البعد الإنساني في رواية «غْرِيبَا» للتونسية حياة حسين البوسالمي

البعد الإنساني في رواية «غْرِيبَا» للتونسية حياة حسين البوسالمي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    وليد خالدي

    إن الاشتغال على اللغة جعل الروائية تحفر عميقا في أنساق المعاني، من خلال رسم خط لشخصياتها عبر مسار الحكي، محركة عجلة الأحداث في مشهدية دراماتيكية بطلتها «غريبا» هذه الأخيرة حينما تحاول الانخراط والاندماج ضمن صراع يدخلها في معترك الحياة، وبالتالي، تصبح لهذه الحركة قيمة ومعنى، وهي تستنطق الأشياء، ما يجعل الذات تتجاوز معوقات الهامش في صرح الواقع المعيش، وهنا الروائية تجسد «أحد تجليات صورة المثقف يثبت أنه ملتحم مع الواقع، وجزء أصيل منه، ويذهب بعالمه الروائي إلى كل هوامش المجتمع المختلفة المسكوت عنها، ليكشف عنها الضيم والتهميش» بتعبير صالح هويدا.

    1 ـ بانورامية الانتماء/ انصهار أفق الأنا في الآخر:

    مهما كانت طبيعة الدعاية وأساليب القمع والاضطهاد والقهر، لابد في يوم من الأيام أن تعود الكينونة لفطرتها السليمة وبوصلتها الصحيحة، متخطية الانهيار الذي يواجهه المجتمع، عن طريق الانقسامات والتجاذبات الأيديولوجية والخطابات الإقصائية الاستئصالية الراديكالية، وهذا ما يؤكد أهمية وجودها وفاعلية لها سماتها المميزة التي ترتبط ارتباطا وثيقا مع العالم، حيث ترتكز على إمكانية أنطولوجية تساعد على دخول مرحلة تاريخية مغايرة، وحتى تستقيم الأمور وتضعها الروائية في نصابها الصحيح، تمثل أمامنا بطلة الرواية «غْرِيْبَا» رمزا للتضحية والنضال والعناد، المحمل بأثقال وأعباء الماضي المتعلق بالنظام القيمي – التراتبي، فمن خلال الحوار الذي دار بين جيفارا وحنظلة وشهرزاد، أشارت الأخيرة إلى أن «غريبا» شخصية قادرة على أن تقدم خدمات جليلة لما أنتم ماضون فيه، ندرك أهمية هذه الخصيصة، في إطار الموضوع المتعلق بالوطن، إذ عززت شهرزاد شهادتها بقولها «هي المرأة الوحيدة التي أتقنت قول )لا( للكلّ، وقادت ثورات وأعمت حكّاما وتجهّزت لكلّ المسيرات».

    كما يدلل هذا النص على الإصرار والاستمرارية، والرغبة والإرادة، مهما ألمت الخطوب، انطلاقا من اجتثاث الذات من الانزلاق في مستنقعات الخراب والضياع، إذ تتجلى ملامحها الجوهرية، من خلال سحق تلك الهوة التي تشي بالنظرة الدونية التي تحكمها قوانين السلب، عبر ممارسة معلنة تعد هي الأكثر صلابة في توجهاتها ومعتقداتها، حيث تتمتع بوجود حقيقي له هوياته وأنواته، هذا الاندفاع الحامل لقيم التغيير، بما فيها قضية حرية التعبير، والوحدة التي تحاول قدر المستطاع القضاء على كل مظاهر وعوامل الانقسام، يطالعنا في السرد الآتي «صدقت يا شهرزاد، كم أنا سعيد بغريبا، إنها فتاة غير عاديّة تلبس العناد والتّحدي، وكأنّها رجل في ثوب أنثى، لا يعرف اليأس طريقا إليها، كأنّ الأرض العربيّة كلّها أرضها، نعم، حوار بيني وبينها «كلّ أرض هي أرضي ما دامت تنطق لغتي».

