“الرأي”
عبد الغني صدوق
“فاطمة.. حكاية البارود والسنابل”.. إذا تخطّينا اسم العلَم الأوّل وهو اسم شاقّ التخطّي، فلعلّ الأثر مُقتبس من بيت النُبوّة، وتخطّينا لفظ حكاية، فإنّ ما بعدهما مُفارقة تركيبية لعنوانٍ فرعيٍّ يثير السؤال: ما العلاقة بين البارود والسنابل في رواية كتبها المبدع الأردنيّ محمد عبد الكريم الزيود؟
فإذا كان البارود يُذكّرنا بالزهو حيناً وبالقتل حيناً، فإنّ السنابلَ خُضرة وعيشة وحياة، لا مناص من إطلاق البصر في المتن إذً. “فاطمة” من الحجم المتوسّط، صادرة عن الآن ناشرون وموزّعون عام 2021 في طبعتها الأولى، وما إن نقلِب صفحتي الإهداء والتنويه حتّى نجد أنفسنا في الغويرية؛ حيٌّ عريق في مدينة الزرقاء، جميلٌ التفكير في الأفضية الروائية من البداية، فالكاتب يحاولُ ضيافة قارئه بأقصى سُرعة ليُدخله إلى عوالمه التصويرية، ليسمع ويرى وهو في مأوى وأمان، لكنّ منهج التهميش الذي أصبحَ موضة الكتابة الروائية المُعاصرة، باتَ يُشتّت القراء المشوّشين -أمثالنا- ما بين تتبّع السُطور العلوية، ثمّ النظر إلى الأسفل بحثاً عن تفسير المُبهمات من الكلمات!
والجميلُ أيضاً أن الزيود غامرَ عندما كتبَ عن الأنثى، وتلبّسها بطَلة، قلّما نجد كتّابا قادرين على فعل هذا.. سلّم لفاطمة دور الراوي وابتعد عن السّرد، حتّى لكأننا نجزم أنّ النصّ مكتوب بقلم أنثى لولا وجود اسمه على الغلاف.
اليُتم، ومنه الحِكمة والمُروءة والقيّادة، والمَقدرة على تقلّبات الزمان، كيف لا وهو الفجوة الكبرى بين الفرع والأصل، المِحن التي تصنع من الإنسان إنساناً، الفراغ المُهذّب للنفس البشرية، إذ تشعرُ بالأشياء حولها متحرّكة وجامدة، سعيدة وحزينة، فتتعاطف مع الشّجر والحجر، فما بالك بيُتم الأنثى منجم العاطفة: “عندما يموت الأبُ ينهار جبل جليد بسبب الحُزن وينطفئ سراج الفرح في البيت.. ما أوجع أن يُحكى لكَ أنّ أمّكَ ولدتْك وماتتْ حالاً، إنّ الرحمة والأخف من ذلك إيلاماً شهادتك على الموت بعينك”. فاطمة قصّة المرأة التي تنشأ وحيدة، فتجد الأخ السند، متحمّلاً مرارة اللّقمة مهما كان العمَل، حاميّاً للعِرض خائفاً ومُخوّفاً.
يسكن الفرح في ذهنها عندما تُزف العَروس لأخيها حمدان، رغم التّعب من جمْع الحَطب، وغسل وفرك الصوف ونيران اللّهب، هذه المرأة الأردنية الأصيلة المكافحة باليد والقلب، كما نعرفها على شاشة التلفاز، نراها على شاشة الرواية، صوت الجبل ومبعث الأمل، ومنبت الحِشمة والحنيّة: “وحْدها كانت عمّتي صبحا تتبسّم بحياء وخجل ظاهرين”.
