الأمجد بن أحمد إيلاهي و”رسائله إلى كارلا”.. (إنها أناه وقد أخرجها للناس بمسمى “كارلا”)

الأمجد بن أحمد إيلاهي و”رسائله إلى كارلا”.. (إنها أناه وقد أخرجها للناس بمسمى “كارلا”)


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    نصر سامي

    1
    بداءة ، لا يسع القارئ والمهتم بالشأن الأدبي التونسي ، سوى أن يثمن ويحتفي بصدور ” رسائل إلى كارلا ” للشاعر التونسي الأمجد بن أحمد إيلاهي المقيم في سلطنة عمان أستاذا للفنون التشكيلية ، عن ” الآن ناشرون وموزعون ” ، في طبعة قشيبة تسر الناظرين ، يحدث هذا ، في مقابل الشح في توالد الرسائل واستئثار القصة والرواية والشعر، بحيز واسع من جهود المكتوين بلعنة الكتابة الجميلة ، رغم جاذبيتها وسحرها ، والأكثر منه ، أنه من خلال الرسائل هذه ، يمكننا أن نلقي القبض على محطات واللمحات ملفتة والمسارب الخفية في شخصية الكاتب ، قد لا تتيحها لنا كتاباته الابداعية التي يمتزج فيها الواقع بالحلم ،
    ولأن المرحلة التاريخية ملغومة والتفاعلات والتناقضات ، فقد انحاز الأمجد ابداعيا بالتقاطها بمسامه وجوارحه ، ومن ثم ، ولم يكن البديل سوى الحب والشعر و الثورة ملجأ حميميا حاميا وساخرا لاذعا ,
    لكن ماذا تحكي هذه الرسائل لكارلا التي تشتمل على رسالة وفي 94 صفحة من القطع المتوسط ؟
    إنها تحكي عن الثورة والشعر والحب ، ولم تشذ عن الايقاع المرحلي الساخن ، واسترقت السمع لتذافعاته السياسية و والاجتماعية والثقافية من خلال التوليف بين اللغة الشعرية واللغة السردية واللغة التوثيقية ، وكل شيء من بئر الذاكرة .
    2
    لا ريب في أن الكثير من الباحثين والنقاد ، ناوشوا معنى الشعر والحب ، وظل حبر الاقلام يسيل للاقتراب من شهدهما ،بيد أنهما ظلان بمنأى عن شهد المعنى ، الذي لا يعطي الا بقدر إيمان العاشق والشاعر بجدواهما.
    وعليه ، نقرأ في ” رسائل كارلا ” ، لواعج الأمجد العاشق الولهان الذي يكمن في أعماقه الشاعر الملسوع بحرقة القول والحلم والاسترجاع ، حتى يغدو الشعر والحب توأمان ، كما هي الطريق النازلة والصاعدة ، وكلاهما نفس الطريق نقرأ :” الشعر اجتماع مغلق للعواطف والحقائق والوقائع ليفرز نفسه مغايرا ” ، ونقرأ أيضا من نفس الرسالة ” والحب كزقزقة العصافير في أقفاصها “، ولا يخفى من خلال الشاهدين أن الحب والشعر كلاهما قفص ذهبي للشعور وموسيقى الوجدان .
    هذه التوأمة ، يرقيها الشاعر إلى مرتبة الحلول ، حلول الحب في الشعر ، بطريقة بعيدة عن رومانسية النصف الأول من القرن العشرين ، نقرأ:” الشعر يا رفيقتي …التقاء الانامل بالأصابع قبل صمت العاشقين ، الشعر ببساطة هو تلك النظرة بين قبلتين ” ،
    3
    ولنقترب الآن ، من بعض الاعترافات الناجمة عن تناقضات الثورة ،برصد بعض الشواهد والحالات الملتبسة، نقرأ في الرسالة الموسومة ب ” ” :” آمنت بالثورة في معناها الخالص النقي ، وآمنوا بالركوب على الامنا، وان ركب بعضهم ونجح في اقناع البؤساء باكاذيبه ، فقد ركب اكثرهم على إصبع الزمن الضائع منا كالإبر في العب “
    والظاهر أن الكاتب ، اراد عن وعي وسبق اصرار ، تعرية بعض حالات التشوه الذي اعترى مسار الثورة وقلبت راسا على عقب ، لتهافت الانتهازيين والمتسلقين ، لكن ، وبالرغم من الحداد الثقيل على سرقة الثورة ، يختار الأمجد ب أن يفتح كوة على الأمل بدل تداول ثقافة التيئيس :” يبقى ” وما زلت ارى الثورة في عيون اصحابها نادرة تنام بين اللآلئ والمرجان ..ثورة للعاشقين والباحثين عن الحياة ومعاناها الجميل ” ,
    ومن إذن أن الثورة في عيون ، هي الثورة التي تؤمن ، قناصوها بائعو الياسمين ، وشاحناتها مكتظة ، ولا محل فيها للقتل والحيونة ، ومرتكبوها يتقنون العشق ، ويحلمون بالجنة ” الثورة ياكارلا ،شأن لا علاقة له بالتوحش والقتل والخراب الذي نراه اليوم ، فلا تصدقي ثوريتهم ، ولكن صدقي أنهم سفاحون وقتلة ، ولا علاقة لهم بالشعر ولا بالحب ولا بالثورة “
    4
    تتميز هذه الرسائل بخصائص جمالية وتعبيرية ت ، لم يكن اختيارها اعتباطيا ، بل لها علاقة بانفعالات المرسل وأحلامه وذكرياته ، ولعل أو ما يلفت النظر هو التباس السرد بالشعر ، إذ معالم السرد واضحة كما معالم الشعر بارزة ، ونركز في هذا التبنين الجمالي للرسائل على ما يكمن أن نسميه بشعرنة ” رسائل كارلا ” ، وإخراجها في قالب شعري ،
    هكذا ، واستنادا على الصور الشعرية المدسوسة في الإرساليات ، تتأتي شعرية الرسالة ، ونقدم منها هذه الأمثلة الدالة :
    ” وحيدون ومبعثرون نحن كحبات القمح في البيدر”
    ” وما زلت أصغي في كل حزن لصوت المطر “
    ” أتواصل مع الكون الفسيح بقلب مشرع الأبواب والنوافذ ، وبعقل لا يمرر السموم إلى أفكاره “
    وفي سياق تصعيد شعرية الرسائل ، تحويل الرسالة الى شبه مادة شعرية ، من خلال التقطيع الجملي والتقسيم الفضائي للأسطر كما في قفلة الرسالة الأخيرة :
    ” حزني ليس بابا لأغلقه متى عن للأفراح ذلك ..
    ليس قناعا أرتديه …
    ولا أعرف التماسيح كي استنسخ لي دمعتين …”
    تقطيع جاء معززا بصور استعارية ومجازية منحت الرسالة رواءها وتهوجها الشعري
    5
    ومجمل القول ، ” رسائل إلى كارلا ” للأمجد ، تجربة تونسية جديدة ، تنضاف إلى روبرتوار أدب الرسائل على قلته في المشهد العربي ، وليس بوسع القارئ والناقد إلا أن يكونا طوقا حاضنا لهذه الرسائل التي تبحث في الحب والشعر والثورة ، ثالوث يقتضي اقتفاء أثره ، فهل بأيديهم يفعلون ؟