“الأعمى الذي رأى البحر” لخالد المعمري.. قصائد تعاين القلق الإنساني

“الأعمى الذي رأى البحر” لخالد المعمري.. قصائد تعاين القلق الإنساني


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “وكالة الأنباء العمانية”

    في ديوانه “الأعمى الذي رأى البحر”، يسلط الشاعر خالد بن علي المعمري الضوء على علاقته الوجودية بالأمكنة، وفي طليعتها البحر، وهذا ما يتضح بمجرد مطالعة عنوان الديوان الذي ينطوي على مفارقة رمزية عميقة، تفتح أفق التأويل على مصراعيه، ويحيل الرمز إلى حالة ساحرة وآسرة من الغياب الذي يعبّر في بعض تجلياته عن غياب التجربة الحسية لصالح تلك المرتبطة بالروح.

    وللتدليل على هذه الفكرة، نقرأ للشاعر من الديوان:

    “الأعمى الذي رأى البحرَ

    كان أنا

    رأيتُه يُشبهني

    هادئًا في الصباحِ

    ثائرًا عند الظّهيرةِ

    عاشقًا في المساءِ

    همسَ إليَّ

    أنّه لا يُحبُّ الزرقةَ

    مَنْ صَبغَ وجهَهُ بها؟!

    مَنْ عَلَّمهُ أُحجيةَ المَدِّ والجَزرِ

    مَنْ عَلَّمهُ الرقصَ

    عندما تمشي حبيبتُه على صفحةِ الرّملِ

    إنه يُشبهُني

    يذوبُ كقطعةِ سُكَّرٍ

    إذا غمزتْ إليه امرأةٌ عابرةٌ.

    الأعمى الذي رأى البحرَ

    كان يبحثُ في البحرِ عن خُلودِهِ

    اتَّفقَ على نسيان تجاربه الماضيةِ

    لكنّه لم يَنْسَ

    هل ينسى خطيئتَهُ التي غرقَتْ في لذّةِ الشَّبَهْ؟”.

    وفي عدد من نصوص الديوان الذي صدر عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن، يستحضر الشاعر شخصيات تقترب من عالم شديد الغموض غير أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع أيضًا، ومثال ذلك استحضاره لشخصية العرّافة التي تستشرف أحداثًا في المستقبل وتخبر الناس باقتراب الكارثة فيفرّون خوفًا ليعتصموا بالجبال منتظرين عودة العرّافة من موتها، وهذا المشهد يذكّر بالرمز الذي انطوت عليه فكرة مسرحية “في انتظار غودو”:

    “وساوسي نائمةٌ هذه الليلة

    أنا مثلُ أهلِ القريةِ،

    مثلُ جدّي،

    أنتظرُ شيئًا سوف يعود

    شيئًا يُشبهني، يُشبه وجعًا بي

    الحقيقةُ غائبةٌ، والصيفُ أكثرُ مطرًا

    عادتِ العرافةُ

    وأنا بينهم واقفٌ

    أنتظرُ شيئًا ليس يعودْ”.

    ويتناصّ المعمري مع لغة القرآن الكريم وعدد من النصوص العربية في مفاصل من قصائده، مثال ذلك:

    “في الحربِ،

    قيل لأبي: اكتُبْ أسماءَ الموتى.

    قال: ما أنا بكاتب.

    قيل: اكتُبْ وحسبْ”.

    يكتب الأب ولكنْ مختارًا الرسم، لعل ذلك ما يشير إلى اختيار الشاعر نفسه الرسمَ بالكلمات لمشهد الحرب والجنود الذين ارتقوا دفاعًا عن أرضهم، حيث تفوح من بين الكلمات ألوان وأشكال وصور متنوعة. وفي مفارقة ساخرة؛ يعرض الأب ما قام برسمه من صور للشهداء في الوقت الذي يتحدث فيه الجنرالات عن بطولاتهم:

    “بعد انتهاءِ الحربِ

    نبش أبي الذاكرةَ

    وعلّق صُوَرَ الجُنْدِ

    وبكى الناسُ موتاهم في معرضٍ فنيٍّ،

    فيما كان الجنرالُ يقرأ خطبةً

    عن استبساله في أرض المعركةْ”.

