“وراء السحاب”: فصولٌ من سيرة نضالٍ وكفاحٍ

“وراء السحاب”: فصولٌ من سيرة نضالٍ وكفاحٍ


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    عبد الستار الجامعي

    صدرت، حديثاً، عن دار الآن ناشرون بالأردن، الطبعة الثانية من السيرة الذاتية للكاتب الجزائري الطيب ولد العروسي التي اختار “وراء السحاب” عنواناً لها. وهو عمل يصحّ، من الناحية الأجناسيّة، أن نطلق عليه اسم سيرة ذاتية، بمعنى أنّ الكاتب كان وفيّاً، إلى حدّ بعيد، بالشرائط الأجناسية للسيرة الذاتية. فالقارئ يعثر، منذ البداية وفي محيط الخطاب، على مؤشّر أجناسيّ خارجيّ واضح، وهو العنوان الفرعي الذي يتمثّل في مصطلح سيرة ذاتية الموضوع على الغلاف، ويخوّل له، منذ البداية، اعتبار هذا العمل سيرة ذاتيّة. إلى ذلك، فالقارئ يعثر، منذ البداية أيضا، على ما يصطلح عليه الناقدُ الفرنسي فيليب لوجون بالمثياق السير ذاتي الذي يؤكّد من خلاله الكاتب أنّ كلّ ما سيورده، من أحداث وشخصيات وأفضية زمانية ومكانيّة، إنّما هو يندرج في صلب الواقع، ويمكن إخضاعه، بالتالي، للمحاكمة والاختبار، رغم أنّه لا يشكّل، بالضرورة، مسار حياته كلّها. ومن الواضح أنّ الكاتب كان يستشعر هذه المسؤولية الثقيلة التي أُلقيت على عاتقه بمجرّد أن شرع في التحبير لمشروعه السير ذاتي الذي يظلّ، كما يبدو واضحاً من خلال الخاتمة التي توجّ بها الكاتب سيرته، مشروعاً ناقصاً وغير مكتملٍ، بمعنى إنّه مشروع سلّط من خلاله الكاتب الضوءَ على فترة زمنيّةٍ محدّدةٍ من حياته، تبدأ بطفولته وتنتهي عند لحظة مغادرته أرض الجزائر ووصوله أرض فرنسا، هناك أين سيستقرّ إلى لحظة تأليفه هذا الكتاب. أقول، إذن، إنّه من الواضح أنّ الكاتب كان مُدركاً لعبء هذه المسؤولية التي ألقيت على عاقته لحظة قرّر تدوين سيرته، وهو ما يظهر في تذكير نفسه، والقرّاء من بعده، بالآفات التي ربّما ستؤثّر في أحداث سيرته، فخيّر أن يكون صادقاً مع الأخير، ومع نفسه في المقام الأوّل، محترماً لشرائط الكتابة الأجناسية لهذا الجنس الأدبي المخصوص، وأشار إلى أنّ ذاكرته ربّما تخونه، في هذا المستوى، عن استحضار الأحداث التي عاشها كلّها وعلى وجه التمام والكمال، فينسى البعض منها (ص،11)، وقد ينسى أهمّها. ولهذا أراد الطيب ولد العروسي أن يكون صادقاً مع قرّائه، وهو لم يكتف بذلك، بل كرّر هذا الأمر في خاتمة عمله (ص،200) تكراراً لا يبدو، إذا ما قرئ سيكولوجيّاً، بلا مسوغ، فهو قد جعله آخر ما يعلق في ذهن قارئ سيرته من كلام، حتى يبرئ ذمّته من أيّ تأويلٍ خاطئ أو مجانبٍ للصواب من لدن القارئ. ولكن ذلك لا يمنع من القول إنّ تأكيد الكاتب، وإعادة تأكيده، دور الذاكرة والنسيان في الكتابة السيرة الذاتية، ربّما يكون حيلةً سرديّةً توسّل بها لغضّ الطرف والقفز عن أحداثٍ لم يشأ أن يذكرها وخيّر عدم تحريكها وإظهارها على السطح من جديد، لأنّها قد تكون غير ملائمةٍ لسياق الحال، وقد لا تحظى بقبول قرّاء سيرته، المحليّين منهم خاصّة.
