العلاج بالتاريخ ورواية «خبز وشاي» لأحمد الطراونة

العلاج بالتاريخ ورواية «خبز وشاي» لأحمد الطراونة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    د. محمد عبدالله القواسمة

    حين يستبد بالإنسان الألم والكآبة، ويحس بالضعف والعجز أمام قوة ما، أو وضع لم يتوقعه فإنه يلجأ (كما أرى) إلى التاريخ؛ إما إلى تاريخه الشخصي فيبحث فيه عن اللحظات الجميلة، أو تلك التي كان فيها قويًا، وإما إلى تاريخ الآخرين الذين عانوا مثل ما يعانيه؛ عله يجد وسيلة تواسيه، أو تعينه على الخلاص مما هو فيه أو تحمله. فالتاريخ مطية يستخدمه الفقراء والبائسون للوصول إلى توازن ما في حياتهم، بخلاف الأغنياء والمرفهين؛ فهم يمتطونه ليرسموا المستقبل لهم ولأحفادهم من بعدهم، وليعززوا وجودهم، ويحافظوا على ثرائهم ومجدهم.

    هذا النوع من الألم يكفي للتغلب عليه أو تحمله على الأقل أن نسترجع أحداثًا وقعت لنا أو لغيرنا وتكون بعض جوانبها شبيهة بما نحن فيه، ونرى كيف واجهناها، وكيف تصدى لها أبطال التاريخ فنستفيد في معالجة ألمنا من تجاربنا الشخصية، وتجارب التاريخ الناجحة. ولكن يوجد نوع من الألم لا نستطيع أن نحصر مواجهته بقراءة التاريخ، ومعاينة تجاربه وأحداثه. سواء التاريخ الخاص أو العام، ولو استرجعنا أحداث التاريخ وأبطاله جميعهم من الإسكندر المقدوني إلى صلاح الدين الأيوبي فلن نقدر على معالجة الألم الناجم عن الفقر والجوع والحرمان؛ إنه يحتاج إلى نوع آخر من الحلول التاريخية.

    لقد ارتأى الروائي أحمد الطراونة في «خبز وشاي: سيرة أبو وئام الكركي» (عمان: الآن ناشرون، 2016م) حلًا لآلام أبطال روايته من الفقراء والجوعى الذين يعتمدون على الخبز والشاي في بقائهم على قيد الحياة، وهو حل لا يخرج عن دائرة التاريخ. لقد رأى الطراونة أن يسطو أبطال روايته على التاريخ نفسه، ويحفروا  بين أطلاله وخرائبه، وينبشوا مقابره بحثًا عن النفائس واللقى التي خلفتها الإمبراطوريات والممالك الزائلة على أرض قراهم والخرائب من حولهم. هكذا يلجأ أبو أحمد وشقيقه أبو خليل إلى مقبرة في خربة «نخل» لينبشا القبور، ويسرقا ما دفن مع أمواتها من أساور وأختام ذهبية، وأدوات فخارية وزجاجية ثمينة؛ كي يعرضاها على سماسرة الآثار مقابل أموال زهيدة يستعينان بها على سد مطالب «أكوام اللحم التي تنتظر حتى الصبح ما جناه (الوالد) من التراب أو من القبور». من هنا يتلاشى الاهتمام بالتاريخ بوصفه رمزًا وطنيًّا، وقيمة مادية تاريخية تجذب السياح إلى زيارته؛ فلا حديث عن الانتماء والولاء وأولادنا لا يجدون الخبز والشاي، كما يقول أبو أحمد لأخيه. وتبلغ المأساة ذروتها عندما يموت أبو أحمد فجاءة دون أن يوفق في إنقاذ أسرته من الفقر والجوع، فقد حرمه أخوه أبو خليل  بالتعاون مع يوسف مدرس التاريخ من نصيبه من ثمن الإبريق الزجاجي النبطي الثمين الذي عثر عليه، فينحل عقد الأسرة ويتفرق ولداه، أحمد وخالد في طريقين متناقضين: الأول ينضم إلى جماعة إرهابية بتأثير شيخ سلفي التقاه في مسجد، والآخر يلتحق بقوات الدرك. وكلاهما يرغب في الظفر بالقوة للخلاص من الحياة البائسة التي كابداها، والانتقام من عمهما ومدرس التاريخ اللذين خانا والدهما. ويدرك الاثنان خطأ الطريق، طريق الانتقام والعنف التي سارا فيها، ولكن بعد فوات الأوان، فأحمد ألقي القبض عليه قبل أن يستطيع الخلاص من تلك الجماعة الإرهابية وكان مصيره السجن، والآخر ظل أسير الأوامر البوليسية التي تقمع المعارضين والمطالبين بالإصلاح.

    لا نستطيع القول إن الإرهاب موضوع الرواية إنما موضوعها الفقر والجوع اللذان سيطرا على قرى الجنوب الأردني، ليظهر من بين السكان ذانك الشقيقان لينكبا على القبور بحثًا عما يمكن أن يكون فيها من كنوز. أما ما جرى بعد ذلك فهي أحداث متصلة بحركتهما تلك. ولعل ثنائية الخبز والشاي وتكرارها كثيرًا في الرواية ما يؤكد هذه الحقيقة. لهذا فإن الفكرة المهمة التي تقوم عليها الرواية، والتي عالجها الروائي بنجاح لافت يمكن تلخيصها في مقدمة منطقية تقول: إن من لا يجد غير الخبز والشاي ليعيش لا عجب أن ينحرف عن جادة الصواب، وأن يحفر القبور دون اهتمام بحرمة التاريخ، أو حرمة الموتى.