    يكشف الخطاب الشعري للمعمري عن تجربة متفردة تعكس أفكاره ورؤاه عن الحياة والوجود، وهي بذلك تعبّر عن تواشج بين حياة الشاعر المعيشية، وبين أفكاره الفلسفية الرمزية، مبتعدًا عن المباشرة ومتجهًا في خطابه الشعري نحو الرمز الذي يحتفي بالجمال وينتصر للحياة ولجوهر الإنسانية فينا:

    “أصدقائي الصيّادون كانوا يرمون سنّاراتهم،

    فيصطادون سمكًا،

    وسلاحف، وحوريّات!

    وأنا، كوني شاعرًا، رميتُ سنّارتي

    فاصطدتُ ضفدعًا بعينينِ جاحظتينِ.

    ابتسم في وجهي، فأعدتُهُ إلى الماء،

    ثم جمعتُ سنارتي،

    وحقيبةَ الصيد الجديدة،

    وديوان المجنون،

    وعُدْتُ أُطاردُ ظبيةً في الصحراءْ”.

    وعمومًا، تشتبك نصوص هذا الديوان مع إرث متراكم من القلق الإنساني الوجودي، كأنما هي –رغم قصرها- أناشيد ملحمية تروم إلى ملامسة العمق من كل شيء والغوص في أعماق الحياة باحثةً عن المختلف والمفارق والمدهش.

    أما الموضوعات التي تناولتها القصائد فتتنوع بين الإنساني والوطني والوجداني والتأملي/ الذاتي. وتتكرر خلال ذلك مفردات على غرار: النسيان، والحب، والعشق، والرحيل، والشوق، والفقد الذي يتجلى كما يراه الشاعر في هذه الصورة:

    “أنْ أراكِ كلَّ يومٍ

    على شاطئِ البحرِ

    تتقابلُ الخطواتُ

    ولا يخفقُ القلبْ”.

    يشتمل الديوان على خمس عشرة قصيدة، صاغها الشاعر من مفردات وتعابير وجُمل تفيض بالحنين وتئنّ تحت وطأة الألم وتعود إلى الأسطورة والتاريخ والذاكرة الجمعية، كما في استحضار قصة النبي يوسف وزليخة، وحكايات شهرزاد، والحلّاج.. ولا يكتفي الشاعر باستحضار هذا الموروث شكلًا، بل يتفاعل مع مفرداته ويحولها إلى رموز للتعبير عن فكرة إنسانية عامة، ففي قصيدة “الحلاج” نقرأ:

    “حضر الحلّاجُ

    وغاب القاضي والشهودْ

    مَن يُقنعُ الخليفةَ أنّ صعلوكًا

    سيبني قبيلةً أخرى

    من يُقنعُ الخليفةَ أنّ شاعرًا هجرَ القصيدةَ والقافيةْ

    من يُقنعُ القاضي بأنّ الحياةَ لها احتمالانِ:

    الموتُ والخوفْ

    من يُقنعُ الشُّهودَ بأنّا نُحبُّ المطرْ!”.

    يُذكر أن المعمري كاتب وشاعر وناقد من ولاية لوى، صدر له في الشعر: “وقال نسوة في المدينة (2007)، “وحدك لا تسافر مرتين” (2009)، “هذا الذئب يعرفني” (2013)، “مخطوطة عشق” (2017). وله في المقالات والنصوص: “تحت المطر” (2013)، وفي الرسائل: “ما جاوز الظل” (2016)، وفي الدراسات: “أحجيات السرد” (2017). كما صدر له في عام 2020 كتاب بعنوان “أصافح الغيم” ضم مختارات من الشعر العُماني المعاصر.