“إلى شغف”.. رسائل من أمّ إلى ابنتها بلغة أدبية

“إلى شغف”.. رسائل من أمّ إلى ابنتها بلغة أدبية


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    عبر أكثر من عشرين رسالة، تضيء مي بنات في كتابها “إلى شغف”، محطات إنسانية تهم كل فتاة مقبلة على الحياة، وتبني جسراً من التفاهم بين الابنة وأمها التي تمتلك من التجربة والخبرة؛ ما يجعلها حريصة على إيصال ما اكتسبته من التجارب لطفلتها المقبلة على الدنيا، وكأنما تخط لها الطريق التي تفضي بها إلى التمتع بالسعادة والتحلي بالرضا.

    وهذا ما تكشف عنه أولى رسائل الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” (2025)، حيث تقول الكاتبة: “طفلتي شغف.. إنّك يا طفلتي البهيّة لم تختبري من الحياة إلّا قشورها، لكنّها البدايات، ترتبطين بحاجاتك من النّوم، والطّعام، والشّراب، ارتباط أيّ كائنٍ بنعمة الحياة؛ فاذكري يا صغيرتي أنّ هذه الحياة نعمةٌ وُهبناها كي نحفظها بالحمد، وتلمّس مواطن الفرح”. مؤكدة في هذا السياق: “معنى أن تجدي لذاتك مكانًا في الحياة، يعني أن تكوني على ضمن الأحياء. لا زلتِ تكتشفين العالم الصّغير من حولك، تجدّين في لمس كلّ ما يحيط بك، وتختبرينه بحوّاسك، إنّما يغدق علينا الإله بمتعة الاكتشاف لنعرف ونتعلّم، وخير معلّمٍ للإنسان ذاته! وها أنتِ تكبرين وتتعلّمين بدءًا من اللّهو بشيءٍ جديدٍ قد تجدين فيه مسرّةً، أو آخر قد يؤلمك، أو غيره قد يصدمك.. وكذلك ستكون حياتك”.

    وهكذا، تتنوع موضوعات الرسائل التي تقدمها الكاتبة لابنتها ما بين الصداقة والمحبة والاعتدال والرقة والنضج والغيرة والنعم.. وجميعها تصب في اتجاه النصح والإرشاد المطعم بحس الحرص الأمومي، والرغبة الصادقة في أن تكون تلك الطفلة في المستقبل فتاة قوية ومستقلة وتعرف الطريق الذي عليها أن تسلكه لتحقق التميز والنجاح، ورغم أن هذه الرسائل موجهة من كاتبة لابنتها “شغف” إلى أن بها من الحكمة والتأمل في مجريات الحياة ما يجعلها رسالة إنسانية تهم كل فرد في المجتمع، ليس الأنثى فحسب، وإن كان الخطاب هنا موجه لها، بل تهم كلا الجنسين، إذ هي تتناول في الأصل قضايا إنسانية عامة.

    مثال ذلك ما تقدمه الكاتبة بخصوص انتقاء الأصدقاء، وفيه حكمة عامة يستفيد منها الجميع، حيث تقول: “الصّديق الصّدوق كنزٌ لا يُثمّن، فهو الأنيس، والصّاحب، والموجّه، والمساند، فانتقيه بإتقان الحكيم، وتجنّبي من لا يشبهك في باطنه، من لا يقارب خُلقك”. ومن ذلك أيضاً رؤيتها لمعنى “الجمال الحقيقي” إذ تؤكد بنات على أن الجمال في الخُلق، والرّوح والعقل، واللّسان أهمّ وأنفس من جمال الوجه، موضحة: “علينا الجدّ في البحث عن جمالنا الخاصّ، وتفرّدنا الّذي لا يشبه أحدًا إلّانا، إن رأينا أفضليّة غيرنا، فلنحبّ لهم ذلك، ونباركه، ونبحث عن مكاننا إلى جانبهم، فالسّماء فيها متّسعٌ لمزيدٍ من النّجوم اللّامعة، والأقمار المستديرة… كلّ يسير في مساره، لتكتمل لوحة الكون بهاءً”.

