تحسين يقين
تنوعت مضامين القصص، بشكل لافت، من تصوير نفسية النساء، إلى تمكن الوظيفة من الإنسان، ومن النقد الاجتماعي، الى الموت والحياة، واختيارات النساء تحولات الأزواج. وأثر الزمن على العلاقات بشكل عام.
بالرغم من وجود الخصوصية النسوية، إلا أن الاطلاع على المجموعة يخلص إلى أن الكاتبة انطلقت من نزعات إنسانية، جاءت النساء كما الرجال في سياق إنساني، بعيدا عن التقوقع في “نسوية ضيقة.
ثمة دلالات هامة، تشكل إضافة لكتابات الشابات الآن، ألا وهي أن منطلقاتهن تنحو منحى إنسانيا أكثر من الكاتبات فيما مضى؛ فقد كنا دوما نجد ظاهرة الأدب النسوي، الذي يركز على قضايا النساء كمهضومات الحقوق ومعنفات وغير ذلك. وهكذا فإنه عند استعراض القصص هنا، ولدى كاتبات عربيات، نجد أن القادمات اليوم أقل تعقيدا في النظرة الى أدوار النساء، بل إنهن، كما القاصة الأردنية سوار الصبيحي، تتعامل مع الذكور بشكل إنساني معبرة عن همومهم.
ولعل ذلك يعود الى ما قطعه المجتمع الأردني، (أم التجمعات التي وردت هنا) في مجال المساواة. كما أن التعمق في النصوص من منظور جندري، سيد تغيرا في النظر الى أدوار النساء بعيدا عن النمطية، أما ما جاء عنهن فقد جاء في سياق إنساني عميق.
أما ما هو أهم أدبيا، ونحن نتحدث عن الأدب العربي في الأردن الشقيق، وخاصة القصة القصيرة، فهو أن النصوص الحديثة هي أكثر إبداعا، كونه تنطلق إنسانيا، حيث تمنح الكاتبات (والكتاب) فرصة الإبداع الشكلي المنسجم مع نضج التعامل مع المضامين، بعيدا عن الاتهام والبوح والانفعال اللغوي.
وهكذا، باعتبار أن الأدب رسالة، فقد ساهمت تجليات الإبداع لتكون رافعة لما أثارته من أسئلة وجودية، وإجابات إنسانية العمق، وهو ما زاد من ثقة الإنسان هنا بنفسه، وبالتالي القراء والقارئات.
ست قصص من المجموعة، ستكون محور هذه القراءة، مضاف لها أربع أخرى، بواقع عشرة قصص من أصل 19 قصة احتوتها. ولعل السبب يكمن في تركيز القراءة، حيث أن القصة القصيرة، حتى وإن كانت ذات عدد قليل من الصفحات، إلا أنها عمل أدبي كامل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإننا ننطلق من تحيّز نقدي نحو تلك النصوص. وسيتم تنول كل واحدة من القصص على حدة بشكل أفقي على النحو:
“خطوة عزيزة”: واحدة من أهم القصص ليس للكاتبة فقط، بل لعالم القصة؛ بما احتوته من معنى عميق، حيث تصبح خطوة عزيزة البائعة المتجولة المرحة، قارئة النفس (الكف)، خطوات داخل نفوس نساء الحي، ورجاله أيضا، (وإن تم لهم ذلك بصمت وتقدير)؛ بسبب ما تثيره عزيزة من حياة.
“أم ضحكة جنان غوايشك فرح وخطوتك أمان”، صفحة 12، عبارة عزيزة التي لم تكن الرواية تحبها ولا تحب شكلها ولا غناءها، التي بدأت الحديث عنها بنفور، تصبح في ختام القصة مضمون العبارة المحبب، الذي يتعمق حضوره، في ظل غياب عزيزة، والتي يغيب معها الفرح والحيوية.
ترى ما الذي أحدثه حضور عزيزة وغيابها؟ وهل من رمزية تحضر هنا؟
لم تكن عزيزة سوى بائعة متجولة لها قدرة التواصل مع زبوناتها، وهي كامرأة، ومن خلال هذا التواصل الممتد في جغرافيا سوقها المتنقل، فإنها، وهي تقرأ نفسها، صارت تقرأ النساء، فتتضامن معهن، زارعة الأمل، فحتى وهي تقرأ الكف، وتمنح النصيحة، فإنها من الذكاء حين تطلب من النساء أن يؤمن من دواخلهن أن حاجاتهن ستتحقق.
هل هو الأمل بتحقق ما تصبو لهن النساء من حب واهتمام وسعادة أسرة؟
وصفت الكاتبة بإبداع أثر قدوم عزيزة على النساء، وكيف تدبّ الحيوية والفرح، حيث يصير اللقاء احتفالا للنفوس والأجساد ضمنا، ووصفت أثر انقطاعها الأول عن موعدها، ثم انقطاعها المتواصل، كيف تغيّر الحال، بانطفاء ليس عالم النساء بل المكان كله.
