“الجولة الأولى من مؤتمر الرياح”.. رواية التجريب وتعدد مستويات السرد

“الجولة الأولى من مؤتمر الرياح”.. رواية التجريب وتعدد مستويات السرد


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    يستهل الروائي المغربي محمود عبد الغني روايته “الجولة الأولى من مؤتمر الرياح” بمقطع للشاعر “جاكيم كاردوزو” يقول فيه: “رياح العالم كلها ستجتـمع في مؤتمر”، ومن هذا المقطع يستمد الروائي عنوان روايته، مستندًا في حبكتها على قصة بائع سمك من مدينة الحسيمة سُلبت منه بضعة كيلوات من السمك، وحين احتج على ذلك وأراد استرجاعها، مات بطريقة بشعة داخل مطحنة النفايات.
    يبدأ السرد في الرواية بضمير المتكلم وهو يتحدث عن مفهومه لواقعة الموت، وكيف تم تفسير هذه المحطة الانتقالية عبر الأساطير والشعر والسرد منذ بداية خلق البشرية، ليقدم الراوي المتكلم وجهة نظره في هذا الأمر فيؤكد: “إنّ حسن الذي مات بتلك الطريقة البشعة هو في مقدمتهم إلى ذلك الفضاء البهي. يعتقد الناس أنه بقي معهم، إلى جنبهم، في كل مكان كان فيه من قبل، لكنه لا يُرى، ولا يغيّر ملابسه، ولا يتكلّم، ولا تُحدث السنين أي تغيير في جسده”.
    وينتقل السرد الذي يكشف عن التجريب والتجديد اللذين عُرف بهما الروائي، إلى الحالة الداخلية للراوي التي وضعت القارئ في مواجهةٍ مع خوف دفين يتعلق بما يحمله المستقبل من أحداث، حيث يقبع الراوي في بيته لكنه يشعر أن هذا البيت هو مجرد كهف، وحين يتعالى نباح قطيع من الكلاب يزداد السرد ترقبًا ووحشة: “ساد الظلام وانتشرت الأصوات حتى شعرت كأنني داخل كهف وليس في بيتي الذي أقطنه منذ سنتين”، وفي مقطع آخر: “أشعر في أحيان أخرى كأني داخل مقهى مظلم. كأني أوجد في أقصى زاوية منه. كلما أطلت البقاء في هذه الزاوية الملعونة يقترب عقلي من الجنون. ظننتُ أن ليس لديّ ما يشغل بالي. فكنت أردّ في أرجاء نفسي، كأني أردّ على ظنّها الظالم، أنني مشغول البال ببيتي الذي أصبح يخيفني، وبالناس الذين أصبحوا يضحكون لأتفه الأسباب، وبوالدتي التي أصبحت لا تنام”.
    ثم ينتقل السرد بخفة ليروي قصة صديق الراوي الذي وُجد ميتًا بموت بأحد فنادق روما، ويعرج على قصة صديق طفولته، الذي يستعيد معه خيوط الماضي ثم يتناولان السمك في أحد المطاعم، والمهندس الذي كان قد جاء إلى “الحُسَيْمَة” في مهمة تنقيب أثري، والصحفي المخضرم الذي جاء لإجراء مقابلة تلفزيونية مع منقب الآثار.. ليكتشف القارئ في النهاية أن كل تلك الأحداث ما هي إلا مقدمة للرواية التي ستتناول قصة بائع السمك.
    ويتحول السرد هنا إلى ضمير الراوي الذي ينقل الأحداث من زاويته ومن وجهة نظرة ويبدو عارفًا بما يدور حوله، ويلجأ الكاتب إلى هذا الخيار لنقل ما يشبه العواصف التي تتعلق بمن مهدّوا لهبوبها. ويفتتح السرد في هذا الجزء مستلهمًا أجواء الحكاية الشعبية، حيث ولادة الطفل (البطل) والخلاف الذي نشب بين والدَيه بشأن تسميته، ثم كيف شبّ عن الطوق، وكيف نقل خبر وفاته إلى أهله، وكيف استقبلت الجماهير هذا الخبر المفزع الذي ستتناقله وسائل الإعلام حول العالم.
    ويطّلع القارئ على الريح التي تهب من طرف الفيلسوف الفرنسي المهووس بالحرب “برنار هنري ليفي” الذي تكشف الرواية أنه يقيم في طنجة بعد أن كان في العراق ثم انتقل الى مصر فتونس ثم ليبيا.. ثم الريح التي تأتي من جهة المصور الإيطالي “فابيو”.. وهكذا تتجمع الرياح من كل الجهات لتأذن بتشكل العاصفة التي يراقبها السارد مراقبة حثيثة، ويتوجس مما قد يزيد من قوتها: “طيور الحُسَيْمَة تحلّق منخفضة، وأهلها يأكلون سمكها دون أن يتساءلوا عن أثمانه الباهظة. عدد المجانين فيها لم يُشغل أحدٌ نفسه بإحصائهم. القول إن عددهم يفوق الألف، إحدى الإجابات الممكنة”.
    ويختم محمود عبد الغني روايته بالرجوع إلى الراوي المتكلم الذي بدأ بضميره في السرد، وهنا يُلحَظ ما يشبه التطابق بين الراوي والكاتب، معنونًا هذا الجزء بـ”أنا الراوي كيف بدأت؟” وليس “أنا الكاتب”، وهنا يتجلى تعدد مستويات السرد التي اعتمدها عبد الغني لنقل الحكاية. نقرأ مثلًا: “إن من ينصت إلى هذه الكلمات، سيسمع دبيبًا فريدًا، وهسهسة ساحرة مشوّقة. ولن يبقى أمامه سوى خيار واحد هو عدم تجاهل قوّة الجوار الذي يشكّل تخومًا غير مرئية بين الحياة والموت. وذلك ما سيجعل نوعًا من العبء الكئيب والقلق يستقرّ داخل نفسه. ومع هذا سيتطلّع إلى معرفة أمر مهمّ يخص تلك الفكرة التي سمع عنها وآمن بها كل الناس تقريبًا، هي الحياة بعد الموت”.
    ومن خلال هذا المستوى السردي ترك الكاتب خاتمة الرواية مفتوحة على مصراعيها: “كيف سيعيش حسن بعد ميتته الشنيعة؟ لقد تأكّد الأمر في الواقع. والناس يتطلّعون إلى الأيام القادمة، العاصفة حينًا، والهادئة حينًا آخر. وأنا من مسؤوليتي أن أجعل متلقي هذا السرد يشعر بطراوة كل شيء وليونته، وإلا فإنه سيهجر حكايتي التي سيشعر إزاءها كأنه يلمس عظامًا قديمة”.