عمّان إحدى أراضي الشام الطاهرة، هنالك يتبضّع أهل القُرى، ثمّ يعودون -بالسيّارات- سالكين الطريق الوَعر ليصنعوا البشاشة، وكأنّ الراوي شعرَ بحبسِ متلقيه في أمكنة الأحداث، حيثُ التلال والحيوان وصفاء الماء والسماء، فأرسله إلى حيث العُمران وكثافة النّاس؛ ضوضاء المدينة وضجّتها، لعلّه يوقظه من غفوة قرائية تسبّبتْ فيها السُرود، الكلّ ينتظر لحظة العودة حينما يسافرُ الرجال، “فرحَ قلبي أنْ خصّني بشيءِ ممّا اشتراه، لكن أكثر ما أفرحني أنّه ضمّني إلى حُضنه، وكأنّه خبّأ الشوق لي عندما غادر الجميع بيتنا”.
هدوءٌ تام لاحظناه ونحنُ نمسح أسطر فاطمة، بساطة اللغة، جزالة الألفاظ، خِفّة الإيقاع، هذا التناسق الأخّاذ بالألباب هو سِرُّ الوصول إلى الانتشار، في زمنٍ أكثر قرائه إلكترونيون، هبْ أن التعقيد يقود حركة الحكي، مثلاً، كاستعراض لعضلات لغويّة، أو بثٍّ لأفكار بنظريات فلسفيّة، كم مِن مُتلقٍّ مَلول سيستأنف مع فاطمة للنهاية؟ !لأجلِ حياة النّص، يدعو سواد النّقاد إلى الوضوح، ولا بأس بالغُموض حين الاشتغال على الرموز: “تثقُ بنفسِها دائماً وهي تمرُّ بين حُقول السنابل، فيتعالى صوت الحصّادين، وتسمعُ حمْحَماتهم المكبوتة فلا تأبه لهم ولا تردّ السلام”.
سُرعان ما يعود الحُزن لبيت فاطمة، مكتوبٌ في اللوح المحفوظ أنْ يرحلَ العريس في ليلة عُمره، ليزداد الهمُّ همّاً، مات في نومة كان يؤنسها شخيره، انكسر الظهر، يقف الخال حُسين في وجه المِحن والزمن، ويأخذ ابنة أخته للعيش معه، “يا صبحا، فاطمة مِنّا مِن اليوم، تنام مع العيّال”.. انظروا معي إلى معنى الشهامة، هل بقي في المُسلمين مَن يتحمّل؟!
الحبُّ الذي نهذي به وهو شِبه منعدم، نستشعرُ حرارته في فاطمة، ونُمنّي النّفس بعودة ذلك الزّمن، علّنا نغرفُ مِن غديره فنَروى، لكنْ هيهات، هلْ تغلْغلت المادّة -الباقية بعدنا- في قلوبنا فأفقدتْنا لذّته أم إنّ حياتنا الدّنيوية بحاجة إلى إعادة ترتيب مُستعجلة؟! كيف نشفَى مِن الأوهام؟ عقولنا مُدركة أنّها أوهام ومع ذلك مُصرّون على نُكران الحقيقة، ربّما لأنّنا كبرنا في بيوت الخرسانة التي رَفَعَتْها الآلة “هذه البُيوت بُنِيتْ بِحُبٍّ، فالجميع شارك في العمل”.
ومِن الإنسانيّة آنذاك، قصّة ليلة المطر، لم يبقَ شيء في العَراء إلّا تبلّل، ممّا جعلَ المـاعز في حوش البيت محرومة من المرعى، فيأمر الخال حُسين العمّة صبحا قائلاً: “اخبزي يا أمّ علي -ولعلّنا مرّة أخرى مع اقتباس لأثر بيت النُبوّة- لكلّ معزة رغيفاً من الخُبز طعاماً لها، في كلّ وجبة وفي كلّ ليلة”.
