«العبور» لمحمد درادكة.. جـيـل الشباب والأحلام المـوؤودة

«العبور» لمحمد درادكة.. جـيـل الشباب والأحلام المـوؤودة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    د.عبد الرحيم مراشدة

    تقترب رواية «العبور» للكاتب د.محمد درادكة، في توصيفها الخارجي وتصنيفها في سلّم الأجناس المتعالقة مع الرواية، من الرواية السير-ذاتية المتداخلة مع بعض الأبعاد الاجتماعية والسياسية، كما لو أنها تأخذ من كل جانب بقدر. وهذا المنحى قد يؤدي إلى مزالق، حيث يتشعب المتلقي في تحديد الترميزات المبثوثة في النص من جهة، وتختلط عليه الرؤى من حيث الوصول إلى استراتيجية نصّية يمكن فهمها عند محاولة الوقوف على ما يُعرف بوجهة النظر في الرواية، وبخطاب النص الروائي.

    ولهذا يمكن تناول هذه الرواية وفق المسارات التالية:

    فضاء النص المقدماتي

    تخلو الرواية من نصوص موازية يمكن الإشارة إليها، باستثناء ما ورد من اختيارٍ قصدي لمنشئ النص، وهو ما ورد على الغلاف الخارجي الأخير للرواية الصادرة عن «الآن ناشرون وموزعون» (2018)، بحيث اختار الكاتب ما يقارب عشرة أسطر من متن الرواية، وأثبتها دون عنوان، وجعل الكلمة الأولى بخط أكبر وأكثر لونية، ليلفت الانتباه (القرية)، وليشغلنا بتوكيده على القرية، حيث الفضاء البصري مهم في إنجاز بعض الدلالات، لكن توظيفه هنا جاء بوصفه مدخلاً إشارياً فقط. وكما هو معروف، فإن الاختيار ضربٌ من النقد، فلماذا اختار فضاء القرية، وهذا النص تحديداً؟ لنقرأ هذا النص:

    “القـــــرية، والمدرسة، والبيت… روتين يكاد يخنقني. السيجارة تكاد لا تبرح فمي، إنها أبسط الأشياء التي أشكوها بثي وحزني. الفرج بعيد، والعبور مؤجل.. لكن لا بد منه. سأعبر الأسلاك الشائكة وحدي، وأحمل وسام البطولة، ولكن ماذا بشأن العيال في دولة لا تحترم ولا ترعى حقوق الغلابى؟ أخيراً تمتد يدي إلى علبة السجائر، تخرج واحدة أشعلها وأتجرع دخانها بقوة».

    هذا النص حافل ببعض ما يدور في نفسية الشخصية، ويقدمه الراوي العليم تقنياً. صحيح أنه اختار القرية، لكنه أضاف أمكنة جزئية، وهي: المدرسة والبيت. وبمطالعة متن الرواية ومتابعة القراءة يتبين أن هذه الشخصية هي شخصية «إمام»، الذي يعمل معلماً في مدرسة، ويبدو أنه غير راضٍ عن عمله وظروفه الحياتية، وبالتالي تتوضح لديه الشكوى، ويبث حزنه للسيجارة وللأشياء، في عجز لافت عن فعل أي شيء. وهذا يثير سؤال الموقف من القرية وعلاقتها بالثقافة المجتمعية.

    وقد ربط المؤلف هذا الاختيار مع العتبة الغلافية للرواية، حيث أطلق على روايته اسم «العبور». هذه الكلمة (العبور) للوهلة الأولى لها مرجعيات، لغوية وسياسية في الوقت نفسه، فالبعد اللغوي يثير إشكالية التحول من مكان أو زمان إلى آخر، وقد يستدعي في ذاكرة العربي عملية العبور للقناة في حرب الغفران، لكن هذا لم يحصل، وبقي الأمر محصوراً في إطار التحول من مكانٍ ما وأشياء بعينها اجتماعية وفكرية إلى غيرها.

    وتوضح اللوحة المصاحبة لكلمة «العبور» على غلاف الرواية، هذه المسألة، حيث تتضمن اللوحة شخصيةً تحاول العبور من مكان معين ويصدّها جدارٌ صلب يتلوه جدارٌ آخر أكثر صلابة، ما يشكل مانعاً للعبور، وفي ذلك دلالة ترسخ مسألة العجز عن إنجاز الهدف. ويصاحب هذه الشخصية الأسلاك الشائكة التي تشكل عائقاً آخر، وتثير في الذهن الألم والجراح والمنع… إلخ.

