د.عبد المجيد جابر اطميزة
(كاتب فلسطيني)
العنوان هو أول ما يلفت نظر المتلقي في الكتاب، وعنوان كتاب ”أنطونيو التلحمي رفيق تشي جيفار“ للكاتب والأديب د.سميح مسعود، يتكون من ناحية التركيب من مبتدأ مرفوع موصوف، خبره ”رفيق“ وهو مضاف. ومن ناحية المعنى يمثل سيرة مناضل أممي، اقترن اسمه بـ ”تشي جيفارا“ ونضالهما معاً من أجل حرية الشعوب المغلوب على أمرها في العالم من الهيمنة الاستعمارية الغربية، وخاصة في دول أميركا الجنوبية. كما ناضل أنطونيو وارتحل ثلاث مرات لمناصرة فلسطين أرض أجداده.
وقد نجح المؤلف في اختياره للعنوان وكتب سيرتين غيريتين، اشتملت الأولى على جوانب مهمة من حياة أنطونيو، أما الثانية فهي سيرة الجد سليم التلحمي ورحيله من وطنه بيت لحم إلى كولومبيا، وهي غير مكتملة الجوانب.
فقد وُلد سليم في عام 1843، عندما كانت فلسطين تحت ظل الحكم العثماني، وانتسب إلى مدرسة تابعة لأحد الأديرة، ثم التحق بمدرسة يشتمل منهاجها تعليم الحِرًف المهنية. ثم غادر بيت لحم إلى يافا التي أتم فيها الإجراءات اللازمة للسفر، ووصل إلى مدينة قرطاجنة وعمل في أحد فنادقها، وتمكن أقرب أصدقائه إليه (واسمه جميل عز الدين) من العمل معه في الفندق نفسه. لكن لم يطل بهما المكوث هناك بسبب البراكين، فرحلا إلى مقاطعة بوياكا وعملا في منجم الزمرد، وسلَّما رسالة مدير الفندق الذي كانا يعملان فيه إلى مدير المنجم، فقرأها باهتمام، وضحك وهو يقول: ”تهربان من الأعاصير المحيطية، إلى منطقتنا التي تغطيها الثلوج فترة طويلة من السنة!“.
انتسب الرجلان إلى نقابة عمال المناجم السرية، التي تسعى إلى الدفاع عن أعضائها وتحسين أجورهم وشروط عملهم. ثم حدث انفجار ضخم في المنجم الزمرد، قُتل فيه جميل، ومن شدة تأثر سليم خارت قواه وقرر ترك العمل في المنجم والتوجه للعاصمة بوغوتا.
وذات يوم بينما كان سليم يتجول في ساحة ” بلازا دي بوليفار“، هاله منظر محلات المجوهرات المكدسة بمشغولات جميلة من الزمرد الأخضر، فتوقَّف على مقربة منها أمام مشغل لتقطيع حجارة الزمرد وصقلها وتصنيعها وتزيينها بزخرفة فنية، ودخل إلى المحل، وبيَّن لصاحبه أنه يمكنه إجراء تعديلات على الآلات لتسريعها وزيادة إنتاجها فاقتنع صاحب المحل بفكرته، وفي ما بعد أصبح سليم يدير المشغل.
ثم تزوج سليم من ابنة صاحب المصنع، وبعد سنة رُزق بابنه البكر، وانتقى له اسماً جميلاً، تيمناً باسم صديقه ”جميل نور الدين“. وعندما بلغ جميل العشرين من عمره، تزوج من فتاة وبعد سنتين رُزق بأنطونيو.
وكان أنطونيو الحفيد يجلس إلى جانب جده دائما، ويجد في أحاديثه مساحة واسعة من الدفء وهو يتحدث عن مسقط رأسه/ بيت لحم، ويرمُقه بنظرة عطف وحنان من عينيه الكبيرتين، ويقول له بنبرة افتخار بمدينته: ”أنت لا تنتمي إلى هذا المكان/ كولومبيا، انقشْ في ذاكرتك أنك تنتمي إلى بيت لحم وفلسطين، وأن جذورك تمتد على اتساع الدول العربية من أقصاها إلى أقصاها“.
أما أنطونيو التلحمي، فقد وُلد في العاصمة الكولومبية بوغوتا عام 1909. وملامحه تكاد تشبه ملامح القائد الكوبي فيدل كاسترو.. قامته طويلة فارعة، عريض المنكبين، له لحية كثيفة بلون فاحم تتدلى حتى أسفل عنقه، يلبس ثياباً شبه عسكرية بخضرة زاهية تطبعه بملامح صارمة بعض الشيء وتزيده وجاهة، وعيناه واسعتان سوداوان تعبران عن سمات عربية واضحة..
كان أنطونيو يتحدث بلغة عربية سليمة، ويرتب كلماته في جمل حسنة التكوين، تتخللها كلمات منقاة من اللهجة العامية الفلسطينية، يعبِّر فيها بوضوح عما يريد قوله، والجديد بالذكر أن أنطونيو تعلّم اللغة العربية في رحلته الأولى النضالية في فلسطين عام 1936.
