رشيد عبد الرحمن النجاب
وأنت تقرأ الصفحات الأخيرة من رواية “المنسي” للشاعر والروائي سميح مسعود ستدرك أن الروائي مسعود قد وفى بوعده لصديقه الراحل فاضل عبد الله الرشيد، ابن البصرة وصاحب التاريخ النضالي المجيد في العراق وفلسطين، ولم يتركه منسيا، فمن خلال نحو مئتي صفحة من القطع المتوسط، والصادرة حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون”، رسم سميح مسعود للقارئ معالم هذه الشخصية ومنشأها، والظروف التي أحاطت بنشأته، والمرجعية المشبعة بنفس عروبي مسترشدا بسيرة والده التي حرص على تدوين يومياتها، وتقديمها لابنه لتكون الدرس الأول في نشأة عروبية آتت أكلها.
فالشاب الذي نشأ على تقدير الأرض، والنخل والسعي إلى عراجين البلح في موسم القطاف، نشأ مقدرا لهذه الأرض ، ساعيا بجد واجتهاد وتضحية للحفاظ عيها، مستصغر ا في سبيل ذلك من شأن الرتب العسكرية والنياشين التي نالها بحكم دراسته العسكرية، واضعا نصب عينيه مستقبل العراق واستقلاله وعزته، وقدم في سبيل ذلك أقصى ما يستطيع من التضحيات، وشهدت القدس أن فاضلا من البصرة كان في حمايتها وانها ودعته وفي قلبه غصة من إخفاقه في حمايتها ومن ألم فراقها بعد أن ودع رفيق سلاحه القائد عبد القادر الحسيني الذي استند إلى صدره وهو يسلم الروح. كان يفترض أن يتسلم فاضل راية الجهاد إلا أن العصبيات ضيقة الأفق أبت حكم المنطق وولت الأمر لأحد أبناء العائلة (الحسيني).
تشكلت الرواية من جزئين وإن لم يكن بينهما حد فاصل، يمثل الأول تعريفا بحياة بطل الرواية فاضل عبدالله الرشيد وهذا هو اسمه الحقيقي، منذ أن ولد إلى أن عاد والده من الخدمة العسكرية في الأستانة برتبة قيادية متقدمة إلى البصرة مسؤولا عن القوات العثمانية في المنطقة، حيث واجه الأسطول البريطاني القادم إلى العراق، وقدم روحه فداء لوطنه إلى أن عاد فاضل نفسه من فلسطين بعد أن أدى واجبه في الدفاع عنها، بينما يمثل الجزء الثاني سير العلاقات بين فاضل عبد الله الرشيد و الروائي مسعود في الحقبة التي التقيا فيها في العمل في مؤسسة واحدة واللقاءات التي جمعتهما معا ، كان السرد بصيغة الغائب في الجزء الأول بينما كان بصيغة المتكلم وهو الكاتب نفسه في الجزء الثاني
لعل أبرز ما شكل معالم الجزء الأول هو ذلك الوصف الحي لرحلة عودة الأب عبد الله الرشيد من الأستانة مشحونا بعاطفة الشوق للقاء عائلته سيما ولده فاضل الذي لم يره منذ ولادته، وكيف يمكن للكاتب العاشق لحيفا، المولود فيها ان يفوت فرصة مرور الضابط العائد إلى وطنه بحيفا ووصف شوارعها ومعالمها والمرور خصوصا بعكا التي صمدت في وجه نابليون، كم للصمود من قيمة في هذا المقام؟ ضابط عائد من جيش الدولة العثمانية المحتضرة، يترصد بها سايكس ورفيقه بيكو، وتتأهب دولتاهما للانقضاض على تركة الرجل المحتضر، وتستعدان لوهب ما لا تملكان إلى من لا يستحق. مشاعر التوق إلى التحرر من حكم جائر وجاهل استطال حتى جاوز خمسة قرون، والـتأهب لمواجهة عدو محتال يعد بالمساعدة بالرغم من نواياه المترصد المستعدة لنهب خيرات البلاد ونفطها.
باقي الرحلة فيها وصف للبلاد وسنابلها وخيراتها وحتى صحرائها الواعدة بالنفط، والتحديات القادمة، “دولة دراويش زائلة”، والكل راغب بزوالها، ودول متأهبة للانقضاض على البلاد وأهلها، وعبودية متجددة في القرن العشرين، وسؤال يبرز وإجابات على طول الطريق هل نقف مع بريطانيا ووعودها، وإجابات يغلب عليها الجهل الذي زرعته الدولة المنهارة ، وبضرورة الاستعانة ببريطانيا، وتوعد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس “بفرك البصلة في عيونها” إن هي أخلفت في وعودها، وقد فعلت ولم تجد من يفرك البصلة، ولا حتى البصلة التي باتت من الكماليات حتى قالوا في المثل “وش عليه حمد، ياكل مع الرز ابصلة”.
