رشيد عبد الرحمن النجاب
حثثت الخطو مسرعا نحو صديقي العزيز ابراهيم الغبيش ذات مساء من مساءات معرض الكتاب الدولي العشرين في عمان، وددت لو شاركته ساعة الإعلان عن ميلاد مجموعته القصصية من بدايتها إلى نهايتها، ولكن الظرف لم يسمح بأكثر من لحظات اقتنصتها لمشاركة صديقي هذا الحدث الهام.
خمسون قصة قصيرة ضمتها المجموعة الموسومة “أيوب في حيرته”، كان بعضها قصيرا جدا لا يتجاوز عددا محدودا من السطور، تحتوي على فكرة شديدة التكثيف مثل قصتي “الوهم” و”الأحلام”، أو قد لا يكون في القصة تكثيفا، بل محض إشارة إلى فكرة ما، والحديث حولها بطريقة أثارت في ذهني وربما في أذهان غيري من القراء تساؤلا أو سلسة من التساؤلات!!! “ماذا تريد منك الأحلام ؟” بهذا السؤال يبدأ د.ابراهيم قصة “الأحلام”، وللقارىء أن يتخيل ما قد يثيره هذا السؤال من سيل من تساؤلات متتابعة، هل الأحلام هي التي تريد مني؟ أو أنا الذي أريد من الأحلام؟ ماذا عساي أريد ؟
قصص أخرى كانت أطول، وكان بعضها واضح الدلالات، أو هكذا قد يبدو للبعض، فيما ظهر البعض الآخر بقدر متفاوت من الترميز، إلا أن القارىء الذي يتعدى مرحلة التصفح والقراءة العابرة المتعجلة يمكن أن يشكل فكرة عن المضامين والغايات. هل هذه هي الفكرة التي قصدها وهل من الضروري أن يخرج القارىء بإجابات محددة ؟؟! الجواب هو النفي بالتأكيد، أي محاولة لربط شخوص هذه القصص بوقائع محددة أو بأسماء على أرض الواقع تمثل جهدا ضائعا لا طائل منه بل قد ترقى إلى نوع من التدخل في خصوصية الكاتب التي غلف نفسه بها ليكتسب قدرا من المرونة في التعبير عن الأشياء. ففؤاد في قصة “الرهان” هو محض شخص في هذه القصة قد يكون جزءا من الواقع أو لايكون، الأهم أن ظروفه ومآله شكل جزءا من مقومات الرهان.
لم يكن للمكان في هذه المجموعة من أسماء، “فالمدينة البحرية الوحيدة”، ومدينة بحرية أخرى! والمدينة، والمدينة الأخرى ….وهكذا، وباستثناء مخيم “عين السلطان” ورام الله و “شارع المختلط” بقيت الأماكن بلا أسماء، مخيم عين السلطان الذي ذهب إليه أيوب مكرها، و”شارع المختلط” أحد شوارع مدينة المنصورة ، هل كشفتُ سرا؟ لا اعتقد ذلك فربما كان اسم الشارع محض استعارة بغض النظر عن المكان الفعلي للشارع او المدينة التي تضمنته القصة أو كان مسرحا لها، وربما كان هو؟!!، أما ما عدا ذلك فقد كان ذكر الأماكن بالإشارة فقط لنتابع الصبي أيوب في رحلته مع خاله بعيدا عن أمه:”يصعدان إلى الحافلة، تقلهما من المخيم إلى المدينة، ثم حافلة أخرى تقله إلى مدينة أخرى، ومن ثمافلة صغيرة تقلهما إلى مخيم عين السلطان”
من مخيم إلى مدينة ثم مدينة أخرى يليها المخيم المقصود، كل ذلك بقصد تصوير مدى بعد أيوب عن أمه في مقره الجديد.
كانت فلسطين حاضرة بوضوح عبر المجموعة القصصية، ربما أكثر من أي مضمون آخر ، وإن لم يذكرها المؤلف بالإسم، وحفلت القصص بإشارات ذات دلالة؛ المخيم، الرجوع، العوده، البعد، الطريق إلى غير ذلك من الكلمات التي قد تبدو عادية ولكنها وردت في مجموعة من السياقات ذات دلالات بالغة الوضوح والقوة. كما حفلت القصص بفيض من العناصر التي تعزز هذه الصور كالحواجز ، والمسلحين، والسلاح، والسم والقتل، والسياج والمقبرة، ثمة الكثير من الأحزان والدموع بين سطور هذه المجموعة، وفيها دلالات تؤشر إلى التشتت والضياع والفقر، ولم أر من مظاهر البهجة إلا النزر اليسير.
قد لا يكون من الصعب التعرف إلى ملامح من سيرة ذاتية، وإن لم تكن في سياق متتال بل على شكل لقطات متباعدة، ولكنها بعيدة عن التحديد، شحيحة التفاصيل وهذا هو شأن القصص القصيرة، إلا أنها تشي أن وراء هذا الوصف طبيب، كمشاهد في غرف المستشفيات، أو حوارا مع مريض أو غير ذلك .
خلال قراءة هذا العمل رأيت صديقي ابراهيم مؤشرا بيده اليمنى وبثلاثة أصابع مضمومة إلى بعضها متسائلا “إنت عارف كيف؟؟”. نعم يا صديق الآن بدأت أعرف ….
بقي أن أقول أن بين السطور ملامح من شاعرية، وقدرا من التشويق لا أعرف كيف أحدد ملامحه و لكنه ماثل للعيان.
عمان في 2021/10/03