الحرب بعيون الإنسان.. قراءة نقدية في رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي” لزينب السعود

الحرب بعيون الإنسان.. قراءة نقدية في رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي” لزينب السعود


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    د. نهال غرايبة

    رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي” للكاتبة الأردنية زينب السعود، الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” (2023) ، تعد عملًا أدبيًا هامًا يندرج ضمن الأدب الواقعي الذي يتناول قضايا الحروب وتأثيرها المدمر على حياة الأفراد والمجتمعات، كما أنها تمثل نموذجًا للراوية العربية المعاصرة التي تسعى إلى تفكيك مفهوم الحرب من خلال إعادة إنسنتها، وتجريدها من خطابها السياسي المجرد، نحو خطاب أكثر حميمية وذاتية.
    تقدم رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي” رؤية عميقة ومُحطمة للقلب و للحرب من منظور الضحايا أنفسهم، مُجسدةً فكرة “الحرب بعيون الإنسان”، لذلك اعتمدت الكاتبة في هذه الرواية على أسلوب سردي مميز يجمع بين الواقعية والتعبيرية، مما جعلها قادرة على تصوير بشاعة الحرب وتأثيرها النفسي والاجتماعي على شخصياتها، مستحضرة مشاهد الحرب الروسية الأوكرانية، لا بوصفها صراعًا جيوسياسيًا فحسب، بل بوصفها مأساة فردية وجماعية في آن معًا.
    منذ العنوان توحي الكاتبة إلى التناص مع رواية “الحرب والسلام” لتولستوي؛ لكنها في الوقت نفسه تضع تولستوي نفسه في موضع الاحتراق؛ كأن الحرب اليوم بعد أن تجاوزت حدود الفروسية والأسئلة الأخلاقية الكلاسيكية، لم تعد قابلة للتأويل الأخلاقي، بل باتت صدمة وجودية تتجاوز ما كتبه السابقون.
    تعتمد الرواية على بنية سردية أفقية متعددة المستويات، تنتقل بين صوت يوسف، الصحفي الميداني الذي يعمل في ماريوبل، وبين عالمه الشخصي المحاصر بالخوف على زوجته جمانة وأطفاله، مما يمنح النص بعدًا داخليًا متشابكُا مع الخارجي، يوسف ليس مجرد ناقل خبر، بل هو الذات الكاتبة التي تتشظى بين ما تراه وما لا تستطيع الإفصاح عنه.
    أما جمانة، فتمثل المرأة في زمن الحرب تلك التي تعيش قلق الانتظار، وانكسار الطمأنينة، ومحاولة الحفاظ على تماسك العائلة وسط عواصف الغياب، وهي ليست مجرد زوجة، بل تمثل بُعدًا نفسيًا وثقافيًا يضفي على الرواية ملمحًا من الأنثى الرائية أكثر من كونها مجرد متلقية له.
    والرواية، على الرغم من تناولها للحرب الروسية الأوكرانية كإطار خارجي، إلا أنها تتقاطع مع عناصر محلية تشير إلى الانتماء العربي، وتحديدًا الأردني. ومن اهمها:
    * الشخصيات المحورية: بطل الرواية “يوسف” هو مراسل صحفي أردني، وزوجته “جمانة” وأطفاله يعيشون في عمان. هذا يضع الرواية في سياق عربي مباشر، ويعرض تأثير الحرب العالمية على عائلة عربية.
    * المشاهد اليومية العربية: تتناول الرواية جانبًا من حياة أفراد الأسرة في الأردن ومعاناتهم بسبب ابتعاد الأب، مما يصور مشاهد يومية عربية وأثر التباعد على المشاعر الأسرية في هذا السياق.
    * الإشارة إلى الطلبة العرب: تتحدث الرواية عن شريحة من الطلبة العرب، وبالأخص من فلسطين، الذين يدرسون في أوكرانيا، وتصور معاناتهم والتمييز الذي تعرضوا له وصعوبات خروجهم من الحدود. هذا يعزز البعد العربي للرواية.
    * هوية الساردين: من خلال هذه الشخصيات والمواقف، لا تنكر الكاتبة هوية الساردين (أو الشخصيات الرئيسية التي تُروى من منظورها) وارتباطهم بهويتهم العربية، بل تثبتها ضمن سياق الحرب الكونية.
    إذًا الرواية تجمع بين الحدث الكوني (الحرب) والبعد الإنساني والعربي، مما يضفي عليها بعدًا ثقافيًا عميقًا يثبت الحرب في سياقها الكوني مع الحفاظ على هوية الساردين وجذورهم العربية.
    أما لغة الرواية فإنها تتأرجح بين البساطة المحكية حينًا، والتكثيف الرمزي حينًا آخر، فالكاتبة لا تفرد في الإنشاء؛ لكنها لا تقع في التقريرية كذلك، المشهدية التي ترسمها دقيقةـ وفيها حس تشكيلي واضح. والشخصيات ليست سطحية؛ بل تميزت بالعمق والتعقيد، وكل منها يحمل في داخله حربًا صغيرة موازية لتلك التي تدور في الخارج.
    لا يمكن إغفال الطابع الإنساني الذي تحرص الرواية على ترسيخه، فبدلًا من الانخراط في خطاب الكراهية أو الاصطفاف السياسي، نجد الرواية تنتصر للإنسان، أكان أوكرانيًا أم عربيًا أم صحفيًا مغتربًا، هذا الحياد الإنساني هو ما يمنح الرواية قوتها الجمالية والأخلاقية، وتحافظ الرواية على التوازن الجيد بين التصوير العاطفي والتحليل الرمزي.
    وبالتالي فالحرب بعيون الإنسان هي رفضٌ لتمجيدها أو إضفاء البطولة على أطرافها؛ فلا وجود هنا لأبطال ولا لأعداء مطلقين، بل مجرد بشرٌ يحاولون النجاة وسط الدمار، كما أنها تفضح عبثية الحرب بكل وضوح، وتكشف عبث دمارٍ لا يفرّق بين الأطفال والكتب، بين الحياة والمعرفة، وفي قلب هذا الدّمار، تظلُّ هذه النظرةُ إصرارًا على الحياة، مقاومةً للموتِ بالحبِّ الذي ينتصرُ، وبالذاكرةِ التي تحفرُ أسماء الضحايا في عمق الوجود، وبالكلمةِ الخالدةِ ككلمةِ تولستوي التي رغم محاولات إحراقها، تظل مشتعلة في الوجدان والوعي.
    رواية زينب السعود تُعيد للحرب وجهها الحقيقي: ليست معارك بطولية، بل تشظي الإنسان: جسدًا، وذاكرةً، وقلبًا. وبهذا تكون قد كتبت رواية ليست عن الحرب فحسب، بل عن هشاشة الكائن الإنساني حين يقف أعزلًا أمام نيران لم يشعلها، لكنه يكتوي بها بكل ما تبقى له من حبر وصوت. وهي تعد عملًا أدبيًا هامًا يستحق الدراسة والتحليل، وإضافة نوعية إلى أدب الحرب العربي؛ لأنها لا تكتفي بتوثيق الألم، بل تعيد تشكيله في نص يحمل في طياته شجاعة السؤال عن جدوى الكتابة في عالم يحترق.

    (د. نهال غرايبة، صحيفة الدستور، 18/7/2025)