    ولكن ذلك لا يمثّل، على ما يبدو، عائقاً للطيب ولد العروسي من أجل المواصلة في المشروع الذي نذر نفسه له. وهو يورد السبب المهمّ الذي دفعه إلى ذلك، ويقول: “إنّه تمرين سيُخلخل، وقد يُريح، أناي التي عاشت فصولاً صعبةً كرفاقي جميعهم…”(ص،11). وههنا يشير الكاتبُ بالبنان إلى أمر في غاية الأهميّة؛ ألا وهو وظيفة الكتابة التي تصبح، ههنا، نوعاً من أنواع العلاج، والتي يتّخذها الكاتب عنصرَ طمأنينةٍ وسكينة على نفسه. فالكتابةُ تُخفّف عن الكاتب ألم تذكّر الماضي، وتمنحه فرصة الارتحال من واقعه نحو عوالم مضت وانقضت، من أجل إعادة تفكيكها وتحيينها من جديد. وكما توجد أساليب للعلاج بالموسيقى، وبالفنّ وبالترفيه، توجد، كذلك، أساليب للعلاج بالكتابة التي لا مندوحة عنها في نظر الطيب ولد العروسي، ويُمكن أن يكون فيها، هي بدورها، التخلّص من عبء ذلك الماضي القاسي والتعيس وقذفه و”تفريغه” في شكلٍ كتابيّ مدوّن.
    والناظرُ في خطاب هذه السيرة يلحظ أنّ الكاتب قد اتّبع، جريا على مهيع كتّاب السير الذاتية، مساراً كرونولوجيّاً ينطلق من مرحلة الطفولة، عالم البراءة وعالم التطلّعات الأولى، كما يسميّه (ص،11)، وما صاحبها من أحداث وأزمنة وأمكنة عاش فيها الكاتب وظلّت محفورةً في ذاكرته فلم ينساها، مستعملاً في ذلك لغةً على درجةٍ مقبولةٍ من الوضوح والصراحة في تصوير الأفكار وتحديد المواقع الجغرافيّة ودقّةٍ في التعبير عن المكنون وسلامةٍ في النطق، وقِصَرٍ في العبارات دون إغراق في التفصيلات واختصار في الفقرات. ولقد احتلّت الطفولة مساحةً لفظيّةً واسعة نسبيّاً، امتدّت على حوالي تسعين صفحةً، بما يشير إلى صعوبة هذه الفترة الحياتيّة المليئة بالأحداث وإلى عدم قدرة الكاتب نسيان هذا الماضي الأليم، وكما امتدّت على أماكن وأفضية متنوّعة مرّ بها الكاتب فترك أثراً فيها وانطبعت هي في خياله، فما نسيها رغم تقدّم السنون؛ فمن قرية “سيدي محمد الخيذر” إلى مدينة “البيري”، مرورا بـ”شلاّلة العذاورة” ووصولاً إلى الجزائر العاصمة، قبل أن ينتهي به الحال مهاجراً مقيماً بمدينة مرسيليا، ثمّ إلى باريس أين يقيم هناك إلى حدّ الآن، يتدرّج الكاتب في ذكر هذه الأماكن وما تمّ فيها من أحداثٍ وما خالط فيها من أناسٍ تدرجّاً منطقيّاً ومقبولاً ومناسباً لماضيه التاريخي، لأنّ الكاتب لم يسع إلى خلخلة هذا النظام الزمني الذي هو من أهمّ شروط الكتابة الأجناسيّة السير ذاتيّة، الأمر الذي قد يُساعد القارئ على تكوين رأي عامٍّ حول سيرته، فلا ينفر منها ولا يتعجّب، ويُبدي اقتناعاً بدور السارد الحياديّ الذي اكتفى فيه، أو تظاهر بالاكتفاء، بذكر خصوصيّات المشاهد وما تتطلّبه من حيادٍ موقفيّ إزاءها. وربما يتمثّل الاستثناء الوحيد في ذلك لحظة حديثه عن والديْه (ص، 57- 58- 61- 63…)، الذيْن يشكل حضورهما في سياق الأحداث أمرا مهمّاً. فالكاتب لا يترك فرصةً سرديّة إلاّ ليخلّد ذكراهما، فيبيّن علاقته بهما، ويبرز، في حساسيّة مرهفة وضمن مسلك بيانيّ أساسه الكشفُ والصراحةُ والدقّةُ والاعترافُ، اعتزازه بأنْ كان ابناً لهما، وحنين إليهما حتّى وهما قدا غاب عن أنظاره منذ مدّة ليست ببعيدة. وهو أمرٌ معلومٌ لكلّ من يعرف الطيب ولد العروسي عن قربٍ. وهذا السبب هو الذي جعله يضرب صفحاً، أحيانا، بالنظام الخطي الذي اتّبعه في تشكيل أحداثه منذ البداية، حيث يُصبح الحديث عنهما بمثابة نوعٍ من التداعي الحرّ الذي لا يلتزم بأي شروط، ولا يستجيب لأي نظام زمني محدّد.