انسجم وصف الكاتبة لمظهر عزيزة، مع نفور الراوية منها في البداية، ثم فيما بعد الانقطاع، حيث يصير الوصف حميميا، وهذا ملفت للنظر، أبدعت الكاتبة فيه، كما أبدعت في ردود فعل بعض الناس تجاه انقطاع عزيزة، لكن المهم هنا هو ما حدث من حزن عميق لدى ابنة الحلاق، وزوجة صاحب المقهى، بما يمكن أن يوحي ذلك بوحدتهما وانتظارهما، بما يصور ما تعانيه النساء من وحدة وانتظار للفرح. وربما تحتمل القصة بما يتجاوز ذلك بالنسبة لعالم البشر.
“المنبه”: قصة تذكرنا بالأدب العميق والراقي، في السرد النفسي المعمق والساخر عن فئة من الناس، تتمحور حياتهم حول الوظيفة، فتصير حياتهم، وتسلبهم بالتالي حياتهم.
كثفت القاصة نفسية هؤلاء من خلال عبارة “عن ذهن رجل لا يحفل به إلا المنبه”، ص 17، ذلك أن هذا الموظف المتفاني في الالتزام لأجل رضا المسؤولين، والحصول على الاهتمام وبالتالي الترقية، يكاد ينسى الكثير مما يتعلق به هو من حياة، لدرجة أن يصبح وقد احتل عمله حياته في الوعي واللاوعي، لتأتي المفارقة أو الدهشة أو لعلها الصدمة، فهو المبالغ بهذا السلوك، ينفعل ويتوتر لتأخره قليل من الوقت لعطل أصاب سيارته، يكتشف وقد اقترب من مكان العمل أن اليوم هو يوم إجازة. وهنا يصحو ليس على يومه فقط، بل على حياته التي ليس فقط لم يحتفل به أحد غير المنبه، بل أنه هو نفسه لم يحتفل بها.
“المذنب”: من أروع القصص التي فيها نقد حاد للمنظومة، بما في ذلك من فجوة الحاكم والمحكوم، بدءا بمديرة المدرسة، في قرار طرد العاملة أم سعيد، التي تدفعها معلمة إثر تخويف طالبتها لها “بصرصور”، فيتسبب ذلك بانسكاب الماء المختلط بالصابون، الذي تتزحلق به المديرة وتقع مصابة.
لا يجدي تضامن المعلمات معها على حذر بالطبع، فتؤول شكاوى العاملة للمسؤولين طيّ عدم الاهتمام والإهمال، فتعرض عليها الطالبة الجامعية، ابن الجيران، بنشر قصتها في وسائل التواصل الاجتماعي، لتبدأ بعدها تحولات المسؤولين، باتجاه الاهتمام وعرض المساعدة، في الوقت الذي لا تطلب فيه “أم سعيد” إلا الرجوع الى عملها. وفي ظل تظاهر الناس، تظهر مبررات المسؤولين الذين لجأت لهم في البداية، وصولا الى التضحية بوزير العمل، حيث تطلب منه الحكومة الاستقالة حرصا على اكتساب الرأي العام.
ولعلنا هنا نأتي على ذكر قصة “ميديا ثيربي”، والتي تنتقي الفتيات من حياتهن ما يمنح التميّز، حتى ولو كان عبر الادعاء أو التمثيل، أو إخفاء ما يمكن من خلال “فلترة الصور”، بما يرمز الى “فلترة” ما يردن إظهاره، أما ما يجمع هذه بقصص أخرى، فهي التأثر الواضح شكلا ومضمونا بعالم التواصل الاجتماعي.
“قهوة بالسكر”: تمثل هذه القصة أثر حالة انتظار نتيجة فحص طبي تتخوف صاحبته من إمكانية الإصابة بمرض ينهي الحياة، باتجاه تقديرها العميق للحياة، بتجليات مستقبلية، تنوي فعلها إن ظهر المرض أو ما ظهر: الاهتمام بابنتها، الاستقلالية والتحرر، ثم لتمر على عديد من الأفعال التي يعني استحقاق الحياة، وأن هناك الكثير لنفعله قبل فوات الأوان، على المستوى الشخص والإنساني. وكل ذلك تحت تأثير “بدء حياة المرض او الاستعداد لانتهاء الحياة”.
تلك هي القصة، وهي على هذا النحو مكتملة فعلا، لكن اختارت الكاتبة الصبيحي بأن تلعب قليلا بتقنية النص، من خلال أسلوب مشوق، حيث يظهر أن الأمر يتعلق بكاتب، وهو”الرجل ذو القميص الأبيض وربطة العنق الصفراء” الذي ظهر في القصة كمتردد على عيادة الطبيب، حين نكتشف في النهاية أنه من يكتب القصة، وأنه هو المصاب بالمرض. إننا إزاء السارد والمسرود، فالأدب من الحياة، فإذا كان من الممكن والمحتمل الإصابة بالمرض المميت، فإن ما هو أكيد أن الموت يطال الناس جميعا، لذلك من المهم التأمل بهذا الفراق القادم، والذي يقودنا ليس نحو الاستمتاع بالحياة، بل والالتزام الإنساني الوجودي تحديدا.
