الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في رواية العبور على طائرة من ورق

الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في رواية العبور على طائرة من ورق


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    الدكتور كايد الركيبات

    مثّلَ الحديث عن تأثيرات أحداث الحرب في أوكرانيا على شخصيات الرواية نقطة انطلاق السردية الروائية لرواية العبور على طائرة من ورق، للكاتبة الأردنية زينب السعود، الصادرة عن دار الآن ناشرون في العام 2023. وظفت الكاتبة حقيقة إجلاء بعض الطلبة الذين كانوا يدرسون في الجامعات الأوكرانية، على متن طائرة نقلتهم إلى الأردن، مناسبة لكشف علاقة كل شخصية روائية بالمشكلة الاجتماعية التي عانى منها.
    لم تكن تبعات الحرب الدائرة في أوكرانيا بحد ذاتها سبباً في وجود هذه الأمراض، فالطلبة الذين ذهبوا إلى هناك كانوا يحمِلون معهم مآسي حياتهم، وعادوا بها، لكن الكاتبة وظفت ظروف هذه العودة القسرية لتكون مدخلاً مقبولاً لكشف الأوراق بنهج سردي قريب جداً للواقعية، خلق بيئة مناسبة بشخصياتها وأحداثها، تسوغت أسباب اطلاع كل شخصية من هذه الشخصيات الروائية على خفايا وأسرار الشخصيات الأخرى بطريقة مقبولة، مع المحافظة على تماسك سردية الرواية بشكل يتوافق مع تعدد الشخصيات، وتعدد القضايا التي أثارت النقاش حولها.
    نكأت الرواية الكثير من الجروح المتقرحة، التي لا يمكن أن تبرأ دون التدخل العلاجي، والتثقيف الاجتماعي، مع إصرار الكاتبة في مواضع كثيرة على استحضار مشاعر الحزن والألم في السردية الروائية، عند الوقوف أمام الحلول المستحيلة، أو عند مواجهة لحظات اللا حل، وفي السياق ذاته، مثلت درجة حضور الشخصيات الروائية في السرد أهمية كل مشكلة من المشاكل التي طرحتها الكاتبة للنقاش، وتقدير حدود استيعابها وتفهمها في الوعي الفردي والجماعي، في البيئة الاجتماعية التي نشأت فيها شخصيات الرواية.
    ناقشت الكاتبة قضية السلطة الأبوية المفرطة في تسيير حياة الأبناء، وتهميش حدود رغباتهم وتطلعاتهم المستقبلية، بِحُكمِ أنهم أكثر معرفة وأوسع دراية في شؤون حياة أبنائهم، وعلى الأبناء القبول والتسليم؛ لأن الأهل هم مصدر الدفع والتحفيز للأبناء، وأن من حق الآباء على الأبناء أن ينصاعوا لتوجيهاتهم ورغباتهم، لأنهم يرون في نجاحهم وتحقيق خططهم كما رسموها لهم سبباً خفياً في سعادتهم المستقبلية، هذه المعالجة أجرتها الكاتبة من خلال توظيف شخصية هتاف، التي فرض عليها والدها الدكتور عبدالسلام اختيار الفرع العلمي في الثانوية العامة، ومن ثم وفر لها منحة دراسية في أوكرانيا لدراسة الطب، في حين كانت رغبتها الشخصية دراسة الأدب المقارن، قالت هتاف: “يد والدي امتدت لتغير ذلك الحلم… هل أنا مسؤولة عن تحقيق حلم جدي الذي لم يتمكن هو وعمي الراحل من تحقيقه” (ص: 19، 20).