    إلى ذلك، فإنّ الكاتب لا يترك الفرصة تمرّ في خطابه دون أن يقدّم بسطةً شافيةً كافية عن هذه الأمكنة التي مرّ منها وأقام فيها حيناً من الدهر، فسعى إلى ذكر خصال كلّ منها، وميزاتها وموقعها ومكوّناتها (ص، 65- 72- 102…). وهو أمر في غاية الأهميّة، شرط ألاّ يُنسي ذلك غاية الكاتب من الكتابة، لإيمانه بأنّ التعريف يُعدّ وسيلةً من وسائل الإقناع في خطابه، حيث إنّ الطيب ولد العروسي يلجأ إليه للتعريف بحقيقة المكوّنات السرديّة لخطابه، ورسم خطوطها الكُبرى وتوضيح ماهيّتها، حتى تكون دليلاً على الأحكام التي يريد إثباتها في ما يلي مِنَ الخطاب. وقد يتّخذُ التعريفُ صيغاً سرديّةً متعدّدةً، بيد أنّها تشترك، على تعدّدها هذا، في كونها ذات طبيعة حجاجيّة من شأنها تزويد القارئ وإنارة ذهنه وتوجيهه نحو قراءة معيّنةٍ منذ البداية.
    تكشف سيرة الطيب ولد العروسي عن ظاهرة حزنٍ وألم، تتلخّص بمواضيع اجتماعية عديدة برزت أثناء الحرب وبعدها، كالجوع والمرض والتخلّف والاستعمار، وكان الهدف من وراء ذلك الإشارة إلى الحالة السيّئة التي كان يعيشها الفرد الجزائري في هذه الفترة الحالكة التي عاشتها الجزائر…فكأنّ الطيب ولد العروسي قد قرّر، في بعض الفترات، حمل لواء الدفاع عن الفئة المتضرّرة التي يشبهها وتشبهه، وينفض غبارَ النسيان عنها. ففي كثير من الأحيان تتحوّل السيرة عنده من سيرة ذاتية هدفها التبئير عن حياته هو الشخصيّة إلى سيرة غيريّة يسعى من خلالها إلى تسليط الضوء على معاناة الآخرين…فالكاتب لا يجعل من فرديّته هاجساً يشغله. وهو، في كثير من الأحيان، لا يعني بذاته، “إنّما ينحرف اهتمامه الى تصوير أسرته وأقرانه، ويتحدّث باسمهما، ويستعيد تجربتهما بعيداً عن أي نزوع نرجسي. إنّه، في هذا المستوى، لا يشكّل أبداً محوراً أساسيّاً في تلك التجربة، ولا يقف على أفعاله إلاّ في أقلّ درجة، ولا يعنى بتطوّراته النفسية والجسدية إلاّ بشكلٍ عابر وثانوي، وفي سياق غير مقصودا ذاته”.
