يفتح الكاتب والباحث الفلسطيني كامل أبو صقر قلبه للحديث عن تجربته الطويلة بين الفكر والأدب، بين المحاماة والتأمل، بين الوطن والرحلة، تنقّل بين ميادين الكتابة الكبرى، من مؤلفات فكرية كـ”العولمة: رؤية إسلامية” إلى الرواية الملحمية “فتى الغور 67″، وصولًا إلى مجموعته القصصية الجديدة “الأقدام تكتب – سردية بين المحطات والذاكرة”، وبين هذه المحطات جميعها، يظلّ الهمّ الإنساني والبحث في النور الإلهي جوهر تجربته.
وأكد أبو صقر أن الكتابة في جوهرها ليست صراعًا بين القانون والشعر، بل لقاءً بين العقل والقلب، بين المنطق والخيال، فالمحاماة علم دقيق وصياغة منضبطة، وقد أثّرت به من حيث وضوح اللغة وبناء الحجة وتسلسل الأفكار، على حد تعبيره.
وفي حوار لـ24 بمناسبة صدور كتابه الجديد “الأقدام تكتب”، قال: “كل محطة مررت بها كانت أثرًا على الأرض، وكل أثر كان حكاية تنتظر أن تُروى” وأضاف: “لم أجد نفسي في لون أدبي واحد بعد، وربما لا أريد أن أجدها، لأن متعتي الحقيقية تكمن في الرحلة نفسها، لا في الوصول إلى محطة نهائية”.
_ بدأت بكتابة الرواية الطويلة وانتقلت إلى القصة القصيرة، وهو مسار عكسي لما اعتاده الكتّاب، ما سرّ هذا التحول؟
هذا التحول في الحقيقة يعكس طبيعتي الشخصية التي تميل إلى البدء بالأصعب فالأيسر، أبدأ من القمم الفكرية ثم أنزل إلى السهول الهادئة، حين كتبت أول أعمالي، لم أبدأ برواية ولا بمجموعة قصصية، بل بكتاب فكري ضخم هو “العولمة: رؤية إسلامية”، تناولت فيه موضوعًا غير مطروق عربيًا في ذلك الوقت، فصدر في مجلدين تجاوزا 1600 صفحة بعد 10 سنوات من البحث والكتابة، وكان الانطلاق من الكوني إلى الإنساني، من أوسع الدوائر الفكرية إلى أدق التفاصيل، وتخلل ذلك كتابات في الإنترنت والتجارة الإلكترونيه وموضوع الكفالة في الخليج وهو مؤلف باللغة الإنجليزية.
ثم كتبت رواية “فتى الغور 67″، وهي عمل امتدّ لنحو 600 صفحة تدور أحداثه في أخفض مكان على الأرض – الأغوار الفلسطينية – في رمزيةٍ عميقة تربط بين المكان والإنكسار، عام ٦٧ وبين العودة والصعود، بعدها وجدت نفسي أميل إلى الكتابة المكثّفة، إلى لحظات التأمل القصير والنبض الإنساني الخاطف، نظرات في الوجود، كتبت ٩٩ ومضة بين الشعر والنثر، عقب ذلك كانت القصص القصيرة في “الأقدام تكتب” بمثابة محطات استراحة، أسجل فيها أثر الرحلة الطويلة، وأكتب بقدمَيّ قبل أن أكتب بيديّ، فكل محطة مررت بها كانت أثرًا على الأرض، وكل أثر كان حكاية تنتظر أن تُروى.
وأستحضر دائمًا الآية الكريمة التي تختصر فلسفتي في الكتابة والحياة، “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ” (الشرح 7)، أي إذا انتهيت من عمل فابدأ بآخر أكثر صعوبة، فلا سكون بعد فراغ، بل حركة دائمة نحو المعنى.
_ تنوّعت تجاربك بين الفكر والرواية والقصة، هل وجدت نفسك في لون أدبي محدد؟
لم أجد نفسي في لون أدبي واحد بعد، وربما لا أريد أن أجدها، لأن متعتي الحقيقية تكمن في الرحلة نفسها، لا في الوصول إلى محطة نهائية، أنا أعيش بين القراءة والكتابة كما يعيش المسافر بين أرضين: كل كتاب هو جواز عبور جديد
حين أسافر، أشعر أن قدماي تسبقاني إلى الكتابة، المكان هو الذي يكتبني قبل أن أكتب عنه، والأثر الذي تتركه الرحلة هو ما يتحول إلى نص، ما أخشاه فعلًا هو الوصول إلى نهاية الرحلة، لأن الكتابة بالنسبة لي ليست مهنة، بل وسيلة للتوازن والوجود، أتنفس بها وأتأمل من خلالها في كتاب الله المقروء – القرآن – وفي كتابه المنظور – الكون، الرحلة لم تنتهِ، وربما لا تنتهي إلا بانطفاء الحبر والنبض معًا.