“سندريلا”: عجيب ما تفعله بضع سنتيمترات بروح امرأة” ص 24، تكاد العبارة المكثفة تختصر التاريخ النفسي للنساء. لا تدور أحداث القصة على تعلّق امرأة القصة، السندريلا المتولدة، بالحذاء الأنيق، بقدر ما يتعلق برؤيتها تجاه الحياة.
شوقت القاصة سوار الصبيحي القراء، من خلال الاستغراق في تصوير شغفها بالحذاء وإمكانياته الهائلة في إبراز الأناقة، كذلك في سلوكها النفسي والاقتصادي، وهي توفّر يوميا على حساب قوتها.
بالرغم من تحدي ما هو ممكن إضافته، فإن القصة مشوقة ومؤثرة، خاصة في توظيف مسألة مناسبة قدم سندريلا الأصلية للحذاء، ومناسبة السندريلا الحديثة، فقد وفرت المال الضئيل لأجل شرائه، لكنها تفقده في الفاترينا، ليمرّ وقت وتجده صدفة، فتعلم أن خدشا ما حدث به جعلت صاحبته تزهد به، فتصبح في حالة تفاوض لأجل شرائه بمال أقل، لكنه وقد صار بإمكانها الامتلاك وتلبية شغفها، تزهد به، لتلوذ بالحذاء الذي تربطها به حميمية.
كل بما يريد من دلالات، وما رأى، لكن ثمة أمر هنا مختلف عن سندريلا القديمة، يتعلق بخيار الجديدة، والتحول الذي يطرأ في شخصيتها، من امرأة المهيأة لأمير معجب بجمالها، إلى امرأة تشعر بذاتها، باتجاه تخليص نفسها، لتحقيق تصالحيتها.
“لو أن”: قصة مشوقة فعلا، برصد أثر تحولات الزمن وأثره جسديا ونفسيا، حيث نجد سارة وسليم، الزوجين، يستنطقان بعضهما بعضا، لكن من خلال مونولوج داخلي، يبوح كل منهما من جهة، بما لديه من ملل زوجي ما، نتيجة تغيرات المرحلة العمرية، وما يراه من تغير في شريكه، ولعله من جهة أخرى يكون في حالة قراءة ما في نفس الشريك، حيث يتبدد وهم التواصل الافتراضي، وما يرتبط به من وهم، وبالتالي تقوية بقائهما معا.
يرتبط بهذه القصة، أو لعله العزف على مضمونها، ثلاث قصص من المجموعة هي: “وقفة قد تطول”، و”خلاص” وإشارات منتظرة، تتعلق جميعا بتحول العمر، والعلاقات بين الأزواج. ربما لأختتم بنص المريض، حيث نكتشف في آخرها أن الطبيب يعاني من الأوهام، وأنه كان يتردد على أحد المرضة النفسيين للاستشفاء.
في الأسلوب:
اختار الكاتبة القصص ذات الصفحات، أي القصة القصيرة، وليس القصيرة جدا، ولا قصة الومضة أو المشهد، فجاءت القصص المبحوثة وغيرها، وقد جاءت متقاربة الطول، دالة على امتلاك الكاتبة لنفس طويل لكتابة القصة القصيرة، تمكنها من الاستمرار و/أو الذهاب الى عوالم السرد الروائي.
ونحن إزاء قصص سوار الصبيحي، لربما من المهم الإشارة السريعة ذكاء الكاتبة، في بذر بذور إشارية عبر الحدث، يؤشّر للقارئ، ليكمل المشاهد عبر تعبئة فراغات تركتها الكاتبة بذكاء، بل وليس هذا فقط، بل تترك لنا لنضيف تفاصيل أخرى تعزف على اللحن الأساس.
لفت نظرنا الى أسلوب السرد، الذي يبدو محايدا حينا، ومتعددا حينا آخر، وتلك ميزة لكاتبة شابة، تختار تعدد الأصوات، ربما تحت تأثير “دمقرطة ما” اجتماعية، حيث يقل كثيرا الانحياز لشخصية على حساب أخرى.
اللغة: خدمت عادية اللغة النصوص بعيدا عن الجماليات والثقل الكلاسيكي ذي البلاغة التقليدية والمحسنات التقليدية، بانحياز للأحداث بحد ذاتها كونها أساس القصّ.
القاصة سوار الصبيحي
*كاتبة أردنية من مواليد ١٩٩١، حاصلة على شهادة البكالوريوس في اللغة الفرنسية وآدابها، وشهادة الدبلوم في الترجمة التحريرية والفورية. وهي حائزة على جائزة الدولة التشجيعية للآداب لعام ٢٠٢١- مجال القصة القصيرة، وعلى جائزة الأردن الأفضل/ فئة الكتّاب الشباب لعام ٢٠١٣.
صدرت مجموعتها القصصية الأولى (الماتريوشكا) ٢٠٢٠ عن دار أزمنة للنشر والتوزيع. وطبعتها الثانية عن “الآن ناشرون وموزعون” في عمان. وقعت المجموعة في 136 صفحة من القطع المتوسط.
• تحسين يقين ناقد من القدس>
• عن مجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية>