“وكالة الأنباء العمانية”
تقدم د.فايزة بنت محمد بن حمدان الغيلانية عبر كتابها “البحر في الشعر العماني المعاصر”، دراسة وافية لمفهوم البحر ودلالاته في الشعر العماني. وتوضح الغيلانية في كتابها الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع “الآن ناشرون وموزعون”، أهمية البحر للإنسان العُماني، فهو مورد للرزق، وجزء لا يتجزأ من الواقع الطبيعي الذي يعيش فيه العُمانيون، ومكون أصيل لملامح الشخصية العمانية على مر العصور. ويعدّ البحر، بحسب الباحثة، من الأفضية الخصبة التي تم استثمارها في الأدب، فقد تشكّل في خيال المبدع برموز عديدة ودلالات كونية جعلته صورة للحياة والموت في آن واحد، مما جعل له جاذبية خاصة في الإبداع. وتوضح الغيلانية في هذا السياق أن الطبيعة المتنوعة في عُمان تمثل رافدًا حقيقيًّا للنص الشعري، مشيرة إلى تفاوت صلة الشاعر العماني بالبحر، تبعًا لنفسيته، وطبيعة حياته، وتجربته الإنسانية. وتؤكد أن عالم البحر بمظهره ومخبره، وبأسراره وغموضه وإيحاءاته، مكَّن الشاعر العماني من بناء العلاقات الشعرية الواقعية والرمزية، كما نجد في مجموعة من القصائد التي اعتمدت على البحر محورًا أساسيًّا أو فرعيًّا. وتركز الغيلانية على استجلاء صورة البحر من خلال دراسة الدواوين التي صدرت بين عامي 1970 و2000؛ للتعرف على كيفية توظيف الشعراء العمانيين المعاصرين للبحر، ودلالة ذلك في التجارب الشعرية المختلفة. وتعد المدة الزمنية التي حددتها الباحثة جزءًا من المرحلة المعاصرة في تاريخ الشعر العماني التي تبدأ مع بداية النهضة في عام 1970، وتشمل حقبتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، اللتين شهدتا الكثير من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في سلطنة عمان، وتميزتا بوفرة النتاج الشعري المتأثر بهذه التغيرات وتنوعه، ومجاراته -في الوقت نفسه- لحركات التجديد في العالم العربي. ويتطرق الكتاب للقصائد المرتبطة بالبيئة البحرية، بأنواعها الثلاثة (العمودية، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر) من دون التمييز بينها، فكثير من الشعراء الذين تناولتهم الدراسة يجمعون بين أكثر من نسق في إنتاجهم الشعري. وجاء الكتاب في أربعة فصول، تناولت الباحثة في الفصل الأول “التوظيف الواقعي للبحر في الشعر العُماني المعاصر”، مبرزة خصوصية التجربة الشعرية العمانية المعاصرة التي وَجدت في تفاصيل بيئتها وصفحات تاريخها معينًا على إبراز أفكارها وتقديمها في صورة أصيلة ترتبط بالمكان والواقع المعيش؛ لكي تتمكن من أن تفرد لها مساحة من الظهور وإمكانية التحقق.
وتقول الباحثة إنه مثلما كان العُماني قديما ينوء بحمل قسوة العيش، وتعرضه للموت في سبيل تأمين قوت يومه، مجابِهًا البحر بكل ما يمثله من مخاطر وأهوال؛ فإن العماني في العصر الحديث بالرغم من تغير الظروف، وتدفق النفط، وتغير نمط الحياة وسهولته، أصبح يجابه تحديات من نوع آخر، تتعلق بحقوقه وأمانيه، والتفاته إلى تصحيح أوضاع مجتمعه، ومعالجة قضاياه المختلفة، وبرزت معاناته في الصراع الذي يعيشه لإثبات ذاته وتحقيقها في ظل ما يعيشه العالم العربي من تحديات، فكان البحر ميدان الصراع وساحته ونموذجه الأمثل للتعبير عن هذا. ويتحدث الفصل الثاني من الكتاب عن “التوظيف الرمزي للبحر في الشعر العماني المعاصر”، وتوضح الغيلانية فيه أن البحر يرتبط في الذاكرة العمانية بالأمجاد والبطولات التي استطاع العماني تحقيقها، حتى وصل إلى شرق إفريقيا مؤسسًا إمبراطورية كبيرة، فكان البحر ميدانه الذي أبدع فوقه وتميز بمهارته في ارتياده لمعرفته العميقة بعلومه ومعارفه، واستطاع أن يتحدى به قسوة الظروف وشظف العيش وقلة الإمكانات، فأثرى من ورائه، وقارع أعتى الخصوم وأكثرهم قوة.
وتبين الباحثة أن الشاعر العماني المعاصر في استناده إلى هذا الماضي البحري العريق يتكشف له أن البحر قد ارتبط مع هذه الأرض -في أغلب الأحيان- بالخير والإنجازات، مما يدفعه إلى التفاؤل به. وهو بالرغم من كل ما اكتشف عنه، فإنه لا يزال يحتفظ بالكثير من الأسرار التي يأمل أنها تخبئ مفاجآت سارة قادرة على أن تفتح له آفاقًا جديدة تفيده. أما الفصل الثالث الذي حمل عنوان “توظيف ألفاظ البيئة البحرية في الشعر العماني المعاصر”، فتشير فيه الباحثة إلى أن المكان الجغرافي يكتسب داخل النص أبعادًا نفسية واجتماعية وتاريخية يمكن أن نسترجعها عند قراءتنا لذلك النص، فيما أظهر توظيف المدينة الساحلية في القصيدة العمانية المعاصرة ما تمتاز به هذه القصيدة من صدق التجربة، وغنى اللغة وخصوصيتها، وأصالة الطرح في التعبير عن الواقع العُماني الذي حاصرته المدنية الحديثة بكل ما تحمله من مظاهر عمرانية واجتماعية يقبلها حينًا، ويرفضها حينًا آخر، فيولّي وجهه شطر المعالم التي ما تزال بكرًا، يتنسم عبق الماضي، وبساطة العيش، وهدوء وتيرة الحياة فيها.
وفي الفصل الرابع تدرس الغيلانية “الخصائص الفنيّة للقصائد العمانية المعاصرة المرتبطة بالبيئة البحرية”، مؤكدة أن الموروث البحري الزاخر للذاكرة العمانية، والمشاهد التسجيلية للتاريخ والمظاهر والأحداث والشخصيات التي ترتبط بالبحر، أصبح جميعه مجالًا لتركيب الصور التي تعبّر عن الحاضر، وتطرح هموم الذات والجماعة، وتقرّب إلى الأذهان التجارب الشعرية المختلفة في صور تنطوي على دقة عالية وتركيز شديد في صياغتها وبنائها.