“اقطُفْني مرّتين”.. قصائد تقاوم المحنة وتنتصر لتدفّقات الحياة

“اقطُفْني مرّتين”.. قصائد تقاوم المحنة وتنتصر لتدفّقات الحياة


class="inline-block portfolio-desc">Portfolio

text

“شريف الشافعي”

تتّخذ الشاعرة الأردنيّة باسمة غنيم في ديوانها “اقطُفْني مرّتين”، الصادر عن دار “الآن ناشرون وموزّعون”، دلالات القطاف وإشاراته كمعابر متشعّبة إلى حالات إنسانيّة إيجابيّة، تعكِسُ من خلالها الانتصار لحيويّة الحياة وتدفّقاتها، رغم التمزّق المحيط والتصحّر الوجدانيّ السائد، وتستدعي الخصوبة والنماء والنضج كمقوّمات للطاقة البنّاءة، القادرة رغم كلّ شيء على محو الأوجاع والآهات، وإسكات ألسنة النيران، وإبعاد الأدخنة “أنا سيّدة الحياة/ أنهل من نعيمك بلا كلل/ أنا الثمر الذي ينضج بالآه/ في نارك لا يحتضر”.
الديوان هو الثاني في مسيرة الشاعرة باسمة غنيم بعد “أقطعُ وتراً لأزرعَ كمنجة”، ويتضمّن أكثر من مئة قصيدةٍ نثريّةٍ قصيرةٍ، موزّعةٍ على قرابة مئة وخمسين صفحةً، تبدو القصائد المكثّفة بمثابة ومضات إشراقيّة تختصر الطريق إلى التفتّح، في وجود لا يعدُمُ أمومته، ولا يتوقّف عن إنتاج براعمه الجديدة “هي كفّ أمّي حدائق وأعناب”. والشعر من هذا المنطلق، هو ما ينبع من قواميس الروح؛ ليواجهَ كلَّ ما هو ماديّ وفانٍ وخربٍ، مثلما أنَّ الحُبّ كالفجر، يُنبت الشمس، “أظنّ أنَّ الشعر اصطاد الفكرة من عتم الليل/ حتى فاض بين أصابعنا منابع أنهار”.
في نصوصها تعترف الذات الشاعرة بأنَّ الأزماتِ الفرديّةَ والجماعيّةَ متلاحقةٌ، متشابكةٌ، لا نهائيّة، خصوصاً في مجتمعٍ شرقيّ ينضَجُ بالهموم والانكسارات، “الهزيمة هي ارتعاش القلب في عمق الظلام”. لكنَّ الأزمة التي يجبُ عدمُ الاعتراف بها من أجل الفكاك منها دوماً، هي السقوط في شرك الاستسلام لتلك الأزمات، بمعنى أنَّ الاستبسال في المقاومة، والقدرة على مواصلة اليوميات الاعتياديّة، وتعاطي نسمات الهواء، هي بحدّ ذاتها انتصارات للذات المُتشظّية، وربما تبدو انتصارات صغيرة، لكنَّها عميقة ومؤثرة، إذ تمنح الحياة معنىً، والغرباء عنواناً، والأحلام سبيلًا للتحقّق، “لا تلعنوا أحلامكم/ لا تُهملوها/ لا تقذفوا بها من أرواحكم/ فهي غالباً تتحقّق/ وغالباً تُحلّق/ وغالباً تصبح حياة”.
هذه النزعة الديناميّة في الشعر وفي الحياة معاً، تنطلق من الرغبة في التحرّر التامّ، بدايةً برفض الحصار وكسر القيود، والتمرّد على الثابت والمستقرّ في اللغة والكتابة، ونمط التفكير وأسلوب المعيشة، وسائر التفاصيل المشهديّة، “لا أستطيع إلا أن أحاصر اللغة بشقاوتي/ حين نداها فيكَ يسري”.
وتتطوّر الحرّيّة لتصل إلى ذروة الانفلات وغاية الجنون، والتوحّد الحميم بالآخر، الذي يصل بالذات الشاعرة إلى تأويلها واكتمالها، واستغنائها واكتشاف لغتها وكيميائها الخاصة “بالمُطلَق/ أنا المُتوعِّدة.. المُتوجِّسة.. الرَّاغِبة.. السَّاخطة.. المجنونة.. الحُرَّة/ الفراشة الحائمة بلُغةٍ لن تضلَّ بي!/ المحمومةُ بقيدٍ لا تأويلَ فيه سِواكَ/ المُتوغِّلة بجمرٍ لن يكتويَ به غيرُك”.