    البعد التصنيفي للرواية

    لم تسعفني الرواية واتجاهها النصي، للتصنيف بشكل دقيق. فالرواية العالمية والعربية، بوصفها عملاً إبداعياً بشكل عام، راح النقاد -ونظراً لتحولاتها عبر الزمان والمكان- يصنفونها تحت أنماط، فمنها: الرواية التاريخية، والبوليسية، والاجتماعية، والسياسية، والغرائبية، والعجائبية، ورواية الأجيال.. إلخ.

    فأين تقع هذه الرواية ضمن سلّم التصنيف والتنميط؟

    تدور «العبور» حول شباب يطلق عليهم الراوي: المشاغبين. وتتكرر هذه اللفظة إلى جانب عبارات أخرى، حتى تصل إلى درجة ما يعرف باسم «المهيمنات النصية». ومن هذه المهيمنات، إضافة لعبارة «المشاغب» ومشتقاتها، نجد: الجنرال والضربة.

    هؤلاء الشباب هم خالد وعبدالله وأحمد وسعيد، بوصفهم شخصيات ثانوية ومحايثة أحياناً، إلى جانب الأخت إنعام، وجميعاً تتقدمهم شخصية مركزية ترتبط غالبيةُ الأحداث بها، وهي شخصية «إمام»، الذي يعيش في أسرة متواضعة إلى جانب والده ووالدته وأخته، ويعمل معلماً، لا يتجاوز راتبه مئة دينار.

    ومن الشباب مَن يحلم بالعبور إلى فلسطين، ولهذا يسافر إلى لبنان ليحاول الانخراط بحلم العبور عبر الأسلاك الشائكة، وبعضهم يُعتقل ويُسجن.. و”إمام» تلاحقه لحظات الاعتقال، ويفكر بالجنرال الذي تبدو شخصيته غير واضحة تماماً؛ هل هو رجل المخابرات أم الجنرال الأميركي.. إلخ. فأحياناً يلتقيه ضمن مسار تحقيق، وأحياناً يتحدث عنه بشكل عام في ظروف الاحتلال والاعتقال والسلطة.. إلخ، وبخاصة في مناطق لبنانية، مثل الجنوب اللبناني. في حين يحاول الراوي أن يقدم الشخوص الثانوية الأربعة بأنهم مشاغبون وينتمون لحزب يساري لا يفصح عنه تماماً، وإنما بإشارات تحيل إلى الماركسية.

    وتتناول الرواية أحداثاً اجتماعية وسياسية وثقافية، بنسب متفاوتة، مما يجعل تصنيفها تحت نمط معين من الرواية صعباً، رغم أنها تحاول أن تتحدث عن الحرب ومنتجاتها بعد احتلال فلسطين، والحروب في جنوب لبنان، وبعض المواقع التي تمتد من الأردن إلى لبنان.

    إن تصنيف هذه الرواية يبقى غير كافٍ لتحديد اتجاه بعينه، والتصنيف أحياناً -إذا كان قائماً على استراتيجية واضحة- يجعل من الرواية أكثر فاعلية وإحكاماً, وبالتالي ستكون أكثر تنظيماً في استراتيجيات ما يُعرف نقدياً بـ «وجهة النظر» أو «خطاب النص الروائي».

    إنّ الإشكالية التي يقع فيها بعض الروائيين العرب، وبخاصة الشباب، عدم الوعي بتقنيات النص الروائي وتحولاته عبر الزمان والمكان، ولهذا يقعون تحت سلطة الحكاية، والخبر، والسير ذاتي المبطَّن في النص. ومثالنا على ذلك، أن الشخصيات، حتى شخصية «إمام» المركزية، غير متنامية بشكل يتناسب مع موضوع النص وأهميته. ومثل ذلك يمكن القول على فاعلية الشخوص الثانوية والوهمية والمساندة.. فبقي التحول والتغيير في إطار بطيء جداً، بحيث كان السرد في مسار أفقي غالباً، وإن حاول التحول فإن مسافة الحركة والتوقع تبدو غير لافتة، ولا تتعدّى الوصف الخارجي والنقل القريب من المباشرة.

    وقد حاول المؤلف في بعض المواقف استخدام ضمير المتكلم، وطعّمه بالصوت الداخلي للشخصية (تيار الوعي)، لكن ذلك لم ينقلنا إلى عالم غرائبي وعجائبي ولا إلى أحداث مهمة تتناسب وموضوعة الحرب والفكر الأيديولوجي والسياسي، وحتى الاجتماعي، فضاعَ المتلقي بين شتات هذه الأشياء..

