“الخروبة” مشاهد وصور من العذابات والألم

“الخروبة” مشاهد وصور من العذابات والألم


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    سمير أديب

    نجح الكاتب رشيد النجاب في ترتيب أحداث الخروبة وخلْق منطق فيها، وجعلَنا -نحن القراء- أكثر معرفةً ووعياً لتاريخ ذاك الزمان، تلك هي وظيفة الفن الروائي خصوصاً في هذه المرحلة.

    مشهدان من الاستعراض الاستهلالي لرواية الخروبة جاءا جاذبين للمتلقي وحققا مهمة امتثال القارئ لاستكمال السرد عبر الستة عشر مشهداً التالية، التي اتسمت بالجاذبية والتشويق. ولقد أتى الراوي على مشاهد، مركزها “رشيد” بعد استدعائه للالتحاق بعسكر السلطنة العثمانية في نهاية حكمها قبل السقوط، متنقلاً من بلدة إلى أخرى، ابتداءً من جيبيا، وصولا ًإلى البقاع اللبناني، مروراً بقرى الجليل الشرقي ووادي اليرموك ثم درعا ودمشق، مدن وقرى عانقتها السهول والجبال والأودية البديعة، تتخلَّلها المباني الأثرية والحديثة، وهي مواقع جغرافية ليست منعزلة عن العناصر الفنية الأخرى.

    ولقد عكس الراوي مشاعر “رشيد” المتضاربة تجاه ما واجهَ من ترويع وقسوة الجنود المشرفين على التجنيد، وتحمُّله تنفيذ برامج التدريب العسكري تحت هطول المطر وغضب السماء البعلبكية، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى سطَّر صوراً من الوجع والألم الذي اعترى والدي رشيد وشقيقتيه، وهم لا يعلمون ما حلَّ بالابن وفي أي أرض يعيش.

    وجاءت لغة الرواية سهلة، زيَّنتها أحياناً التعابير الدارجة ذات البعد الاجتماعي، وظَّفها الكاتب في تناغم وانسجام في سياق السرد الروائي، ما عزَّز واقعيتها: “شو ماله رشيد؟”، “ابني زي ما هو ابنك”، “حاهيش”، “الجودلة”، وغيرها.

    وتلاحقت مشاهد الرواية في فصول ليست متباعدة سبرتْ غور البطل وجعلت القارئ يلحظ مدى معرفة الكاتب للشخصية المركزية “رشيد”، وللشخوص الفرعية (أبو رشيد، وأم رشيد، والأختين، وسالم نخلة، وأبو سليم) معرفة تامة، ونجح الكاتب في خلق تواطؤ بين الحياة الواقعية والرواية، كادت تصل إلى حد التطابق، في لقطات متسارعة باستخدام الفعل الماضي وتقديم السرد بصيغة “هو”، من أجل التزام الحياد في الفضاء الروائي، وخلق إيحاء عند القارئ بواقعية شخصية “رشيد” الرئيسة والشخوص الثانوية (سالم نخلة، أبو سليم، أبو رشيد، أم رشيد، فاطمة، حمدة) وغيرهم، وتوظيف الأماكن الواقعية في سياق الري (أحراش النبي صالح، عروض أبو زمير، الخروبة، مقام بايزيد، بيت الشيخ علي العاروري، البلدات في المحيط، أم صفا، والنبي صالح، وبيرزيت، وعطارة، وكوبر، وبرهام) مبرزاً في طيات السرد معتقدات شعبية وتاريخية (مقامات الأولياء، الآلهة بعل، الفراري) وحكايات وأمثال من التراث والحِكَم “من سرى باع واشترى”، “تبغدد وتدمشق” جعلت السرد الروائي يتسق في علاقة جدلية بين الواقع الاجتماعي والثقافي.

    ولقد تنقَّل الراوي في الفضاء المكاني بسلاسة وبساطة ويسر، بين “جيبيا” وأحوال الأسرة وبين معسكر التدريب وواقع الحياة اليومية لرشيد وزملائه.

    تعدُّ رواية “الخروبة” واحدة من لَبِنات تراثنا، مستمدَّة من ثقافة الكاتب ومعارفه وتراثه؛

    التراث الذي يستحق منا الاهتمام والرعاية، إذ إنها إضافة إلى المكتبة الفلسطينية والعربية.

    ومن اللافت أن الكاتب ربط بوشائج جينية بين صلابة الإرادة ومتانتها لدى المناضل الراحل “سليمان النجاب”، في خضم كفاحه من أجل القضية التي خدمها، وبين بسالة واحتمال بطل رواية “الخروبة” والد سليمان، الأمر الذي يجعلنا نستشعر رغبة الكاتب في إبداع سيرة الجيلين الثاني والثالث، والخوض في غمار الفضاء الزماني التالي وما بعد التالي، لعلَّه يملأ الفراغ والانقطاع المفاجئ للمشهد قبل الأخير في روايته “الخروبة”.