مغامرة الكتابة عن الراهن في رواية «الحرب التي أحرقت تولستوي»
موسى إبراهيم أبو رياش
الحرب ظالمة، لا أخلاقية، لا إنسانية، تستهدف أمان الناس ومصالحهم وحياتهم. معظم الحروب نشبت لأسباب تافهة تعبيرًا عن عجز القادة عن الحوار والتفاهم وتعظيم المشتركات، والتقليل من شأن الخلافات. والحرب عمياء لا تفرق بين عسكري أو مدني، كبير أو صغير، رجل أو امرأة، فالكل مستهدف دون تمييز.
كانت الحرب في الماضي أقل وحشية؛ يلتقي الجيشان، ويتقاتلان، وتنتهي الحرب في الميدان، وقليلًا ما يتبعها أذى للسكان، ويبدو أنه كلما ازداد الإنسان حضارة ازداد حقارة وقذارة!!
في رواية «الحرب التي أحرقت تولستوي» لزينب السعود، الصادرة في عمّان عن الآن ناشرون، في 240 صفحة، ثمة محاور كثيرة يمكن الحديث عنها، وستتناول هذه المقالة مغامرة الكتابة عن الأحداث الراهنة، والكتابة عن الآخر، ورمزية استحضار تولستوي، ومقارنة بين عمل المراسل التلفزيوني وعمل الكاتبة في هذه الرواية.
مغامرة الكتابة عن الأحداث الراهنة:
تشكل الكتابة عن الأحداث الراهنة بما فيها الراهن المعيش أو الحروب والقلاقل والعواصف السياسية والأوبئة والكوارث الطبيعية وغيرها مغامرة كبيرة؛ لأنّ الراهن متحرك، متغير، متقلب، متجدد، وهذا يضع الكاتب في أتون مغامرة قد تودي بكتابته إن لم يحسن الاقتناص والتوظيف والبناء الفني.
الحدث الراهن تحت الضوء، وربما يعرف المتابع العادي أكثر من الكاتب، وتتكفل التغطيات الإعلامية والصحفية بالتفاصيل التي لا تترك شيئًا للكاتب. ولكن المبدع لا يشتغل على الحدث وتفاصيله العادية؛ وإنما يلتقط حدثًا/حالة ويوظف خياله المحلّق، وحساسيته الإبداعية ليخرج بنص فني إنساني يدهش صاحب/ أصحاب الحدث أو الحالة موضوع النص، وربما يستبعدون أن يكونوا المقصودين بها.
ليس من الصواب أن يكون للكاتب مواقف حادة، وآراء صارخة تجاه الحدث الراهن، ويعلن انحيازاته وقناعاته القاطعة، فالظاهر قد يكون عكس الباطن، والمعلن قد يتعارض مع المخفي، ما نتلقاه بالحواس ليس شرطًا أن يكون هو الحقيقة، فهناك قدر كبير من الخداع والتمثيل وتزييف الوقائع لكسب الرأي العام وقلب الحقائق، وما تكشَّف من حقائق كورونا ليس عنا ببعيد!!
يكمن إبداع الكاتب في الانحياز للإنسانية، فيأخذ جانبًا هامشيًا من الحدث، أو حالة إنسانية نتجت عن الحدث، فيجعلها نصب عينيه، ويبني عليها نصه، مثل جندي قطعت رجله إثر قذيفة، فيعود إلى بيته، يتذكر رفاق السلاح، ويستعيد طفولته وشبابه، ويتأمل مستقبله الذي كان يحلم به، والأهداف التي كان يطمح لتحقيقها و……. مع التطرق لعلاقاته العائلية، ومعاناته، وعزلته، … الخ… هذه حالة نتجت عن حرب، ولكنها انفصلت عنها، واستقلت بذاتها، ولا ضير من تناولها إبداعيًا دون خوف.
باختصار؛ على المبدع أن يوظف ذكاءه وحساسيته وأدواته الفنية لينتج نصًا يأخذ من الواقع، ويبني عوالمه الخاصة، وأن يخرج من أسر الواقع، وينظر إليه من أعلى نظرة شمولية فاحصة، نظرة مراقب دقيق شديد الحساسية والانتباه، والتقاط ما لا يلتقطه الآخرون، ويغوص في أعماق الحدث، ويستخرج منه ما يدهش القارئ حتى لو كان ابن الحدث.
وأرى أن زينب السعود في أولى رواياتها قد اقتحمت مغامرة الحدث الراهن، ولكنها تجنبت مزالقه؛ فالرواية لا تتطرق لأسباب الحرب الروسية الأوكرانية التي ما زالت دائرة، ولا تبحث في خلفياتها، ولا تميل لطرف دون آخر، ولم تذهب إلى ميدان الحرب ورجالها، واقتصرت على تناول بعض آثارها وانعكاساتها على المدنيين، وخاصة من المغتربين فيها، الذين وقعوا بين فكي الكماشة، ويجاهدون للإفلات والنجاة بأرواحهم بعيدًا عن ويلاتها. وموضوع الرواية غير مطروق -حسب علمي- في روايات عربية، الذي ركز على ظروف عمل مراسل تلفزيوني بعيدًا عن أسرته، ومعاناة طلبة مغتربين في ظل حرب مستعرة.
الكتابة عن الآخر:
تتناول السعود في روايتها بعض آثار الحرب الروسية الأوكرانية، والسؤال: لماذا تذهب بعيدًا إلى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، عن طرفين لا علاقة لنا بهما؟ وهل انتهت الموضوعات المحلية والأفكار التي تخص أوطاننا ومجتمعاتنا؟
الحديث عن المعاناة الإنسانية لا يخص مجتمعًا دون آخر، كما أن العولمة وتدفق المعلومات وسطوة الصورة، جعلت من العالم قرية صغيرة، ولا فرق حقيقيًا بين ما يحدث على بعد عشرة آلاف كيلو متر وبين ما يحدث على بعد عشرة كيلو متر، اللهم إلا بزيادة الروابط وعوامل القرب وربما الاستهداف المباشر.
