“أنواع”: قراءات في القصة القصيرة جدا في الأدب العماني

“أنواع”: قراءات في القصة القصيرة جدا في الأدب العماني


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    خالد بن علي المعمري
    الأمين العام المساعد لمجلس وزراء الداخلية العرب

    تُحيلنا مجموعة (أنواع) لمحمد بن سيف الرحبي الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون عام 2019م على خطابٍ قائم على انتقادٍ عامٍ للسلوك البشري في المجتمع، والسخرية المبطّنة من المؤسسات المجتمعية والأفراد. وإذا كان محمد الرحبي هنا قد لجأ إلى نبش صور عامة للمجتمع وقام بمحاولة انتقادها، والسخرية منها في كتابة متمثلة في قصص قصيرة جداً، فإن أسلوب الكتابة هذا لا يمكن أن نحصره في مجموعة (أنواع) فقط، ولعلَّ المُطّلعَ على تجربة محمد الرحبي سيجده قد اشتغل على الكتابة القصصية المنتقدة لأوضاع المجتمع أو الساخرة من شخوصه في أكثر من عمل أدبي سابق، كذلك فإنّ استحضار هذا الأسلوب الكتابي المتمثّل في القصة القصيرة جدا نجده في أكثر من مجموعة قصصية سابقة منها (أغشية الرمل: 2002م) و(وقال الحاوي: 2008)، اللتان لجأ فيهما إلى استحضار واقع المجتمع بمشاهد أطلق من خلالها إسقاطات ساخرة في عدد من نصوصها.
    ولعلّي أنطلق في (أنواع) الرحبي من السطر الأخير في الفقرة السابقة وتحديدا من المجتمع الواقعي الذي يطارده الرحبي في مجموعته، إنه مجتمع واقعي أو هي صور لمشاهد واقعية جمعها واهتمَّ بعرضها، ومرَّرَ من خلالها رسائل مضمرة لما يحدث في الواقع اليومي ضمن خطابٍ ساخرٍ مبطّنٍ، إنه خطابٌ ضمنيٌ يُعيدنا إلى بخلاء الجاحظ في تقديمه للمجتمع ومحاولة استخلاص بواطن الشخصيات التي تعرَّضَ لها.
    إنّ المتأمل في أعمال الرحبي القصصية يجده قد انطلق في مجموعاته الأولى من فضاءات القرية، وسرديات الحكاية الشعبية والتراثية، إلا أنّ التحول في (أنواع) إلى الواقعية في انتقاد حوادث المجتمع، وانتقاد شخصياته في قالب قصصي قصير راجع في رأيي إلى أمور عدة: منها الاهتمام بالفكرة على حساب إطالة القص، الذي معها يختصر المسافات السردية في سبيل إيصال الصورة والفكرة إلى القارئ. ومنها أيضا التخلي عن عناصر سردية قد تطيل السرد من أجل الوصول إلى قارئ يجذبه السرد القصير/ الرسائل القصيرة/ الأفكار العابرة في زمن يتّسم بالإيجاز وعدم الإطالة، ولذا فإنّ الرحبي قد اهتمَّ بفكرته الرئيسة وجملته الدلالية والصورة الواقعية في سرده على حساب التوسع والإطالة، وهذا واضح أكثر في نصوص (واقع1، وواقع2، وواقع3، وواقع4، وواقع5) التي صوّر فيها الواقع تصويراً دقيقاً، متنوعاً في المضامين الداخلية، واشتغالاً على لفظة “واقع” في عتباته النصية.
    في المقابل فإنه ليس من السهل تحميل القصة القصيرة جدا المتّسمة بالإيجاز دلالات الانتقاد الساخر، أو التهكم التي قد تتميز بالفضفضة والتوسع، وإنّ عملية التوفيق بين الإيجاز وتقديم أفكار واضحة عملية تحتاج إلى اشتغال سردي واضح. لذا تنطلق مجموعة (أنواع) في شقها المضموني في اتجاه قائم على استحضار صورة الإنسان في المجتمع، وتعرية واقعه اليومي، وإبراز المستور من خلال الكشف عن الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب السردي في كتاباته. إنّ تقديمه لنصوص مثل: (اختطاف، وضمائر، وفاتورة، وأنواع، وتوهّم، وواقع، ولقيط)، هي محاولة قائمة على الكشف عن أنساق المجتمع داخل الخطاب السردي، قدّم من خلالها الرحبي ملامح عامة عن الفساد، والفقر، والحب، والحزن المتشكّل في النفس الإنسانية لمجتمعاتٍ تُعلي من التهميش والتمييز بين أفراده، لذا دائما ما تكون شخصياته حالمة بالمستقبل، وباحثة عن الطريقة المؤدّية إلى حياة أفضل، ومتضادة مع الواقع أو مع شخصيات أخرى.
    ويتشكّل الصراع المجتمعي هنا بين المسؤول والفرد، والفرد والفرد ممّا شكّل طبقتين داخل النصوص: طبقة مهمَّشة وبسيطة وحالمة، وطبقة أخرى مسيطرة وذات مستوى رفيع ومتحكمة بالواقع. إنها الفكرة التي يحاول الرحبي إثباتها في مجتمعه الواقعي والسردي.
    كذلك فإنّ للمرأة أنساقها التي يبحث فيها الرحبي، فالمرأة لديه تُشكّل عنصراً مهماً في بناء الأحداث واستكمال السرد، وتأتي نصوص (معاليها، وفراغ، وأحلامها، وحنين، وشعرية) دالةً على أنساق المرأة وعلاقتها بالآخر، إنها -أي المرأة- مسكونة بتأملات الحياة والصراع. ولعلّ الرحبي في اختياره لعناوين نصوصه المرتبطة بالمرأة أوجد إحالة على الذات الأنثوية المنشطرة والمسكونة بالحلم أكثر من الواقع، وإنّ عناوين (فراغ، وأحلامها، وحنين) أكثر ما تُعبّر عن هذه العلاقة الدالة على توزع الذات الأنثوية بين الحلم والخيال والتفكير اللامنتهي بما وراء الذاكرة، وهي ذاتها ما أضمرتها الذات الأنثوية، وما عَلَقَ داخل ذاكرة المجتمع عنها.
    وفي الجانب الفني تتحدد ملامح المجموعة بالابتعاد عن الإطالة والتكثيف اللغوي، والميل إلى الجمل القصيرة. وكما إنّ للغة دورها في الكتابة عند محمد الرحبي، فهي أيضا تقوم على جانبين اثنين في نصوصه: باستخدامه اللغة السهلة المباشرة التي لا يتكلف في نحتها داخل سرده، واستخدامه لمضمرات اللغة الساخرة. وبما أنّ الكاتب قد اعتمد بصورة أكبر على الكشف عن الدلالات المضمرة في الخطاب فلذا لم يتكلف في لغته، واستطاع الموازنة في جمله بين الفكرة، والبناء اللغوي البسيط الذي يصل من خلالهما إلى صورة أكثر وضوحا، فليس الكشف إلا مرادفا للوضوح لديه. وتأتي نصوص مثل (طيب، واطمئنان، ومعاليها، وتغيير، وكاسر، ومشاريع، وف/ ساد، وزايد، وأبواب، ولعبة) دالةً على استخدامات اللغة الساخرة، ومبتعدةً عن التكثيف اللغوي وصولا للفكرة المباشرة، إنه يحاول اقتحام واقعية الصورة المجتمعية، والعمل على استعادتها سرديا، وتقديمها للقارئ دون أي لبس أو غموض.
    في نص (ف/ ساد) يوظّف الرحبي الصراع بين سلطتين مهمتين في المجتمع: سلطة الوالي، وسلطة ساحر القرية، وهنا يُقدّم السارد ربطاً مضمراً في العلاقة بين الاثنين، فلكلٍ منهما سلطته وأدواره لكنّ الخطاب يطفح بلغة متهكمة تفضح العلاقة بين الفساد والفاسد، ومحاولا إبراز ذلك من خلال عتبة النص وتقطيعها إلى حروف (ف/ ساد) تأخذ منحيين اثنين يتمثلان إما في الفساد أو السيادة، وهما متمثلان سرداً في شخصية الوالي. ويظهر التهكم أيضا في الجملتين: الافتتاحية والختامية اللتين تشيران إلى علاقة الفساد بشخصيات النص، يقول في أول النص: “طلب الوالي من ساحر القرية مساعدته على كشف الفاسدين في أرضهم.. ليتجنبهم على الأقل”، ثم يقول في الحوار آخر النص بين الساحر والوالي:
    “وكيف أدلك عليهم؟
    لتكن حبة حمراء في وجوههم.
    غاب الساحر أياما عن القرية وسائر قرى الولاية، وكان الوالي يبحث عنه فقد امتلأ جسده كله حبوباً قانية”.
    إنها ليست حبةً حمراء في وجه الوالي، فقد أراد السارد تصوير الفساد كله في السيادة والرئاسة في شخص الوالي، فعبّر عن ذلك بمجموعة من الحبوب قانية اللون. الأمر ذاته في نصوص (أبواب) و(لعبة) إذ يُظهر السرد أوجه الصراع بين الشخصيات، كاشفاً عن أنساق مجتمعية مهمة بلغة سردية انحاز فيها إلى الوضوح والمباشرة.