    إلا أن هذا الأمر كما هو واضح من النص، يمتد في حدود الزمان والمكان، فلا يبقى حبيس رقعة جغرافية انتمائية متمسكة بعناصر بيئية معينة، وجدانيّا وفكريّا ومعنويّا، بل يجنح إلى الاحتفاء بالقواسم المشتركة، اللغة والتاريخ والذاكرة والعروبة، فالمحركات الباطنية فيها من الوقود ما يكفي لنقل الوقائع والأحداث والمآسي والأحزان نقلا حيّا يشع دينامية، فالوطن يعد العامل الأساسي والمحرك الأول، الذي انبنت لبناته في خطوات جريئة تعشق عبق الحرية والاستقلال، وتحت هذه الذريعة تحديدا، تقول الساردة على لسان البطلة غْرِيبَا «ليس لانتمائي حدود، نعم أنا من بلد لا يستكين أبدا، ولا يقبل الخنوع ولا الانحناء، أجل أنا ابنة الشّابي، لكنّي أيضا حبيبة السّيّاب وعاشقة درويش ومتيّمة بروست. كل الأماكن هي لي ما دامت تحمل دمي».

    نفهم من النص، أن الإحساس عندما يبلغ مداه ليلامس مساحات الغير، فهو إحساس إنساني من الدرجة الأولى قلبا وقالبا، فيرجى منه تحقيق المكاسب المشتركة، التي تحاول من خلاله البطلة «غريبا» نفخه في النفوس للمحافظة على الأوطان من أجل اتخاذ كل أسباب النهوض والنمو والتطور، الذي يشمل كافة الأصعدة، وهي النافذة التي نطل منها عبر المحكي الذاتي، الذي يروم تقديم نفسه للآخر المؤتلف/ المختلف، فتصاعد الإحساس في هذا السياق، يكشف أسباب عجز البراديغم المتداول عن استيعاب الأمور، بما انطوى عليه من وقائع وأحداث جارية وتجارب عويصة ومعايشات أنطولوجية متردية، وهذا هو الرهان الحقيقي الذي رصدت الروائية من خلال بطلتها «غريبا» واقعا إنسانيا في أدق تفاصيله، وكان لهذا الوضع المتأزم وقع خاص في تجاوز محن النسخ البراغماتية الهزيلة والهجينة، المفلسة أخلاقيا وإتيقيا، لذا، فالمسار النضالي في صورته السلمية عبر مساراته السردية، الذي اضطلعت به الشخصيات، يصاحبه إعادة بناء إشكالية الأنا والآخر، في ضوء رؤية جديدة للكون، إذ يمكن للمرء أن يتخطى بها حواجز الصور النمطية التي يعتريها النقص والزلل، المتمثلة في الرموز والنماذج والمعايير، والقوالب التي تتراوح بين السلب أو الإيجاب المغلوط، أو الحالة والموقف الزئبقي في أنماط تفكيره وخطواته الراهنة، والإقبال على عهد الانفتاح والتواصل المتمأسس بشكل واع على التجربة والإبداع الحر، وهذا ما يحيلنا إلى منطق «النقد الوجودي، بما هو محاولة لفهم ما نحن عليه، أي لما نطمسه ونحجبه، أو لما نجهله ونتناساه، أو لما نتورط فيه ونتواطأ ضده، أو لما نولده من المفارقات والتناقضات، أو لما نرتكبه من الفضائح، أو نحصده من الكوارث. لهذا فقدر الإنسان أن يواجه دوما نفسه، لمحاربة الطاغية أو المفسد، أو المخرب أو العنصري، أو البربري، على سبيل التمرس بالنقد، لكسر التأله والتحكم والهيمنة والإلغاء أو الاستئصال».

    من قال إن الحب بعين رجل وامرأة يجب أن ينتهي على سرير؟ عادت غريبا إلى غرفتها وعدت أنا إلى غرفتي، ولم تنبس ولو بكلمة طول الطّريق.