    وكشفت الرسائل عن لغة مميزة، فيها دفقات عاطفية تفسر جوانب من تنوع الحياة، وتستثمر الصور البيانية لتجسد المعاني والقيم والأخلاق الإنسانية السامية، وفي كل جملة من هذه الرسائل يتلمس القارئ صدقاً شعورياً ووجدانيا عميقاً، لأن الخطاب في الأصل هنا بين أم وابنتها، وهذه العلاقة راسخة بقوتها عبر الزمان، إلى جانب ذلك فلغة الرسائل تميزت بالقدرة على الإقناع، ومثال ذلك قول الكاتبة في إحدى الرسائل حول “النضج”: “إنّ الحياة يا ابنتي سلسلةٌ من المغامرات، والمواقف، والتّجارب، الّتي تتنوّع خبراتنا منها، ونحن على يقينٍ أنّ اختياراتنا مفتوحةٌ فيها بين الخير والشّرّ، والصّحيح والخاطئ، على أنّها أحكامٌ مطلقةٌ مضلِّلةٌ أحيانًا، ولا بدّ من استسلامنا لحقيقة تسييرنا في هذه الدّنيا فيما لا نملك اختياره… وأثناء خوضنا الحياة؛ فإنّ علينا أن نتعلّم كيف نحياها، ونسقي شغفنا تجاهها، بالتّوازن بين متطلّباتها، ورغباتنا، ومسؤوليّاتنا، وواجباتنا، مميّزين بين ما ينحصر وجوده ونحن فوق الأرض، وما يبقى ونحن نائمين في جوفها”.

    وفي رسالتها عن “الحب”، تؤكد الكاتبة مي بنات على ما تملكه من وعي تجاه تلك الحاجة الإنسانية التي لا يجب علينا إنكار وجودها أو منعه، بل التعامل معها بوعي واحترام للذات وللآخر: “نعم يا ابنتي، إنّ شعورنا بالحبّ يُثبت لنا أنّا أحياء نتنفّس أكسجين الحياة النّضرة الخضراء من رئتها الغضّة، نقطف من ربيعها أبهى الزّهور، ونعيش في تفاصيلها الحلوة، كأنّنا نُولد من أفئدتنا فراشاتٍ تتشرنق حول ياسمينةٍ بيضاء، نرى أجنحتنا تنبت ملوّنةً زاهيةً، نختبر متعة الطّيران في سمائها، نرانا أطفالًا مهما بلغنا من العمر، ونرى كلّ صعبٍ يصغر في أعيننا، وكلّ جميلٍ يكبر كشجرةٍ مخضلّة الغصون”. مؤكدة: “لا يُفزعك يا ابنتي نبض قلبك إذ خرج يومًا عن مساره، والتفت إلى شابٍّ أعجبك منه ما أعجبك، ففطرتنا الإنسانيّة تأخذنا إلى هذا، كوني ثابتةً على منظومتك الأخلاقيّة الّتي تبيح لكِ ما تبيح، وتحرّم عليك ما تحرّم، واتّخذي من محيطك النّاصح الأمين الخبير، الّذي يحرص عليك حرصك على نفسك”. منهية رسالتها بالنصح: “لا تخافي هذا الحبّ يا ابنتي، ولا تطمئنّي له، كوني بين بين، تسيرين الهوينى على أعتابه، لأراكِ تتنعمّين في جنان الحبّ طوال عمرك، وتأكّدي أنّي ووالدك أوّل من أحبّك، وسيبقى لآخر لحظةٍ في عمره”.

    يذكر أنّ د. ميّ بنات حاصلة على درجة الدّكتوراه في الدّراسات الأدبيّة والنّقديّة من جامعة العلوم الإسلاميّة، وتعمل في سلك التّعليم، لها إصداراتٌ أدبيّةٌ بدأت بمجموعة قصصيّة بعنوان ” كلّ شيءٍ ساكن”، وتبعتها رواية “مهرة”، ثمّ رواية “إليك”، وعلى صعيد البحث العلميّ نشرت بنأت رسالة الدّكتوراة كتابًا بعنوان ” صورة الغجر بين الرّواية العربيّة والأجنبيّة”.