_ “الأقدام تكتب”آثار العنوان فضول القرّاء، كيف وُلد هذا العنوان الفلسفي؟
جاء عنوان المجموعة القصصية من تأملٍ في مطلع سورة يونس، في قوله تعالى: “وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ” (يونس 2)، توقفت أمام عبارة “قدم صدق”، وتأملت العلاقة بين القدم والصدق والسعي، فقلت في نفسي: إن كانت للإنسان قدم صدق، فلماذا لا تكون هذه الأقدام قادرة على أن تكتب؟.
ومن هنا انطلقت الفكرة: أن الرحلة الصادقة هي كتابة، والخطوة الحقيقية هي نصّ حيّ، فالأقدام التي تمشي في أرض الله الواسعة تترك أثرًا لا يزول، والأثر هو أول الكتابة، جمعت في كتاب “الأقدام تكتب” محطاتٍ من حياتي بين السفر والتأمل، بين القدس ودبي وباكو ونابلس وعمان وغيرها، حيث تتحول الذاكرة إلى قصص قصيرة تمزج الواقع بالفكر، والرحلة بالدهشة.

_هل يشكل الوطن مصدر إلهام مباشر في كتابتك؟
الوطن والأم في نفس المستوى أو هما شيء واحد ويظهران في النصوص، على فترات لكن حضورهما باطني وعميق، هما الطاقة التي أستمد منها القدرة على النهوض كلما ضعفت العزيمة، فلسطين، التي بارك الله فيها، تسكن في وجداني كما تسكن الأم في الذاكرة والحنين، هما ليسا مصدر إلهامٍ لحظة، بل طاقة احتياطية تشتعل كلما فتر الضوء في داخلي، ومع كل آية من الذكر الحكيم، أستعيد تلك الطاقة وأكتب من فيضها، فالإلهام عندي لا ينفصل عن النور، والنور لا ينفصل عن الأرض والرحم والمقدّس.
_هناك حضور واضح ومهيب لعدد من آيات القرآن في مجموعتك القصصية، “الأقدام تكتب”.. ما مكانة القرآن في تجربتك الفكرية والأدبية؟
القرآن الكريم هو النص المركزي في حياتي اليومية، وهو المرجع الأول لكل تأملاتي الفكرية والإنسانية والكتابات، هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المعجزة الخالدة في البيان والمعنى، كلما قرأته ازددت يقينًا أن الكتابة الحقيقية لا تُستقى من التجربة وحدها، بل من التدبر في الوحي والوجود معًا، فالقرآن يفتح أمام العقل والروح آفاقًا لا تنتهي، ومن يفيض عليه شيء من نوره يصبح كاتبًا بالنور لا بالحبر فقط، أدعو الله أن أكون من الذين ينالون شيئًا من ذلك الفيض، ولو بقدر يسير، لأن نور الكلمة هو أصدق ما يبقى.
_وأنت محامٍ إلى جانب كونك كاتبًا، هل أثّرت المهنة على أسلوبك الأدبي؟
المحاماة علم دقيق وصياغة منضبطة، وقد أثّرت بي من حيث وضوح اللغة وبناء الحجة وتسلسل الأفكار، لكنها أيضًا قد تدفع أحيانًا نحو الجمود، لذلك أحاول دومًا أن أوازن بين دقّة القانون وجمال الأدب، أحبّ القاعدة التي أرددها دائمًا “في التعقيد بساطة” أي أن العمق الحقيقي لا يعني الغموض، بل الوضوح المشرق، الكتابة في جوهرها ليست صراعًا بين القانون والشعر، بل لقاء بين العقل والقلب، بين المنطق والخيال.
(لقاء مع الأديب كامل أبو صقر، صحيفة 24.. الخبر بين لحظة وضحاها، 3/11/2025)