    هذا المزج بين الذات والآخر هو أمر مفهوم، وله يبرّره، لاسيما بالنسبة إلى أولئك الذين يعرفون عن قربٍ، مثلي، الطيب ولد العروسي. نعم، لقد كان الطيب ولد العروسي رجلاً شهماً يؤثر الآخرين على نفسه، ويُضحّي بنفسه في سبيل إسعاد الآخرين وذكر خصالهم والدفاع عنهم، ولو بالكتابة، وذلك، في نظره، أضعف الإيمان. وكثيرا ما تعترضك، وأنت تقرأ سيرته، سير أناسٍ آخرين تتسرّب في تضاعيف خطابه، كأبناء قريته وبناتها والكثير من أقاربه وأصدقائه، وأبناء المجاهدين المنسييّن من قريته. فكأنّ الطيب ولد العروسي أراد أن يسلّط الضوء على هؤلاء الأشخاص المهمّشين، الذين غيّبهم التاريخ الرسمي، وتخليد ذكراهم، فيجعل من سيرته أشبه بالوثيقة التاريخية التي يصحّ الاعتماد عليها من قبل المؤرّخين. ولكن سيرته لم تخل، رغم ذلك، من الحسّ الإنساني النبيل، وهو ما أشار إليه الكاتب، إشارة عابرة خفيفة، من خلال إبراز تعلّقه بالمرأة، التي اختصرها في اسم “وردة”، هذا الكائن الإنساني اللطيف الذي بدا الكاتب في حاجة إليه، لأنّه وحده الذي كان يُنسيه عذاباته وآلامه التي ما برحته. ومن الواضح أنّ الكاتب لم يشأ، مراعاة لسياق الحال، الخوض كثيرا في هذا الموضوع بالذات، رغبةً منه في التبئير على أحداثٍ أخرى أهمّ عاشها، ولأسباب أخرى هو وحده من يعلمها، لا شكّ في ذلك، إذْ وحدها وردة “الحبيبة” من كانت تُنسيه عذاباته وآلامه جرّاء الإصابة المروّعة التي تعرّض لها إثر حادثة دعسه بعربة قطار. ولكنّ الطيب ولد العروسي لم يكن يعلم أنّ هذا الحادث المؤلم هو الذي، على ما في الأشياء من تناقض، سيكون ملهماً له في ما تبقّى له من حياته. وربّما يمكننا القول إنّه حادثٌ أفاده أكثر ممّا ألحق به الضررَ، لأنّه سيُساهم، لاحقاً، في ترْك علامةٍ على مساره الحياتي، وسيمنحه الإلهام والتحرّر من الواقع الذي وجد نفسها مكبّلاً فيه، وسيتيح له مواصلة التنقّل باستمرار والترحال بين السّحاب، كما يدلّ على ذلك عنوان سيرته.
    بقي شيء آخر مهم بخصوص هذه السيرة، وهو أنّ الطيب ولد العروسي قد خيّر التوقّف في كتابة سيرته عند فترة السبعينات، وهي الفترة التي وطأت فيها قدماه أرض فرنسا، كما أشرنا إلى ذلك. ما يعني أنّ الكاتب لم يذكر، في سيرته، إلاّ القليل من حياته الذي قد لا يُشفي غليل القارئ المتعطّش لمعرفة المزيد ممّا يمكن أن تجود بها قريحة هذا الكاتب الرحّالة التي أنفق سنوات عمره بباريس، وفي خدمة المعرفة والثقافة. ولعلّ مسيرته المهنية الثريّة التي أمضاها في رحاب معهد العالم العربي بباريس وبين جدرانه تكون كافية وجديرة بأن يخصّص لها الكاتبُ جزءاً ثانياً من هذه السيرة. وعليه، فإنّ الطيب ولد العروسي يظلّ مديناً، في ما أرى، لهذا القارئ الطلعة الملحّ بجزء آخر يكون تتمّةً لهذه السيرة، حتى يصبح عمله شهادةً وافية تخلّد مسيرته في التاريخ. فأرجو أن تُتاح له الإمكانات اللازمة لإصدارها لاحقاً، فلْننتظر…