    ونجح المؤلف في الإمساك بالخيط السردي التعاقبي في سلسلة المرويات الحكائية والقصصية وما يحدث من أحداث وفق مسار معين. والتزامه هذا جاء بسبب تمثله لشخصية المعلم والطبقة المثقفة التي ينتمي إليها.. فكان يمكن له التوكيد على هذا الجانب، ويستثمر دور المعلم التنويري القيادي بشكل أكبر، ليتم تثوير الأحداث وفق المحطات الزمانية والمكانية والحدثية المهمة، لا سيما وأن الفترة التي تناولتها الرواية قلقة ويعاني منها الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج.

    مواقف اجتماعية

    في النص التالي سيدرك المتلقي الحالة الاجتماعية والطبقية لشخصية «إمام» وفقاً لما يقدمه الراوي:

    «وسرعان ما يلتفت إلى كتبه الموضوعة على الطاولة المنخفضة. إنها كتب مدرسية، تفوح من جوانبها رائحة الكبت، ورغبة تفصيل العقول على قدر مقاس الدولة الرشيقة.. يقترب منها، يتحسسها، يلمسها، ثم يرفع يديه عنها كأنها عقرب.. اشتط به الغضب والنزق من قسمة الكون.. لكنه يعود إليها ويحملها لأن فيها لقمة العيش، التي تكاد تكون مثل زعيق البرد عندما يسري في عظامٍ دقيقة القوام، فلا يملك لوخزها ولسعها حيلةً، أو ذريعة، أو افتراء.. إنها لقمة العيش، رمز الواقع البليد.. وبينما تستبد به مثل هذه الخواطر المحمومة كألسنة اللهب المتوهجة، في هشيمٍ رخوٍ ضعيفِ التماسك، يصرخ في دخيلته كاظماً غيظه: (…) ماذا أصنع؟ أنا فرد ضعيف، تحكمني حركة القُوت، ودزينة العيال المتكومين، في زوايا البيت يهددهم صفير البيت، ولعنة الثلج وغلاء سعر البندورة. ماذا أفعل بالتدريس ما دام للتعليم سقفٌ وآلاف الخطوط الحمراء التي ينتهي إليها» (ص7).

    هذا النص يقدم حالة الشخصية المركزية «إمام» وقلقه وتوتره ومستواه الفكري والاجتماعي.. الراوي يستبطن العالم الداخلي للشخصية ليقدمها لنا على لسانه حيناً وعلى لسان الشخصية المركزية عبر تيار الوعي.. والنص هنا ناجح في عكس واقع الشخصية في بدايات الرواية. فهي شخصية تعمل في التعليم وتقدم نقداً للتعليم وكيفياته بإشارات لاذعة، وما يجبره عليه هو لقمة العيش والعائلة، ولهذا هو دائم القلق والتوتر، ويحاول الخلاص من هذه الظروف، لكنه لن يتمكن تماماً، فينضمّ إلى الحزب ليكون فاعلاً، وفي أجواء تسند ذاته، فيجد صحبةً معينة، مع أبناء جيله ومَن يتفق معهم في الاتجاه، تسير وفق هذا المسار، فيلتقيهم في المقاهي والشوارع وفي البيت.. لكن هذا التحول غلبت عليه سمة الرتابة أحياناً، وكان يمكن استثمار هذه المسألة بتحولات أكثر تجذراً وفاعلية، فرغم أن المؤلف قدم لنا نصاً ومدخلاً مهماً، واستثمر المشهدية وتيار الوعي، تقنياً، إلا أن المتلقي كان ينتظر موضوعياً أكثر من هذا، فهل ترك هذا الأمر لذاكرة المتلقي أم لشيء آخر يقع في استراتيجيات العمل الروائي، وكون هذه الرواية هي العمل الأول لصاحبها كما نجد عند روائيين آخرين، من أمثال تيسير سبول وغالب هلسا.. إلخ؟

    وهناك مواقف أخرى مع الأب والأخت، وكنت أتمنى على الروائي أن يحيل بعض السرود على لسان المرأة لتكون أكثر جدوى، حيث أن بعض الإشارات قدمت المرأةَ في بدايات الرواية على أنها مثقفة، ثم تجدها في موقف آخر مقموعة ويتلاشى دورها. ومثل ذلك دور الأم. على سبيل المثال، نجد «إمام» أمام الأم متوتراً لا يهتم بها من السياق: «يدخل البيت.. تخاطبه أمه: مالك يا أخي. يداك فارغتان، كيلو بندورة تسد بها فمك قبل فمنا؟!».