    لم تقوَ هتاف على الخروج من حالة الاضطراب النفسي التي أصابتها من جرّاءِ فرض والدها عليها دراسة تخصص الطب، وعدم إيمانها بقدرتها على ممارسة هذه المهنة في حياتها، وأن استمرارها في هذا الطريق إلى جانب كثير من المؤثرات التي أحاطت بتربيتها وتنشئتها، خلق عندها حالة مرضية استدعت مراجعة العيادة النفسية في أثناء دراستها في أوكرانيا. لاحقتها رقابة والدها حتى وهي في الجامعة، وتمكن من إبعاد صديقتها المقربة ــ أمجاد ــ عن طريقها، قالت هتاف: “قرارات حياتي مصدرها والدي، كان الدكتور عبدالسلام هو من يخطط لابنته دوماً، ويفكر عنها ويقرر ما الذي يسعدها، وكيف يحققه لها حسب ما يعرفه هو ويقرره هو” (ص: 198). فككت الكاتبة مشكلة هتاف بِتركها دراسة الطب، والاندماج مع ميولها ورغباتها في دراسة الأدب، في تصور يدفعنا للاعتقاد أن هذا هو الحل المناسب، الذي غالباً ما يكون سائداً ولا مناص منه.

    المشكلة التي وازَت في أهميتها السلطة الأبوية المفرطة في سردية الرواية، كانت قضية اضطراب الهوية الجنسية، ولأنها حالة مرضية لها أبعادها النفسية على المريض، وأسرته، وقدرة التعايش معها في مجتمع غير مهيأ ثقافياً على تقبلها، بل يعتبرها محل الرفض والإنكار، أو السخرية والابتزاز، أو الشفقة، أفردت لها الكاتبة مساحة كبيرة في السردية الروائية من خلال توظيف شخصية أمجاد، الفتاة التي اكتشفت لاحقاً أنها ذكر بأعضاء تناسلية ضامرة، وهرمونات ذكورية تزداد ظهوراً مع تقدمها في العمر، تحدثت الكاتبة عن أُسرة غير قادرة على مواجهة هذه الحالة المرضية، وغير متقبلة للاعتراف بها، قالت أمجاد عن موقف عمتها من حالتها المرضية: “إحدى وسائلها في تخفيف همومنا ألا تتحدث عنها، وألا تأخذها على محمل الجد، على الأقل فيما تبديه لنا. كلفني تغافلها عن همي الذي ولد معي ما أنا فيه الآن” (ص: 25).
    أمجاد الفتاة الضعيفة التي كانت محلاً للتندر والسخرية الاجتماعية، لسلوكياتها الذكورية، أصبحت تعرف بالفتاة المسترجلة، لأنها لا تستطيع الخروج من طوق الرعاية والوصاية التي أحاطتها به عمتها أميرة، شخصية أميرة بحد ذاتها مثلت حالة اجتماعية مستقلة تعرضت لها الكاتبة، فهي امرأة وجدت نفسها مطلقة من خطيبها بعد أن توفي شقيقها، وتركت زوجته ابنتيها في رعايتها، وذهبت لتتابع حياتها في كنف رجل يرعى شبابها، وأحاطت الكاتبة أميرة بشخصية الدكتور عبدالسلام الذي كان يكن لها الحب، لكنها قَبِلت بالخطوبة من شقيقه الأصغر، وقوفاً عند رغبة والدته، فزادت آلامها ووحدتها بعنوستها.
    تشابكت العناصر المؤثرة في تفهم مرض أمجاد التي رغبت بالخروج من جسد الفتاة لتتحرر وتكون ذكراً كما يجب أن تكون، مع مخاوف عمتها من نظرة المجتمع، قالت أمجاد مخاطبة عمتها: “هذا المجتمع الذي ترتعبين من مواجهته عليه أن يعرف أنني مريض مثل أي مريض يحتاج إلى علاج… كيف سمحت لي أن أعيش متخفياً طول هذه الأعوام. ألم يكن من الأسهل لي ولك أن نعالج الأمر باكراً منذ ذلك اليوم الذي قالت لك فيه الطبيبة ابنتك بلا رحم” (ص: 159).
    أدركت الكاتبة أن مواجهة قضية أمجاد المرضية بحاجة لإحداث ثورة توعية في المجتمع، وأنه في وضعه الراهن غير قادر على تفهمها؛ لأسباب تتعلق بتنامي ظاهرة التحول الجنسي التي أصبحت تتسرب في فئات مجتمعية نتيجة ميول ورغبات شاذة، والخلط بين هذه الظاهرة والحالات المرضية القهرية التي يعاني منها بعض أفراد المجتمع، وصورت لنا صعوبة التعاطي مع ظروف هذه الحالة المرضية اجتماعياً بموقف الدكتور عبدالسلام الذي خاطب عمة أمجاد قائلاً: “ببساطة أقولها لكِ ستكون أمجاد ضحية الجهل وسوء الفهم” (ص: 238).
    تعددت المشاكل الاجتماعية التي قاربت الرواية منظار البحث في جوانبها المختلفة، التي شكلت في مجملها صورة متكاملة لبيئة اجتماعية تفاعلت فيها. لذلك نجدها تحدثت عن حالات الانفعال التي تصاحب الكثير من أرباب وربات الأسر في مواجهة ظروف حياتهم اليومية، وانتهاج العتاب واللوم وتحميل الطرف الآخر المسؤولية، جعلت الكاتبة من شخصية أم هتاف مثالاً على هذه الحالة، قالت هتاف عن كثرة عتاب وكلام والِدتها الانفعالي في حق والدها: “أعرف أن مفهوم والدتي لاقتصار الشر هو ألا تهدر كلامها في غير موضعه وعلى مسمع من لا تريد قصفه” (ص: 20). كما تحدثت الرواية عن حالات القلق التي تعيشها بعض الأسرة عندما يكون لديها مريضاً يعاني من بعض الصعوبات الجسدية، أو يعاني من حالات مرضية نادرة، كما صورت لنا ذلك في حكاية هديل وطفلها ريّان. وعبّرت الرواية في توظيفها لشخصية الدكتور إلياس عن الشخصية العصامية القادرة على التعايش مع الواقع بروح معنوية عالية، دون الالتفات للمغريات أو انتهاز الفرص. وعبّرت عن الشخصية الانتهازية المحبطة والانهزامية بشخصية الموظف زياد. إلى جانب شخصيات ثانوية أدت أدوارها في خدمة بعض الجوانب التي تطلبتها السردية الروائية للتعبير عن بعض الظروف التي أحاطت بالشخصيات الروائية الرئيسة.