ومثلما تشترط الشاعرة على اللغة والكلمات أن تتخلّص من معجميّتها الضيّقة؛ لتكون غاوية في الحبّ “تتلاعبُ بنا، تردعُنا وتُثنينا، وتلينُ حروفها حيناً”. فإنَّها ترفُضُ قوانين الطبيعة إذا كانت تقود إلى النمطيّة والتكرار، والشعور بالسَّأَم، ففي تلك الحالة تستوي الحياة والموت، والنور والظلام، والسعادة والألم، ولا تبقى في القلوب النابضة بالأحاسيس سوى مِضخّات الدماء الميكانيكيّة “يصحُو الصَّباحُ ثقيلًا/ بلا قدمَيْن/ يزحفُ نحوَ نهارِهِ الطَّويل/ بصمتٍ مُتعب/ يأتي المساءُ بعدَ عناء/ يرمِيهِ بطلقةِ سواد/ تُرديهِ قتيلاً/ بلا وجع”.
وللخلاص من الروتينيّة والدوائر المغلقة، ليس هناك من سبيل سوى أن يعيش الإنسان في خطر، بحدِّ رؤية نيتشه، فالحذرُ المفرط قد ينتهي بالتجمّد، والخوف من الأشواك قد يحول دون القطاف الأول، فما بال المتعطّشين إلى أكثر من قطاف؟! “حاورْ مِرآتَكَ كثيراً قبلَ أن تُغادرَها/ لا تُهادِنْ رغبتَكَ معَ لعنةِ النَّهار/ ولا تُحاكِ حدائقَهُ النَّاعسة/ دعِ الصَّمتَ يُجاري أشجارَهُ الوارِفةَ/ بلا حذر.. بلا دقائقَ ترتعِدُ من ماهيَّةِ الزَّمن!/ اقترِبْ واقطُفْني مرّتَيْن”.
تبدو الكتابة بمثابة خلاصٍ موازٍ تلجأ إليه الشاعرة الراغبة في التواصل مع نفسها أولاً، أملاً في إدراك تصالحٍ ما مع عالَم الصمت والانزواء والفراغ، القصيدة دائماً صيدٌ ثمينٌ، ذلك أنَّها تُبلور الجوهر، وتُكثّف المعنى، وتنفض الغبار الزائل والزائف عن الأصيل الباقي، ماذا تريد الشاعرة من العالم؟ ما تريده هو: أن تظلَّ تريد، وتريد، وتريد. الإرادة بحدّ ذاتها غاية، وهي الطاقة بعد فقدان الطاقة، والقدرة على إنقاذ غرقى بعد تحلّل الذات، نعم، كُلّ الكائنات التي تسبح في البحر المَيْت مَيْتة، لكنَّ نفخةً فيها من الروح المُعطّلة قد يكون لها تأويل مغاير، “لا معنى للفكرة إن لم تتذوّق توتها من نسيج ظلاليّ!”.
وتتّسع فضاءات الإرادة شيئاً فشيئاً، ويصير غير المسموح به هدفاً للأمنيات والأحلام، وربما أيضاً للاختراعات، فما لا يمكن الوصول إليه بقدمي الحقيقة، وأجنحة المُخيّلة، وبساط الريح، يمكن خلقه أو اختلاقه، وحينها لن تخبرَ الشاعرةُ أحداً في الصباح عن الحياة التي وجدتها، حتى لا يتّهمها أحد بالكذب أو الإفراط في المبالغة، “أمطِري/ لتُغادر الأرضُ سقمَها/ ويكون الخلاصُ كما الصَّهيل/ يسأل العاشقينَ به مددا!”.
وتمضي الذات الشاعرة في رحلة تفجّراتها البركانيّة على كلّ المستويات بوصفها الإنسانيّ، وليس فقط بوصفها الأنثويّ، هي تدرك أنَّ الرحلة إلى قارّة نادرة تبدو رحلة بعيدة، غير مأمونة العواقب، لكنَّ التحرّك نفسه قيمة تستحقّ التجريب، وربما التضحية، الابتعاد موت مؤكّد، وللوصول سكرات، لكنَّ هذه السكرات قد تكون بمثابة رعشة الحياة، “أودّ لو أحيك مسافاتنا الضائعة/ لننجوَ من هُوّة البعد”.
وليس هناك معنى للنوافذ والأبواب في نصوص الشاعرة، سوى بإمكانيّة تحقيق الخروج الآمن أو غير الآمن، والتّحرّر الأرحب الذي قد يتحقّق في مراحلَ تاليةٍ من الانطلاقات المتوالية، فلربما يكون بالتحرّر الذاتيّ الداخليّ من كلّ ما يعتري الإنسان من قيود تسجُنُ ملكاتِهِ وطاقاتِهِ وقدراتِهِ اللانهائيّة، وفي ذلك تمسّكٌ بحقّ الإنسان في الخلود “أُحبُّ النورَ الساكنَ فيَّ/ ولا يُطفئه غيري!”.