    وفي سياق آخر، يتحدث المؤلف عن الأخت وعن موت الأب، حيث تظهر الأخت مثقفةً كما يرد في بعض السياقات التي تذكر أنها كانت تذهب للمدرسة (ص46). وفي سياق آخر يتبدى اهتمامها من قراءة الصحيفة التي بيد «إمام”: «تأتي أخته متسائلة: مالك يا إمام مهموم النفْس متعَب؟ يعطي لها الصحيفة ويقول: اقرئي. تقرأ أخته، ثم تسأل: وما علاقة هذا بالذي أنت فيه؟ فيقول: إنه عبدالله صديقي.. أتذكرينه؟ أتى مرةً إلى منزلنا.. لقد سافر إلى بيروت، ولا بد أنه يشاغب» (ص71).

    ويتكرر ذلك في النص التالي: «وبينما أنا في هذه التساؤلات، يعلو في الغرفة المجاورة لغرفتي صياح ونحيب، تُرى ما الذي حدث؟ أهرع إلى هناك، أختي تبكي بل تنحب.. لا بد أنها عملت معركة مع زوجها الذي يطالبها بأن تلدَ له الأولاد الذكور. إنها تُفرِّخ بطريقة أوتوماتيكية، ولم يأتِ الذَكر بعد ليسحق هذا الكم المتكوّم من البنات، وليفضّ عنها غلظة زوجها وشماتته. أسألها: لماذا؟ وقد فسرت كل شيء. إنها عادة معهودة. الفزع والخوف يقطفان كل سحر الطفولة من عيون البنات الصغيرات اللواتي يتكومن خلف أمهن.. ينتحبن لنحيبها، إلا الطفلة الأصغر، أخذت تراقب النحيب بوجوم شديد، كأني بها تتهيأ للتمرد عندما تكبر وتعرف كيف تصرخ بحنق مَن عاد لا يهمه شيء» (ص32).

    وجاء في موقع آخر: «أبي لا يعطي للبنت عيناً» (ص33). وهناك الفجوة بين جيل وجيل كما يكشفها الحوار بين الأب والابن: «وإذ بصوت يفيض من أحد أركان الغرفة: ماذا دهاك يا والدي.. ألا تشرح لي بعض همك. لكنه يستدرك قائلاً: وما الحاجة للشرح؟ إنّ مشكلتك تدخل في هذا التلوث العقلي الذي أصابك منذ أن بدأت تنكبّ على هذه الكتب الخطيرة» (ص8).

    مواقف سياسية أيديولوجية

    إنّ قراءة «الكتب الخطيرة» كما يرد على لسان والد «إمام» تشي بالبعد السياسي والفكري، خاصة وأن «إمام» معلم. ويقدم الراوي سياقات تشي بثقافته، خاصة في السياق الذي ينقد فيه سيبويه والجاحظ وغيرهما (ص71). وتتوضح حركته الحزبية من خلال عبارات تنطوي على حس السخرية: «ربما تغضب الهيئة المركزية لأنني خرجت عن تعاليم التلمود الحزبي وتجاوزت كل حد».

    وهناك سياقات عن الجدل والديالكتيك، وحديث عن السياسة، والحروب، وأسعار البترول، والمناوشات على الحدود، وحركة «المشاغبين»، وعبور الأسلاك، والعاطلين عن العمل من الشباب. وتنقل الرواية شيئاً مما يدور في المجالس والمقاهي، وتتحدث عن المداهمات والسجن والسفر لبيروت للمشاركة في «العبور».. وهناك كلمات عابرة عن الجنرال والضربة والمقاومة..

    بقيت الأحداث في الرواية أسيرة الخط الأفقي غالباً، ولم يجرِ تسييلها أو تناميها في مسارات تشكل لقطات نوعية ومفصيلة بحيث يجري التأزيم والتصاعد وصولاً إلى أفعال درامية تمسك بخيوط النص ولذته وتجذب المتلقي للسؤال الكبير: (وماذا بعد؟؟)، حيث جاءت الخاتمة أقرب للوضوح منها للتعمية، موجزةً مصير الشباب الأكثر حضوراً في النص، في ضوء سيطرة اليأس والعجز والعبثية عليهم. إذ تحولت استراتيجيات الشباب وأهدافهم إلى أحلام موؤودة لا فائدة منها.