والظاهر أن رواية «الحرب التي أحرقت تولستوي» تتحدث عن الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن من يقرأ الرواية يدرك أن الحرب كانت إطارًا خارجيًا ليس إلا، ولكن السرد تناول شريحة من الطلبة الذي يدرسون هناك، وعلى الأخص اثنين من فلسطين (معاذ ورشا)، وصورت معاناتهم والتمييز الذي حدث تجاههم، وما واجهوه من صعوبات وعوائق حتى خرجوا من الحدود بشق الأنفس.
كما أن الرواية تناولت جانبًا من حياة مراسل تلفزيوني أردني، ترك أسرته في عمّان، وصورت معاناة أفراد الأسرة وحياتهم، وأثر هذا التباعد على مشاعرهم.
أي أن الرواية، لم تتحدث عن الآخر، ولم تذهب بعيدًا كما قد يتوهم للوهلة الأولى، أو القراءة السطحية للرواية.
استحضار تولستوي:
في أثناء مسيرة الطلبة مشيًا على الأقدام، اضطروا للتوقف للاستراحة، وحاول كبيرهم معاذ جاهدًا أن يشعل نارًا للتدفئة، بما يتوفر معه من أوراق، فـأخرجت رشا من حقيبتها رواية «آنا كارنينا» لتولستوي، ومزقتها وألقت بأوراقها في النار، مساهمة منها في جلب الدفء للمجموعة، ومن هنا أخذت الرواية عنوانها الجميل الموفق.
والسؤال: ما مناسبة استدعاء تولستوي وروايته «أنا كارنينا» لرواية تتحدث عن الحرب الروسية الأوكرانية بعد أكثر من 110 سنوات على وفاته؟
من المعروف أن «ليو تولستوي، توفي سنة 1910، وهو نبيل روسي من عمالقة الروائيين الروس والعالم، ومن أشهر أعماله روايتي «الحرب والسلام» و«أنا كارنينا» اللتين تمثلان الحياة الواقعية في روسيا في ذلك الوقت. وتولستوي مفكر أخلاقي وداعية سلام، اعتنق أفكار المقاومة السلمية الرافضة للعنف»، ومعروف أنه صاحب المثل العليا، والقيم الإنسانية الراقية، ومناهضته للحرب ودعوته للسلام والرحمة والأخلاق الفاضلة.
أما روايته «أنا كارنينا» فهي «رواية النماذج البشرية المتنوعة المريضة غالبًا، المهتزة غير السوية، تتفاعل وتتصارع، بين القلب والعقل، وبين الحب والواجب، وبين القشور واللباب، بين التخلف والتنوير»، كما أنها رواية «أعطت الصدارة للأحداث الثانوية التي طغت على الحدث الرئيسي».
وكأن في استدعاء تولستوي وروايته إدانة للحرب أيًا كانت أسبابها ومبرراتها، وأن لا مسوغات لها بين جارين بينهما من الأواصر والعلاقات والمصالح ما يفوق أية اختلافات أو مشكلات ثانوية. كما أن استدعاء «أنا كارنينا» إدانة للمجتمع الأوكراني الذي كشف عن أنانيته وعنصريته ونرجسيته واستغلاله وخداعه.
ويحمل مشهد حرق رواية «أنا كارنينا» دلالات كثيرة، أهمها أن الحرب والأدب نقيضان لا يجتمعان، وألا أدب حيث الحرب، والحرب تقضي على الأدب، فالأدب جمال، والحرب قبح. الأدب وعي، والحرب تجهيل، الأدب بناء، والحرب تدمير. وعندما تشتعل الحرب لا يبقى دور للأدب أو تأثير، لأن العقول المتحاربة مظلمة وربما فارغة أصلًا.
كما أن أولويات الحياة من طعام وشراب ودفء تتقدم على رفاهية الأدب في تلك اللحظة، صحيح أن الرواية احترقت، لكنها أمدت الفريق بالدفء والقدرة على المواصلة، ويكفيها هذا الدور في هكذا ظروف.
بين المراسل التلفزيوني والروائية:
عمل يوسف مراسلًا تلفزيونيًا في عدة مناطق ودول، ومنها مناطق شهدت اشتباكات مسلحة، وعين أخيرًا مراسلًا في مدينة «ماريوبل» الأوكرانية على الحدود الساحلية مع روسيا، ولم يمكث سوى أيام حتى اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، ثم انتقل إلى العاصمة «كييف»، ليكون أقرب للحدث وأصحاب القرار.
قام يوسف بنقل الأحداث وتصويرها، وقدم تفصيلات عن ويلات الحرب وما فعلته من دمار وتشتيت للناس، وقتل الأبرياء، وتعطل الحياة، والخوف من المجهول، وهو عمل توثيقي تسجيلي يصلح لأن يحفظ كأرشيف للحرب من وجهة نظر يوسف وجهوده ومحاولاته. ولكن السعود سجلت في روايتها نبض الأحداث وتأثيراتها النفسية، وصورت ما لا تستطيعه الكاميرا، ولا يمكن للمراسل ملاحقته. عمل يوسف يفقد بريقه بعد انتهاء الحرب، ولكن الرواية كعمل إبداعي عمرها أطول، وستبقى شاهدة على فترة زمنية ضبابية، تشكل عارًا على الإنسانية.