    فتكرار المشاهد عبر مسار الحكي، يوحي بطريقة غير مباشرة بترسيخ نسق الانتماء المتجاوز، إذ يقلل من شأن الظواهر السلبية من خلال تعزيز مبدأ الالتزام المناهض لكافة أشكال العجز والذل والهوان، ما يعكس انحدارا وانبطاحا على مستوى الوعي، فرغبة «غريبا» المتطلعة والطموحة، المتمسكة بالفكرة من أساسها، جعلت من المشاعر الداخلية للشخصيات تتحرك في أفق عمودي، وأهم ما في هذه العودة، أنها غيرت من قناعات في صورة نابضة بالحياة، إلى درجة فاحت رسائلها عبر مسامات جلد «غريبا» اشتم فيها راجي أن محبة الأوطان تولد مع الإنسان، ومظاهره تنعكس تجلياتها في المواقف والأفعال والتفكير، وفي العديد من السلوكيات التي تعكس ذاك الشعور والإحساس المرهف في روابطه الجماعية المشتركة، ويبرز هذا بجلاء، في تحقيق قيمة الوحدة بين الشعوب من منطلق التعايش، الحامل لهموم ومعاناة الآخر، يحافظ الإنسان من جرائها على أمنها يضمن لها ذرى الرخاء والسعادة «لم أحاول استغلال ضعف غريبا.

    من قال إن الحب بعين رجل وامرأة يجب أن ينتهي على سرير؟ عادت غريبا إلى غرفتها وعدت أنا إلى غرفتي، ولم تنبس ولو بكلمة طول الطّريق. جلست وحيدا قبل أن أصل إلى غرفتي وجعلت أشمّ رائحة عطرها على صدري، لم يكن عطرا عاديا. شممت فيه رائحة كلّ الأوطان، من غزة إلى القدس إلى العراق ولبنان، حملني إلى عواصم عربيّة تئنّ وأخرى تصرخ وبعضها يندب الزمان».
    والساردة بضمير المتكلم المتبنى على لسان الشخصية الرئيسية، تعتمل ضمن سياق يصور اختلال المجتمع وتناقضاته، وتقديم رؤية مغايرة تعري ما تخفيه الأجهزة الرسمية، التي ما فتئت تنهش كل أصناف البشر، ما أضفى مصداقية مغلوطة وشرعية مخادعة حول موضوع الحقيقة، يتجلى هذا في السرد الاستذكاري لشخصية «أسهام» كقناة ناقلة لساحة الحدث «شيء مؤلم كان يحدث في صدري حين أسمعها تقول »أنتم ضحايا الكراسي المزركشة، والعطور المعتقة، والجواري المبجلة، لكي نجعل لنا بصمة في التّاريخ علينا محاسبة الذات والاعتراف بأنّ الذي نحن فيه هو من صنعنا، نحن زرعنا بالأمس واليوم آن أوان الحصاد، كفانا رثاء ورمي المسؤولية على الآخر، هو لم يرغمك يا حنظلة على البيع «نهضت مرتعدا بعد سماع ابنتي وهي تعرّي الحقيقة».

    فالسياق الحالي النابع من المقطع السردي، يشير إلى صعود قوى ديكتاتورية خفية تعمل بشكل أساسي على ارتداء الأقنعة المتنوعة، في ضمان استمراريتها وبقائها على سدة الحكم والسلطة، متمثلة في الاستعانة بالوسائل والأدوات الناعمة، ومما لا شك فيه، أن هذا الاستلاب يظهر بوضوح على مستوى التصوير، وبشكل خاص، يبقى هذا المسلك المتحكم في زمام الأمور ذا أهمية كبيرة على مستوى التعاطي، ولعل هذا الموقف تطبعه في الوقت الحاضر سرقة كل إمكانات الحياة من الإنسان، ملبيا الطرف الآخر نداءات الذات المتغولة، من خلال ممارسات تتخذ لها مكانا مناسبا من حياة الأفراد والمجتمعات، توقعهم في شراك العبودية بطريقة لاشعورية، بحيث تتعطل معه آليات الرقابة العقلية، فتظهر العالم في كامل الشفافية والنزاهة، وهي في حقيقة الأمر تشكل ظلما صارخا من خلال انتهاك لخصوصية الإنسان، تقول الراوية على لسان غْرِيبَا «لقد أكلت الثورة روَّادها وانتعش السُّرَّاق من هذه الانتفاضة، عندنا مثلٌ ينطبق على ما هي عليه بلادي (النَّدَّابة تندب والخنَّابة تخنب) البؤساء يثورون والجبناء يعتلون الكراسي ويأكلون أموالهم».