لكن عبد الله الرشيد كان له رأيا مخالفا، ترجمه بالتصدي للأسطول البريطاني المتأهب لرحيل الرجل المريض، كونه لم يؤمن بنظرية “البصلة” .
نشأة فاضل بعد رحيل والده المُشرّف شكلت حيزا من الجزء الأول كذلك فقد اختار العسكرية مستقبلا رغم أن والده منحه الخيار لدراسة الطب أو الهندسة، ورغم أن الكوادر العسكرية فيها الطبيب والمهندس والصيدلي إلا أن هذا ربما كان غير مألوفا في ذلك الوقت، فالعسكري هو العسكري، ومال فاضل لهذا الخيار وتخرج في الكلية العسكرية ملازما ثانيا، وساهم المدرسون في الكلية العسكرية برغم الاحتلال البريطاني في زرع بذور الوعي الوطني في طلابهم، وشحذ هممهم للعمل من أجل الوطن، وشدته الحركات المقاومة الساعية لاستقلال العراق ودخل إذ ذاك في سلسلة من المعاناة في مواجهة المحتل البريطاني أترك للقارئ سبر تفاصيلها عبر النص.
ومثل نضاله في فسطين تحت لواء القائد عبد القادر الحسيني معالم المشاهد الأخيرة من الجزء الأول بصحبة أنطونيو التلحمي وآخرين، فبذلوا في دفاعهم عن القدس جهودا صوّرَ الكاتب صورا بهية من معالمها في رواية أخرى له بعنوان “أنطونيو التلحمي رفيق تشي غيفارا” ولكنه لم يتطرق لها هنا لأنه لا يود أن يكرر نفسه.
ينتقل الكاتب في الجزء الثاني إلى وصف علاقته بفاضل الرشيد، واللقاءات والرحلات المشتركة التي تخللها الكثير من الحوارات التي وصفت حياة فاضل عبد الله الرشيد بعد أن انتقل إلى حياة المال والأعمال انطلاقا من البنك العربي، دون أن يؤثر ذلك على مفاهيمه ومعتقداته، وفيها إشارة إلى تحفظه على المشاركة في أنشطة المنظمات الفلسطينية لأسباب سوف تظهر للقارئ دون البحث بين السطور، وفيها إشارة إلى اللقب الذي اتخذه الكاتب عنوانا لهذه الرواية “المنسي”.
بقي أن أقول إن الكاتب قد حشد هذه الرواية بالمعرفة، المعلومات التي هي طابع مميز لكتابات سميح مسعود، والتي تخلق عالما من التشويق الذي يشد القارئ لمعرفة معلومات تحمل الجديد دوما، تتسلل إلى النص برشاقة يشعر معها القارئ أن هذا هو المكان المناسب لتقديم هذه المعلومة، كيف يكون في البصرة ولا يتحدث عن سبب تسمية العراق ب “أرض السواد” وهي الأرض المعمورة بالنخيل وبالزرع يصل إليها المسافر عبر الصحراء القاحلة خضراء بالنخل وبعراجينه، وبالمزروعات الأخرى.
وفي حدود البصرة كانت معركة الجمل، وكل ما يحيط بها من جدل، وفيها أيضا الحسن البصري ومجلسه الذي اعتزله واصل بن عطاء، وتأسست بذلك فرقة المعتزلة، والتي دعمها الخليفة المأمون لفترة من الزمن، المعتزلة التي كان الجاحظ قائدا لفرقة منها تميزت بفكرها النير الداعي لتحكيم العقل في معالجة المسائل المختلفة.
وبالقرب من البصرة ثمة بلدة “جيكور” هي مسقط رأس الشاعر العراقي المجدد رغم أنه لم ينفك من قيد القافية نهائيا إلا أنه أضاف للشعر العربي جماليات جعلت له مكانة مميزة في الشعر العربي في القرن العشرين. سيما قصيدته “أنشودة المطر” التي مطلعها
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ.
إلى أن يقول:
ودغدغت صمت العصافير على الشجرْ
أنشودةُ المطرْ…
مطرْ…
مطرْ…
مطرْ…
تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثِقالْ.
ولم أجد خيرا من الشعر اختتم به رواية الشاعر سميح مسعود الذي وفى بالوعد ليس لصديقه فحسب، بل لقرائه أيضا حيث وافاهم بالمستجد من خلال إلقائه الضوء على شخص بهذه الشمائل العروبية الأصيلة.
نشر في (الاتحاد)
07/10/2022