إبراهيم الفقيه ينشر ‘ظلال العمر’ على حبال الشمس

إبراهيم الفقيه ينشر ‘ظلال العمر’ على حبال الشمس


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    ميدل إيست أونلاين

    يبحر الكاتب إبراهيم الفقيه في الماضي ملتقطاً ما خلّفه العمر من ظلال على مسيرة الزمن، بانياً منها رواية تتحدث عن السيرة الذاتية، صدرت مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان، والتي تقع في حوالي (300) صفحة.

    ينساب السرد لدى الكاتب بعفوية، معرجاً على كثير من التفاصيل التي كانت تتزاحم، وتنثال من ذاكرة الكاتب، وكأنها تسرد نفسها، بلغة سلسة، مشبعة بالإحساس. وكما يحدث عند كتابة الروايات، تبرز هناك لحظة في الزمن، يحدث فيه التماعة ما تنبئ بولادة عمل، وتظل تلك اللحظة مثل الجمرة تشع حتى يرى العمل النور. تلك اللحظة تجلّت للكاتب وهو في طريقه من عمّان إلى بيروت، يقول: «راح الماضي يشق طريقه في ذاكرتي، أفكاري بدت امتداداً لما يجري في أعماقي، محطات تتوارد في رأسي وتتسلسل مثل حبات مسبحة. لم أكن أتذكر، كنت أعيش سنوات عمري لحظة بلحظة، تراءت لي «فردوس» بصورة ملاك وسط إطار مذهب جميل. وجدتُ نفسي أفكر فيها وأتمنى رؤيتها من جديد. فردوس لم تكن لحظة عابرة في حياتي. كانت لهباً في مسيرة العمر، لكن «كل شيء بقضاء، ما بأيدينا خلقنا ضعفاء».

    يفرد الكاتب مساحات واسعة للمرأة في الرواية، واستطاع أن يقدم من خلالها صورة واقعية جداً عن علاقته بالمرأة، منذ أن قرّر أن يتخذ زوجة ثانية لرغبته بالولد، يقول: “تصفعني حكايات قديمة، تتجدد خلايا ذاكرتي، ينقلب عالمي رأساً على عقب، أشعر أن فردوس قدري وأنا قدرها الذي لا فرار منه.. فما رحلة العمر غير محطة المسافر ليستريح من عناء الطريق، وينفض عن وجهه غبار الزمن.. لكن السفر يطول ويطول في رحلة مضنية، تشتد فيها حرارة الشمس حتى تُصبح لظى يحرق الجسد والروح. سنوات طويلة مرت، اتسعت فيها مساحات الأحزان وضاقت الدروب، ينتفض ما بين فترة وأخرى شيطان القلق، تنهال الذكريات، ولا أمل من صرخة طفل يلعب بين الأحضان.. حياتي وحياة فردوس غابة من الأسرار مدفونة في أحراج من أشواك الصبار.. قالت والدموع تملأ عينيها بعد أن عجز الأطباء عن حالتها «ابحث عن غيري، تزوج إذا كان هذا يرضيك، لم يعد هناك فائدة تُرجى مني».. لم يكن مقنعاً ما قالته لي ذلك المساء، ومع ذلك راحت مخيلتي تبحث عن امرأة أخرى تحقق أحلامي، وتملأ الفراغ الذي أعيشه، وفي أعماقي رحت أتساءل عمَّن يحقق أحلام فردوس! ومع أني تجاهلت كلماتها، إلا أن الفكرة ظلت تلح على أفكاري وتطاردني، وفي ذاكرتي صورة وحيدة لها تملأ كل حجرات القلب”. وهو يقدم رؤيته للعالم والأحداث، من خلال حكمة الإنسان البسيط: “عند المساء عاد أبو سعيد من عمله، كنت أقف قرب الباب متسمراً متوتِّر الأعصاب.. دار بيننا حديث قصير عن الأحوال الصحية، والسياسة والحرب الأهلية في لبنان.. قال وقد لاحظ قلقي «الجميع خوَنة، والخاسر الوحيد مَن يُقتل هذه الأيام».

    كما يقدم صورة واقعية عن الأحداث، من دون انحيازات مسبقة: “أصوات القذائف لم تهدأ يوماً في بيروت، وطلقات القناصين تشل حركة الشوارع وتحيل الأحياء البشرية المتحركة إلى جثث يصعب الاقتراب منها.. زخات من الرصاص تُبحر وتستقر في عباب الجماجم.. العالم أصبح صغيراً وجحيماً، الجدران ترنحت وأصبحت أرصفة وممرات، الأحياء الهادئة والمغلقة أصبحت جبهات مفتوحة ومتداخلة لقتال ملعون، والفجر بدا بعيداً بعيداً.. أحسستُ بشيء ما يتمزق في أعماقي، وبدت الثورة التي انتميتُ إليها نقمة في حياتي.. ملعونة هذه الحرب التي أجبرتني على الإبحار في خضمها حتى أصبحتُ قرصاناً!.. الثورة علمتني كيف أرفع سلاحي في وجه من أحب وأقتله إن كان خصماً للثورة!.. أقهقه عالياً، أمشي في جنازته، ثم أعود إلى البيت وأتقبل التعازي نيابة عن ذويه.. ملعونة هذه الحرب التي أصبحت هوَساً ولعنة!” ومن خلال الاسترجاع، يعود إلى الطفولة، ويلتقط منها ما اختزن بالذاكرة وترك أثرا على مسير الحياة اللاحقة، فهو يصف تفاصيل الحياة، ويجعلك تعيشها: “لا أعرف لماذا قادتني حاسة الزمن للماضي، واسترجعت أيام القهر والطفر وحكاية القط الأسود في ذاكرتي! وأنا في الصفوف الإعدادية من ستينيات القرن الماضي في عمان.. تلك الأيام كنت أعمل بعد خروجي من المدرسة في بيع بطاقات المعايدة أمام الجامع الحسيني الكبير، وعلى مدخل شارع بسمان لأقيت نفسي، وحين كان يتوفر معي ما يزيد عن حاجتي، أنتهز الفرصة مع زملاء الدراسة لنبتاع تذاكر ونحضر أحد الأفلام المفضلة لدينا.. سينما البتراء، خلف الجامع الحسيني، أو سينما عمان في شارع السلط، أو سينما الأردن كانت الأكثر نشاطًا وحضوراً.

    تلك الأيام كانت البدايات.. كانت الطفولة.. الطفولة كانت عناءً وتشرداً وضياعاً في عالم المخيمات والخيم الممزقة والمطر والبرد، والفقر والهجرة من فلسطين إلى بلدة الكرامة شرقي النهر.. مشوار طويل من الألم والمشي على حجارة الصوّان.. في بلدة الكرامة عرفتُ بقجة الملابس الأوروبية مع بطاقة المؤن، وكيلو الحليب، وقوالب السكر الأصفر، وخمسة كيلو غرامات من الطحين، لعائلة مكوَّنة من تسعة أنفار، عليهم أن يقيتوا أنفسهم منها شهراً كاملاً. لم يعد للحلم مكان ووالدي يفلح الأرض وينام في البساتين عند ضفة النهر الشرقية، يقارع الخنازير البرية والضباع، ويحرص على توفير لقمة العيش لأسرته، كما لم يعد للذاكرة غير الرضاعة من هذا الواقع المرِّ.. كان والدي فلاحاً يقضي معظم أوقاته في فلاحة الأرض، ويعيش من خيراتها. غيلان كانت تخرج من سقف القصب كل ليلة، تربض على صدري.. وحكايات أمي عن الوطن والهجرة والتشرد والمعاناة تحفر باستمرار في مسامعي، حكايات تدور كرحى الطاحون ليلاً نهاراً ولا تتوقف، تترك في داخلي آثاراً هيكلية قديمة ذات أصداء، أسمع فيها حس الحشرات تنخر وتتقدم وتسري في دمي”.

    حياة الكاتب مشبعة بالتراث، فقد عاش واندمج مع الأوساط الشعبية، وتلقّى منها الكثير من المعتقدات، التي استطاع أن يوظفها في عمله الروائي، بكل جمالية:”كثيرًا ما أحسستُ أن هذا العجوز لا يحبني، خاصة عندما كنت ألتقيه في محل ابنه أبي سعيد، أو أراه جالساً قرب باب المحل مع أصحاب له يقاربونه في العمر. ذات مساء حاولت التقرب إليه فجلست قربه على الرصيف. قال بأن صاحبه الذي يجلس بجانبه يطالع الأبراج ويرى المستقبل، وأضاف مازحاً لصاحبه بأن يطلعني على ما يراه في أيامي القادمة. تناول صاحبه كتاباً أصفر اللون من صدره وفتحه. سألني عن اسمي واسم والدتي، ثم جمع أرقاماً بقلم رصاص على صفحة الكتاب، وفتح على صفحة من كتابه ذي الخطوط القديمة والمتعرجة. بعد أن قرأ ما يقارب الصفحة قال «ستحصل على مرادك عاجلاً أو آجلاً، وأن أبواب العمل مفتوحة أمامك في بلاد بعيدة، وستتزوج امرأة تحبها، ثم تتزوج ثانية من امرأة غريبة عن الحي الذي تقيم فيه، واحدة منهما لن تنجب، وواحدة ستملأ البيت بالأولاد». ثم نظر في وجهي وأضاف بأن «إحداهما لن تبقى على ذمتك، ولا أعرف أي من الزوجتين سيتم الفراق بينك وبينها». قلت «وكأنك تتنبأ لي بطول العمر إذا كانت كل هذه الأحداث ستجري في حياتي!». فقال «الله أعلم، لكن هذا ما قاله برجك. وكذب المنجمون ولو صدقوا». وعلق جد فردوس قائلاً بأن «الأيام ستكشف المستقبل، والمستقبل لا يعرفه غير رب العالمين.. الأرزاق والأعمار بيد الله». ثم نظر نحوي وأضاف هامساً: «اللي بدّه يدخل البيت يدخله من الباب، مش من الشباك». شعرتُ وكأنه يقول لي بأنه يعرف قصة حبي لحفيدته منذ البداية. لكني تجاهلتُ ما سمعت، وتظاهرتُ بعدم الفهم».

    يذكر أن الكاتب إبراهيم الفقيه من مواليد سنة 1946 في قرية صوبا/ القدس، أنهى الثانوية في مدرسة رغدان الثانوية بعمّان سنة 1965، ثم حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بيروت العربية سنة 1971. عمل في التدريس بالسعودية (1970-1980)، ثم في التجارة حتى سنة 2000. وهو يرأسُ جمعية “صوبا” التعاونية منذ سنة 1993. وهو عضو في رابطة الكتّاب الأردنيين، والاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، واتحاد كتاب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ومن أعماله: “جذور في طريق التحرير”، رواية، 1974.”الهذيان”، رواية، 1975. “القربان”، قصص، 1990. “الصّمت المعبّر”، رواية 1992. “وما زال للصبّار روح”، رواية، 1993. “الخريف واغتيال الأحلام”، رواية، 1996. “الأرض الحافية”، رواية، 1999. “نوافذ الغضب”، رواية، 2001. “ظمأ السنابل”، رواية، 2007. “فرسان السراب”، قصص، 2010.”أحلام يوسف”، رواية، 2011. “قناديل الروح”، رواية، 2013. “صوبا- تاريخ وطن وحياة قرية”، 1996.