يوم شاق جدا

يوم شاق جدا


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    رشيد عبدالرحمن النجاب
    (كاتب وباحث أردني)

    من طاعون ألبير كامو إلى كوليرا غابرييل غارسيا ماركيز، طالما ارتبطت الأعمال الأدبية بانتشار الأمراض على شكل جائحة إلى درجة أطلاق ما يمكن أن يسمى ب “أدب الأوبئة” على الأعمال الأدبية التي ترافقت مع الأوبئة التي أصابت مناطق مختلفة من العالم عبر التاريخ، لذلك لا يمكن تصور مرور جائحة كورونا على الأردن دون أن تكون حافزا للعديد من الأعمال الأدبية المحلية على اختلاف أنواعها، سيما القصة والرواية خصوصا مع هذا الكم الهائل من المصابين والوفيات، إضافة إلى الآثار الاقتصادية، والاجتماعية المختلفة
    من بين الأعمال التي صدرت حول هذا الموضوع مجموعة قصصية للأديب “طارق قديس” بعنوان “يوم شاق جدا” الصادرة عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، في نحو 156 صفحة من القطع المتوسط عام 2023، وتضم اثنتا عشرة قصة تتفق جميعها بصلتها “بوباء كورونا” على نحو ما، ولكن وبرغم ذلك فقد تجنب الأديب السقوط في فخ التكرار كما نوه الشاعر “رفعت قزيح” في مقدمته لهذا العمل، وقد تنوعت القصص في مواضيعها وشخوصها، وسيناريو الأحداث إذا جاز التعبير، ولم يكتف قديس بالحديث عن البشر، هو ذا يشير إلى حوار بين السحابة والشجرة، في قصة “الربيع إذا تنفس” فالسحابة المتحركة تصف للشجرة الثابتة ما طرأ على العالم من تغيرات بفعل هذا المستجد الخطير ، ربما في مقاربة لما تقدمه وسائل الإعلام للناس الرابضين في بيوتهم بفعل قوانين حظر التجول وتقنين الحريات. وفي “ربيع كورونا” ينتقل الأديب إلى عالم الحيوانات، ويصف من خلال القط الحُرّ “فصيح” وصديقته “لوسي” التي كانت تعيش مرفهة في الأقفاص وطالما تباهت أمامه بهذه الرفاهية، ولكن إلى أين انتهت بها هذه الرفاهية مع مجموعة من الحيوانات حبيسة الأقفاص؟ متأثرة بأوامر الإغلاق وغياب من يطعمها، وكيف لمس القط “فصيح” فائدة الحرية، بالرغم من الجوع الذي عانى منه بفعل الظرف الطارئ.
    ويلجأ طارق قديس إلى نوع من الخيال العلمي في قصة “خارج الزمن” حيث ينتقل ” سام” من زمن “الحمى القرمزية” بحثا عن البنسلين الذي لم يكن قد تمكن العالم “فلمنج” من تجهيزه للاستخدام البشري، ويصل “سام” الباحث عن دواء لابنته، إلى عالم يعاني من كورونا، فماذا كانت نتيجة هذه المغامرة في التنقل عبر الأزمنة، وهل نجح في الإجابة على سؤال لإمكانية توفر العلاجات المناسبة لهذه الأوبئة التي تهدد حياة البشر في الوقت المناسب؟ أم أن الأمر يتطلب قرنا آخر من الزمن؟
    ويستعرض قديس من خلال قصة “خمسون دينارا في العراء” ما عاناه كثيرون من عوز مادي بتأثير هذه الجائحة نظرا لتوقف أعمالهم خصوصا تلك غير المتعلقة بالوظائف، ولم يكن أصحاب الوظائف بأفضل حال فالموظف الذي دفع آخر ما في جيبه مقابل كيس الغذاء بات في حيرة بحيث شكلت له ورقة الخمسين دينار الطائرة فرصة سانحة، وسببا وجيها لمخالفة أوامر منع التجول، فكيف نجا من عقوبة هذه التهمة بعد أن ضبطه الشرطي؟