ولأن جهاز (الراديو)؛ المِذياع، بطلٌ من الأبطال، جلبَ للعائلة حُزن جديد، يكون خبرُ المصيبة أكثر تأثيراً حينما يكون الناسُ مجتمعون، وكأنّ كلّ إنسان يُبدي مدى تعلّقه بالفقيد وإخلاصه له، إذْ تفغرُ الأفواه مرّة واحدة، وتتلألأ العيون، لا ابتسام ولا مُزاح مع الموت! “استشهاد الملك عبد الله بن الحُسين إثر إطلاق رصاص عليه عندَ مدخل المسجد الأقصى”.
“كهرب” الوفي؛ الكلب البطل، يشاركُ في الاستدلال على الحُزن أيضاً، بنباحه المتواصل كلّ الليل، أجَلْ، الحيوانات الأليفة تشاركنا الحياة، فتسدلُ عليها رونقاً لن يتذوّق جماله إلّا من عايشها واحتكّ بها تارة واحتكتْ به تارة، فيعرِفُها متى تكون سعيدة ومتى تكون كئيبة، حتّى هي -أي الحيوانات- لا تستكين سوى مع أشباهها في النفوس النقيّة، لعلّنا رأينا شراسة الكلب مع فلان وخضوعه لفلان في نفس حيزّ العيشة من دون أيّ سبب، يرشدُ “كهرب” بنباحه الناس إلى سلمان: “كان الراعي سلمان، نعم هو وقد علّق رقبته بحبلٍ شدّه إلى غُصن الشجرة، كان المنظر مُخيفاً وبشِعاً، وجهه مزرق، ولسانه خارجٌ من فمه، وعيناه جاحظتان”.
يطرقُ الفرح باب فاطمة مرّة أخرى، وما كان للأمر أن يضيق لولا أنّه في الأفُق فُسحة اتساع، لا ندركها بحواسنا مهما تحمّلنا، يُسر آتٍ لا محال، شريطة الإيمان المُطلق بالله جلّ عُلاه، ألا ترى الأبرار في نعيم؟! يطرقُ صالح المرزوق باب الخال حُسين طالباً فاطمة للزواج، وللمرزوق قصّة طريفة ومُضحكة وسط الرواية، أترك للقارئ فرصة الاطلاع عليها.
يتغيّر مكان السّرد ونحنُ على مشارف النهاية، بعد أنْ صار “علي” عسكريّاً، في القدس الأبيّة، بالقرب من مركز شرطة الشيخ جرّاح، تدور رحى الحرب، يستشهد ثُلّة مِن المجاهدين معهم “علي” مع أذان الفجر بعد نصف يوم من القتال، هُنا نشمّ رائحة البارود تعطّر الأجسام والسماء، هذه هي الحكاية، منسوجة بدقّة ودراية، نلمسُ فيها خبرة الراوي بالأرض والإنسان، عرفَ متى يكافئنا بطعم الموت اللذيذ، في موسم الحصاد تطلّ سيارة (لاندروفر) عسكرية، ثم تتوقّف أخيراً عند بيت الخال حسين، لتعلَم القرية باستشهاد “علي”: “القدس تستاهل يا أبو علي”.
ولأن لكلّ بداية نهاية، وقد عُنونَ الفصل الأخير كذلك، يُقفل النّص بالحُزن الأكبر، حتّى نرى فاطمة قويّة، كما عاشت قويّة، وهذا هو المَخرج الأروع، إذْ مِن الضروري شموخ البطل الرئيس في النّص الروائي، فموت الخال حُسين بعدما ارتفعت حرارته وغاب عن الوعي مرّات، ذاك هو السبيل للنهاية: “لم يبقَ لدي دموع لأبكي. لم يبقَ لي جَلَد على الحُزن لأحزَن”.
حضرتْني مقولة لحوحة لدوستويفسكي، أختم بها المقال، لكي تُبدع كلّ فاطمة قارئة في هذا العالم في مجالها الخاص، وتمشي نوراً في النّاس: الحمدُ لله الذي أدام عليّ مُعاناتي!