الإرهاب.. ورواية «خبز وشاي» لأحمد الطراونة

الإرهاب.. ورواية «خبز وشاي» لأحمد الطراونة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    البوابة 

     إن رواية «خبز وشاي.. سيرة أبو وئام الكركي» للكاتب والروائي الأردني أحمد الطراونة، من الروايات التي تنتمي إلى الأدب المهتم بقضايا الوطن، حيث امتزج فيها التّاريخ الشّخصي لبعض الأفراد بالتّاريخ العام للأمة والوطن، فنجد في الرواية توصيفًا لزوايا وأبعاد كثيرة: تاريخية ونفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية، كل ذلك بِلُغة ترصد حركة الشخصيات ظاهرًا وباطنًا، وبأسلوب واقعيّ بسيط، استعمل فيہ الكاتب آليات بلاغية وصورًا فنية ولغةً شعرية في كثير مِن المَواطِن.

     تتناول الروايةُ شريحةً اجتماعية مقهورة تبحث عن حياةٍ كريمة، وهذہ الشريحة انتقاها الكاتب بذكاءٍ وعنايةٍ مِن الواقع الذي نعيشہ، واختار أن يكون سردہ فيها واضحًا للأحداث المعاصرة بجميع تجاذباتها الفكرية وتعرّجاتها الحياتية، كما اعتنى بإظهار مواقف الشخصيات تجاہ تلك الأحداث؛ إذَن هو لا يروي قصّة واحدة فحسب، بل يروي قصصًا متعدّدة لشخوصٍ مختلفة في أفكارها ونوازعها حتى تصبح كلّ قصّة تمثّل شريحة اجتماعية معينة.

    يبدو واضحًا أن أهمّ العوامل التي ترتكز عليها قضية الإرهاب المطروقة في الرواية هو عامل الفقر، حيث تُصوّرہ الرواية كحالة تؤسِّس لخيارات فكرية متطرفة ومواقف إرهابية حادة، ليس الفقر بمعناہ البسيط السائد فحسب، وإنما بصورہ الأخرى أيضًا وهي الأكثر أهمية: الفقر الثقافي والفقر الأخلاقي والفقر الاجتماعي والفقر السياسي.

    يبدأ ظهور هذا العامل من أوّل عتبات النصّ وهو العنوان، حيث كان مجرد «خبز وشاي» والذي فيہ دلالة واضحة على هذا الفقر، كما يتمّمُ العنوانُ نتيجةَ هذا الفقر: «سيرة أبو وئام الكركي» والذي فيہ إشارة جَلِيَّة إلى الأسماء والألقاب والكُنى التي تنتشر على أرض الواقع لتدل على انتماءات معروفة لعصابات إرهابية وكيانات مشبوهة.

    فيما يباشر السارد طرح معاني الفقر وصورہ المتعددة في حوار شيّق بين “جمال” وأستاذ التاريخ، حين يقول الأول للثاني: “لقد أصبح المشهد أقل من الخبز والشاي، فقر مدقع في كل شيء، ألا ترى أن حالنا كلہ أصبح في شح؟ فقر في السياسة، فقر في الوعي، فقر في الثقافة، فقر في الإبداع، فقر في الإنجاز، مشهد فقير لا يرقى لوجبة خبز وشاي. ونحن نعرف مَن أراد لنا هذا ولا نتحدّث، ويبدو حديثنا عن هذا المشهد أيضًا خبز وشاي”.

    فمن مظاهر الفقر الثقافي التي سلطت الرواية عليها الضوء، بل والانفصام النفسي والعقلي: تسؤلات أحمد الشاب المراهق، حين فعلَ فعلتہ المخزية، وقال وهو عائد ليضع الحطب على النار:

    “لماذا لا أذهب وأغتسل على بئر أبو طبقات؟

    أمي تقول الاغتسال في الليل يجعل الجن يلبسك.

    أعوذ باللہ من الشيطان الرجيم سأقرأ المعوذات حتى لا أصاب بالمس.

    آہ، حرام أن أقرأ القرآن وأنا جنُب.

    لعن اللہ هذہ الليلة.

    لا تسب الدهر فإنہ أنا، هكذا يقولون”.

    وفي مظهر آخر تتجلّى فيہ حقيقة الواقع الثقافي الضئيل، نجد أستاذ التاريخ وهو المثقف الفاسد يقول بعد أن كان يقرأ في كتابٍ يتحدّث عن (الوهْم) الذي يبيعہ المثقف العربي:

    “…وهْم النخبة، وهْم الحداثة، وهْم الحرية، وهْم الهوية، وهْم المطابقة.