    كما استعرض الأديب في مجموعة أخرى من هذه القصص مجموعة التصرفات المتباينة للناس في زمن الكورونا تجاه الوضع الصحي العام ففي قصة “هوى عندما هوى” نموذجين متناقضين لشاب مستهتر قادم من بلد موبوء، ولا يتورع عن مخالفة تتلو مخالفة من تقبيل تعدى حدود السلام إلى شيء من الانفلات الغريزي، ثم عدم تقيده بأصول التواصل الاجتماعي المتبعة والتي حرص عليها الكثيرون حرصا أقرب إلى القداسة، ومنهم أهل البنت التي زارهم بقصد خطبتها، لم يهتم والدها بعدم قدوم والديه على الأقل للحديث في هذا الأمر ، بل اهتم بمخالفة هذا الزائر بالإجراءات المتبعة بقدر كبير من الاستهتار . وقدم نموذجا آخر للاستهتار وبقدر من السخرية يبدأ مع عنوان القصة “إن بعض الضم إثم” ويشير فيها إلى المخالفات المتعلقة بعدم التقيد بحظر اللقاءات والتجمعات بما فيها الولائم والتي تكررت سيما في السنة الأولى من زمن الوباء وتجلت السخرية في موقع آخر حين بات سائق الشاحنة قلقا بشأن اكتشاف زواجه بالسر أكثر من قلقه من اكتشاف أمر مخالفة قانون الدفاع.
    ويشير في قصة أخرى إلى صورة أخرى من الالتزام بالذهاب الطوعي إلى المراكز الصحية للكشف وربما للحجر بصورة تلقائية مثل هذا الشاب الذي قررت صديقته إنهاء العلاقة معه لظهور خاطب في المشهد، وودعها بقبل سمحت ببعضها ولم تسمح بما تبقى، ثم اكتشف أن أخيها القادم من الخارج مصاب.
    في قصتيه “قلم مأجور” و “يوم شاق جدا” يلاحظ القارئ بداية انسحاب مواضيع الكورونا الملحة من معظم السرد، وباتت الإشارة إلى الوباء عابرة وتضمن السرد تفاصيل أخرى، وفي القصة التي حملت المجموعة عنوانها ينتقل طارق قديس بالقارئ عبر سلسلة من الأحداث الدرامية المتعاقبة المتخمة بالتفاصيل والمفاجئات غير السارة، تبدأ بفقدان العمل نتيجة للظروف التي فرضها وباء كورونا ثم تتناول القصة تفاصيل أخرى مشوقة، ولكن متعبة وتحمل دلالات تعثر الحظ الذي لم يتوقف عند فقدان الوظيفة كما تقدم ولكنها، وتنتهي بفقدان آخر أمل له في الحصول على بطاقة اليانصيب، فأي شيء عنت له هذه البطاقة؟ وما الذي سبق البحث عنها وتخلله وتلاه؟
    قدم طارق قديس بأسلوب سلس مشوق نماذج واقعية لتفاعل الناس مع زمن استطال حتى قارب أربعين شهرا، وإن لم تكن الاستمرارية بنفس الشدة، إلا أن آثاره استمرت، وفي مقدمة تلك الآثار ذلك الألم الناجم عن الفقد الأبدي للأحبة من أقارب باختلاف درجات القرابة إلى الأصدقاء وغيرهم.
    ولم تخل القصص من حوادث وفاة لأسباب لا تتعلق بكورونا، فهذا صدمته سيارة، وذاك بفعل السن وأمراض الشيخوخة، وآخر صدمته الأحداث المتعبة المتعاقبة، حتى إشارته لنفوق الحيوانات جوعا ربما رمى من خلال الإشارة إليها الحديث عن احتمال وفاة البعض من الجوع.
    وحتى لا أختم المقال بالحديث عن الموت ولو أنه حقيقة ماثلة، أشير إلى أن حاجة تمت الإشارة إليها بصور متعددة وفي أكثر من موقع، وهي “الحرية” ومعضلة افتقادها ولو كان بصورة جزئية.

    نشر في (الحوار المتمدن)
    2/يونيو/2023