تأثر أنطونيو بجدِّه كثيراً، وعندما أراد اختيار مجال دراسته الجامعية، اقترح عليه الجدّ دراسة علم التاريخ السياسي، وبرر اختياره هذا من أجل فلسطين، لإثبات عروبتها تاريخا وحضارة، ودحض الإدعاءات الصهيونية بأحقيتهم بها.
ومع الأيام أخذ أنطونيو يخطو بخطوات ملحوظة في مجال الأنشطة الطلابية، ويطرح قضية فلسطين بمتاع معرفي ثري، ضمن قضايا كولومبيا وأميركا الجنوبية. وبعد حصوله على الشهادة الجامعية عمل مدرسا في إحدى مدارس مدينة ”بارنكيا“ التي تتميز بأن معظم سكانها من أصل هندي.
ساهم أنطونيو بنشاطات كثيرة داخل الجامعة وخارجها، تعبر عن رفض التوجهات الاستبدادية في أنظمة الحكم. كما ساهم في مجال البحوث المقررة على الطلبة، فقد طُلِب منه إعداد بحث في بداية السنة الجامعية الثالثة، عن التاريخ السياسي لدولة من خارج مجموعة دول أميركا الجنوبية، وفي الحال اختار فلسطين.
ووقف أنطونيو مدافعا عن مأساة الهنود الحمر، وأعاد الحديث لطلابه عن المحميات، وعبَّر عن إحساسه بأنها لا تطاق، لما يعانيه سكانها من تمزقات ذاتية داخلية وآلام وأحزان عميقة. وركز في مقالاته على النشاط الإجرامي للأجهزة الرسمية الأميركية ضد شعوب أميركا الجنوبية. وتعرَّفت أجهزة الاستخبارات على شخصيته ككاتب للمقالات، وأخضعته إلى تحقيقات متواصلة دامت زهاء عشرة أيام متواصلة.
طلب الجد سليم من حفيده أنطونيو تجهيز نفسه للانخراط في صفوف ثورة 1936 في فلسطين، فلبّى أنطونيو الطلب، وسافر وتعرَّف على ظهر السفينة بإبراهيم لاما، وهو تشيلي تلحمي من أصل فلسطيني. وحدّثه إبراهيم عن صديق تلحمي يعيش في مرسيليا اسمه ناصيف عيسى، وحلّا ضيفين عليه. وسلّم ناصيف أنطونيو ثلاثة عناوين لمساعدته في فلسطين: أحدهم من أقربائه يقيم في بيت لحم، وآخر من جنين، والثالث من طولكرم.
وقد عمل صاحب بنسيون في حيفا على مساعدة أنطونيو للالتقاء بأحد مسؤولي الثورة في جنين، واسمه خالد الجيلاني، فذهب أنطونيو إلى جنين والتقى بخالد، وبعد منتصف الليل وبعد سير طويل وصلا إلى القيادة الميدانية في الجبال الوعرة، وقام خالد بتقديم أنطونيو إلى أحد القادة الميدانيين الذي أشار على أنطونيو بالانضمام للشرطة الخاصة بالانتداب البريطاني كي يساعد الثوار من خلالها. وعندما توقفت الثورة التي جاء أنطونيو من أجلها في عام 1939 قرر الرجوع لكولومبيا.
وقُبيل حصول نكبة عام 1948 هيأ أنطونيو نفسه للعودة إلى فلسطين ثانية. والتقى بصديقه خالد الجيلاني بناء على موعد حدده له بواسطة برقية وصلته في بوغوتا. ووافقت القنصلية الأميركية في القدس على طلب تقدم به أنطونيو للعمل سائقاً خاصاً للقنصل، وكان مراده مساعدة الثورة.
تردّد أنطونيو على المجمع سائقاً للقنصل الأميركي، مما جعله وجهاً مألوفاً لدى الحراس، فتسنى له معرفة أسمائهم ومواعيد نوباتهم في الحراسة، والتحدث معهم لفترات طويلة، خاصة عندما كان يحضر بمفرده من دون القنصل في بعض المناسبات، للقيام ببعض المهام الخاصة بالقنصلية، وهكذا نال ثقتهم، وتعودوا على إدخال سيارة القنصلية التي يقودها إلى باحة المجمع دون تفتيش.
وفي صباح يوم من شهر آذار 1948، توجه أنطونيو بسيارة القنصلية بعد تفخيخها إلى مكاتب الوكالة الصهيونية، وسمح له الحراس بالدخول دون تفتيش، وسرعان ما أوقف السيارة أمام المكاتب الرئيسية للوكالة، وترجَّل منها واتجه بخطى متعجلة نحو بوابة الحراسة، وبعد دقائق كان قد وصل لى أزقة القدس القديمة، وسمع عن بعد صوت انفجار مدوٍ هزّ أرجاء المدينة.