    وضعَ الدفتر جانبًا ثم هرش رأسہ وهو يحدق في سقف الغرفة مرة أخرى يهمس بوضوح:

    المعادلة شفافة جدًا. إذَن أين نحن من تطبيقها؟

     تساءل وهو يغلق الكتاب ويرشف من فنجان القهوة البارد، استطرد مخاطبًا ذاته:

    ما الذي فتح الموضوع وما علاقتي بهذہ القصة؟! إذا أرادوا أن يعتبروني مثقفًا فهذہ مشكلتهم، على كل الأحوال احفظ لك جملتين ستحتاجها غدًا إذا اضطررت للحديث أمام جمع من المثقفين. اههہ مثقفين! واللہ لم أتعرّف حتى الآن إلى مثقف حقيقي. كلهم انتهازيون…”.

    كما يظهر الفقر الثقافي بوضوحٍ أكثر في موقف أحمد وخالد اللذَين تركا مقاعد الدراسة.

    أما الفقر الأخلاقي فحدِّث عنہ ولا حرج، فإنّ الرواية تعكس صورة الواقع المُثقل بالانحطاط السلوكي من كل جوانبہ وزواياہ. ومثلہ الفقر الاجتماعي، ابتداءً من العلاقات في الأسرة الواحدة مرورًا بالأقارب ثم بالآخرين… وانتهاءً برجال الدين وأساتذة الثقافة! وكما قال أحمد لأمّه: “ألا ترغبين بأن نضيف شيئًا ما مختلفًا على مائدتنا، مائدتنا الفقيرة بالحب، الفقيرة بالأخلاق، الفقيرة بالسياسة، الفقيرة بالرجال؛ ألا ترين أن رجالنا خبز وشاي يا أم أحمد؟”.

    وأما الفقر السياسي، فيتمظهر في الرواية في عدة صور، في صورة التهكم بالربيع العربي، وفي صورة التظاهرات القائمة كل يوم جمعة والتي يخطب فيها أرباب الفساد والاستغلال بكلامهم المعسول، وفي صورة الصورة التي استوقفت خالد أمام ملك البلاد، وفي صورة الأوامر وإلغاء العقول.

    يتخذ السّرد في هذہ الرواية عدّة أشكال، فهو تارة يصل إلينا من خلال الرّاوي، حيث يُبدي لنا وجهة نظرہ دون تأويل، وهو بذلك يدعو القارئ إلى إكمال السرد بالطريقة التي تتناسب ووتماشى مع كيفية فهمہ للنص. وتارة أخرى من خلال شخصيات فاعلة، وذلك عَبْر حواراتها الكثيرة التي استأثرت بحيّز كبير من الرواية، والتّي تُعنى بالحدث نفسہ وبوجهات نظرٍ متقاربة، لكن في ظروف وأوضاع متباينة.

    ومن جهة أخرى نلحظ تعدد الأصوات الساردة في الرواية، ذلك أن الرواية -أية رواية- هي جنس أدبي واسع ذو مقدرة على امتصاص عدة أجناس أدبية، فتزيد السرد ثراءً لغةً ومعنًى وأسلوبًا، مع بقاء شخصية الكاتب حاضرة ومتفاعلة مع ما تحكيہ، وبهذا تصبح روايتہ متميّزة بالتجربة الخاصة التي تفصلہ عن غيرہ. كما أنّ كلّ كاتب ذكي يبحث عن مَواضِع يستطيع من خلالها وضع لمسات تجديدية، وهذہ الرواية يبدو هاجس التجديد فيها بَيِّنًا، من حيث التحرر من ركود النص التقليدي والسرد التراتبي واللغة المختلفة.

    ولقد قامت الرواية على البحث المستمر عن القيم الإنسانية النبيلة التي بدت مفقودة على أرض الواقع، وهذا عامِل أكبر وأشمل من عامِل الفقْر الخاص المباشر، فهذا البحث عن  القِيَم يتطلّع إلى تحقيق المغايرة من خلال أسئلة صادمة، وفي كل سؤال منها وقفة طويلة مع الذات ومع المجتمع، وهي أسئلة ساهمت في تَمْتِين الأبنية والأنساق في هذہ الرواية لغةً وخطابًا.

    تلك هي أبرز عوامل الإرهاب التي تعالجها الرواية، والتي تؤدي إلى هوّة التطرف والإرهاب، وتزجّ بالعديد من الشباب في متاهات التنظيمات المشبوهة، وهي التي أنشأت مَعاوِل الهدم للمجتمع والوطن والسياسة والثقافة، فكان أبرز مَعاوِلها: المعلّم الفاسد، والمثقّف الانتهازي، والشيخ المنافق، والسياسي اللص، والعم المتسلّط، والأب الذي لا يحل ولا يربط.