من أجل هذه الرسالة السامية سارت حكاية الرواية في مضمارها بتوجيه من الروائي. وفي المضمار الآخر كان أحمد يركض مسرعا ليحقق مبادئ الثورة ويتلاقى مع السارد عند النقطة الأخيرة بتحقق الهدف من هذا العمل. حسن الأول يسلم روحه على مقاصل الحرية، وحسن الجديد يستلم روحه من منازل الانطلاقة للبناء وإعلاء راية الحرية.