    قدّمت الرواية نظرة نقدية لبعض المشاكل المجتمعية، في سياق سردي اعتمد الحوار البيّني من جهة، ومن جهة ثانية، وظفت الكاتبة فكرة التأمل والحديث الداخلي لأبطال الرواية لتعبر عن مراجعات ذاتية خدمت فكرة الرواية، دون الحاجة لتوظيف أسلوب النصيحة والإرشاد المباشر في مواجهة المشاكل المطروحة، مما جعل الرواية عملاً أدبياً يستحق القراءة والتأمل. من العبارات الجميلة عميقة المعنى التي صاغتها الكاتبة وقدمتها لنا على لسان بطلة روايتها هتاف قولها: “الحياة لا تمنحنا كل شيء على الهيئة التي نريدها، تتدخل يد القدر لتحرف مسارنا عن الطريق الذي ظننا أننا مهدناه أمامنا وفصلنا تفاصيله بدقة” (ص: 39، 40). وقولها: “كم يغير الحزن فينا وكم يطفئ البهجة الداخلية التي تلقي بظلالها على وجوهنا… لحظة فقد واحدة كفيلة بمسح رواسب القلوب وتقريب المسافات التي ترامت أطرافها بين الناس” (ص: 266، 268). وعلى لسان أمجاد قالت: “الحزن الذي يقيم مجلس عزاء في قلبي ألجمني، لم أهتم يوماً لضحكة تخرج من القلب، هذا النوع من الفرح لا وجود له إلا في الجنة” (ص: 27).