وكتبت صحيفة ”فلسطين بوست“ اليهودية حول العملية، كاشفة في تغطية مطولة عن منفذ العملية، ومهارته المتميزة في إخفاء أصوله العربية، وإظهار نفسه بمظهر قرَّبه من الذين اختلط بهم في إطار القنصلية الأميركية ومجمع المؤسسات الصهيونية. ولسوء الحظ أن قادة الوكالة اليهودية ساعة الانفجار كانوا في اجتماع في تل أبيب.
وعندما اشتدت الصدامات في شهر آذار 1948، اشترك أنطونيو في معارك اللطرون وباب الواد ومعارك طريق القدس-بيت لحم-الخليل، وخاض معركة الدهيشة. وساهم أيضاً في معركة حي المصرارة، وتوجه مع عبد القادر الحسيني يوم 7 نيسان 1948 بقواته البسيطة لاسترداد القسطل، وخاض معركة غير متكافئة كان فيها اليهود أكثر عدة وعدداً، وبعد فترة قصيرة من بدء المعركة سقطت القسطل، وسقط القائد العام مسطراً بدمه أروع ملاحم البطولة والفداء، وكان أنطونيو على مقربة منه لحظة استشهاده.
بعد توقيع اتفاقيات الهدنة قرر أنطونيو الرجوع إلى كولومبيا. وفي بداية الخمسينات، هبَّت نار المعارضة في كولومبيا، وتزايد عدد السجناء حتى وصل إلى درجة مخيفة، وكان هو واحداً منهم.
وبعد خروجه من السجن بيوم واحد، عام 1952، اتجه أنطونيو نحو مقهى تعود الجلوس فيه، على مقربة من ساحة دي بوليفار، وهناك تعرف على جيفارا وصديقه ”ألبرتو غرانادو“ وهو أيضاً أرجنتيني، واتفق الجميع على المشاركة في إشعال ثورات في دول أميركا الجنوبية، للقضاء على الأنظمة الاستبدادية وتحقيق العدالة الاجتماعية للطبقات المسحوقة ومقاومة الهيمنة الأميركية.
وشارك أنطونيو في ثورة غواتيمالا، وتحرير كوبا جنبا إلى جنب مع جيفارا وفيدل كاسترو. كما شارك في ثورة المكسيك ضد الهيمنة الأميركية، وفي المقاومة ضد الاستبداد والظلم في كولومبيا.
وبعد حرب حزيران 1967، قرر أنطونيو السفر إلى الشرق الأوسط، وكان واحداً من المحظوظين الذين اشتركوا في معركة الكرامة، التي اندمج فيها الجيش العربي الأردني مع الفدائيين في حرب شرسة ضد الجيش الإسرائيلي على ثرى الأردن الطهور.
ثم زار بيروت ضمن عمله كمقاوم، والتقى بالصدفة بقريب له اسمه ”نصري“ دعاه لزيارته في الكويت، حيث يقيم فيها ويعمل. فوصل الكويت في تموز 1969، ونزل ضيفاً على بيت نصري، وهناك تمّ تسجيل سيرة أنطونيو.
وبعد ثلاثة أيام من انتهاء اللقاءات التي سجل أنطونيو فيها الأشرطة التسجيلية الخاصة بحياته، توفي في 4 آب 1969، وفي اليوم التالي شُيعت جنازته، وحُمل جثمانه على الأعناق ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، بمشاركة حشد كبير من أهل الكويت وأبناء الجالية الفلسطينية، ودُفن في مقبرة المسيحيين الواقعة على أطراف منطقة الصليبخات.
إن كاتب السيرة د.سميح مسعود باحث يبغي الدقة، يقوم بعملية بحث مثيرة؛ سعياً وراء الحقيقة في حياة شخصية أنطونيو التلحمي النضالية الأممية، فهو ينفض غبار الزمن عن الوثائق، ويتحرَّك بمنظاره سعياً وراء الحقيقة، وفي أثناء هذا البحث الواسع يجمع أكواماً من الوقائع الجزئية والمعلومات التي قد يبدو بينها شيءٌ من التناقض؛ لذلك كان ضروريّاً له أن يتحلى بما للمؤرخ من بصيرة نافذة، ولم يكتفِ الكاتب بما سمعه من صاحب السيرة، بل تردد على فاضل رشيد الذي أؤتمن على الأشرطة واشترك مع أنطونيو في مقاومة الصهاينة في فلسطين.
وعمل الكاتب طوال فترة طويلة على تفريغ الأشرطة، ومراجعة محتوياتها، ثم قام بصياغتها من جديد باللغة التي هي عليها الآن.
ونجح د.سميح في كتابه الصادر عن ”الآن ناشرون وموزعون“ (2019) في ابتكار الإطار الفني للسيرة، بما فيه من طريقة عرض وطريقة تعبير؛ إذ هو الذي يتحكم في القيمة الجمالية للسيرة. وقد اختار الصياغة الحكائية السردية، ليمنح السيرةَ الروحَ القصصية التي تربط بين الأحداث ربطاً عضويّاً، وتغوص في أعماق الشخصية فتكشف مجاهلها، وتُظهِر انعكاساتِها الخارجيةَ من خلال الصراع بين الشخصية والبيئة والآخرين، بلغة جميلة دونما تكلف أو تصنع.