    إنّ الواقع والسخرية هما أبرز ما انطوت عليه مجموعة (أنواع)، وعملت من خلالهما على كشف أنساقها المجتمعية، وهذا يدفعني إلى طرح سؤالٍ أخير لعلني أقف على إجابته في مقال لاحق: إلى أي حدٍ يمكن أن يلتقي النص الإبداعي بقضايا المجتمع، وظواهره؟ وهل تعمل قضايا الالتزام على تحطيم فنيات الكتابة الحديثة؟
    إنّ محمد الرحبي وإن انطلق من سرديات القرية إلى فضاء أوسع، فإنّ لغته ما زالت تتحدث عن مضامين الفضاء السردي الذي يشتغل عليه، ألم يحدد لنا الرحبي من قبل -في مجموعاته الأولى- شخصيات القرية: الشيخ، والساحر، والمسحورة، والإمام، والمصلين، وأهل القرية، وصراعاتهم، وأسواقهم، ومزارعهم؟ وها هو يعود في فضاءات أخرى أشمل ليعيد كل تلك الصور والمشاهد مرة أخرى، إنه المجتمع حين يغرس أفكاره، ويحدّد مرجعياته لدى الكاتب ومنطلقاته الكتابية، فما بين (بوابات المدينة) و(أنواع) ذاكرة مجتمعية مكانية ما تزال تُروى.