“المهندس” لسامر المجالي

“المهندس” لسامر المجالي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    دانا جودة

    لأي مدى يشبه الإنسان مدينته! أو لأي مدى تشبه المدينة ساكنيها.
    لطالما كانت تلك العلاقة الشاعرية ما بين المبنى وعصره، وما بين الإنسان والمبنى من أعمق العلاقات التي تحتضن الهوية والتراث، وكم من السهل على الزمن الوشاية بشاعرية تلك العلاقة. قد يكون ذلك إحدى أسباب اهتمامي بتصوير تشققات المباني أو تشكلات الحجارة ونقوش الأبواب القديمة. فما أقوم به حقيقة هو التقاط بورتريه شخصي للزمن، للوقت الذي مرّ على القصص المحفورة في جوف جدار والمحشورة بين تشققاته.

    لكن المدينة تتغير،
    وتضعنا في اختبار دائم لمدى قدرتنا على فهم التغيرات التي تواجهها.

    كنت قبل وقت قريب، أمشي كعادتي كل مساء. أجد بالإضافة للمشي رياضة بصريّة وأنا أمرّ من أمام بيت مصمم بأسلوب إسباني، وآخر بجانبه عصري التصميم، ومقابله فيلا تغطي واجهاتها ألواح خشبية مصممة لتعطي طابع الحديث والريفي معًا.
    مشيت أكثر إلى أن وجدت نفسي بشارع تصطف فيه بنايات سكنيّة، ومع أن الشارع يبدو منفصلا عما قبله، حيث كنت، إلا أنه جزء لا يتجزأ من المنطقة. تطلّ من هذه البنايات شرفات دائرية، وأخرى مربعة وبجوارها أخرى زجاجيّة. تطل كل شرفة على الأخرى باقتحام صارخ لخصوصية الأخرى، وكأنها تباهي بنفسها ورحابتها الأخريات، حتى أن كل بناية لم تنتبه إلى أن جمالها قد بهت وقد اختلطت بجميلات أخريات، فخلق ذلك للرائي مشهدا مزدحما، مليئًا بتفاصيل متباينة بعيدة كل البعد عن التناغم، فكانت ذات تكوين مشوّه ومُربك. ليس فقط ضمن الشارع الواحد، بل كأن كل مربع سكني مدينة..

    قد تكون هذه أقرب إجابة لكيف نختبر قدرتنا على فهم التغيير؛ أعتقد أننا إن تأملنا في وصفنا للشيء بأنه “جيّد” فإننا بذلك نصفه بالجميل، فوصف الجيّد يحتوي على مفهوم الجميل. بينما مفهوم الجميل لا يعبِّر بالضرورة عن مفهوم الجيّد. نستطيع أن نلحظ ذلك بوضوح في كل تصاميم العمارة الحديثة والتجارية، في طريقة البناء، في نوعية المواد، في مدى التناغم والتنافر مع ما حولها، في توزيع المساحات وأيضا في فرض الذائقة الشخصية والتي قد تتنافر مع المحيط.
    وللتوضيح؛ عندما أصف أي عمل من أعمال التصميم المعماري بالجميل، فهذا اعتراف مني بأنّه يعبّر عن قيم أراها بالغة الأهمية وبأنه تجسيد لما لدى الواحد منا من مُثُل، لكن من خلال وسيط مادي.
    في كتاب تولستوي عن “ماهو الفن” يذكر أن أعلى جمال ندركه يكون بالطبيعة، وتحديده يكون وفق نظام الأجزاء وعلاقتها المتبادلة ببعضها، وأن تقليد الطبيعة من مهام الفن السامية.
    إذا أردت أن أسقط هذه العبارة على المدينة الآن، فسيتضح لي فورًا سبب نفوري من جمال العمارة. وأول سؤال سيطرح نفسه بقوة هو لأي مدى سيتفشى هذا الاستهلاك الذي يغزو العالم على المستوى المعماري، والذي بلا شك هو يعكس في علاقة طردية رؤية الإنسان لذاته بحيث أصبح بديلا وليس معادلا. نرى الآن المعمار الذي ينطح السماء ويشق وجوده بالحجر والمعدن والاسمنت إلى الأعلى.
    فما معنى هذا الاتجاه المدني المعماري بعلاقتنا مع الطبيعة، هل كلما تفشى هذا الامتداد والتطاول عموديا كلما انتهك ذلك المقدس في الطبيعة الإنسانية!
    ومع ذلك، فإنني أعزو أي تشوه بصري إلى أنه بالنهاية سمة في العصر الحالي. وأن هذا يعود إلى طبيعة علاقة المباني بعصرها وبالتالي علاقة الانسان بالمدينة. لكن ما يلفتني أكثر وأجده محزنا، هو مفهوم المحو والإظهار في المدينة، ولا أقصد بذلك محو القديم وإظهار الجديد، بل محو القديم وإعادة خلق القديم من الجديد!
    وهنا العقدة، فالقديم يصعب خلقه واصطناعه لسبب واحد.. هو أن عامل الزمن فيه مفقود، بكل ما يتسع له مفهوم الزمن.
    قد تجيب هذه الفكرة على كثير من التساؤلات والتحولات في داخل الإنسان، ساكن المكان، حول معنى الاغتراب والملل والهشاشة والنفير الجمعي المسعور نحو التصنع، والتكلف والتنافس الذي يؤدي، وياللمفارقة، للتشابه!
    كلها سمات إنسانية، يفرض الاتجاه المدني المعماري نفسه فيها.

    في رواية “المهندس” لسامر المجالي، نستطيع بوضوح أن نفهم شخصية فراس، المهندس الذي كان يعاني من اكتئاب وانفصال متذبذب عن واقع لم يكن ينسجم معه، على الرغم من أنه كان يصنعه ثم يعود ويخضع له.
    شخصية طبيعية كبرت وترعرعت في أجواء صحية فلا مشاكل تُذكر، ولا صعوبات استثنائية، ومع ذلك، قد يكون كونه مهندسا دفعه لأن يكون الأقرب لحالة الشتات والتأثر التي تمر بها المدن، إن كان في مدينته “عمّان” بداية أو في مدن خليجية صناعيّة تُباهي العالم بمظهر بنيانها وطول أبراجها. لكنه عرف.
    عرف مدى هشاشتها الداخلية وهي كشفت بدورها مدى هشاشته الداخلية، عرف واعترف حين قال: كم أن أبنيتنا تعكس طباعنا وطريقة تفكيرنا. لكن كلاهما: “المهندس والمدينة” شارك في اللعبة. لعبة الإغواء والعيش في فقاعة البرج العاجي، فما كان إلا أن سقطا معًا.
    قد يرى المعماري أو من لديه حسّ هندسي بأن العمارة فنّ،
    وقد يكون ذلك بسبب اطلاعهم على التفاصيل التقنية واستغلالها بذكاء في خدمة المظهر الذي يتطلبه العصر. ولكن ماذا لو كان البناء بشع التصميم، برأينا نحن غير المتخصصين؟ فهل يكون تقييمنا لهذا البناء تبعا لمفهوم الفن أم لمقاييس الجمال؟ هل يكون فاقدًا لهدف الفن أو فاقدا لأثر الجمال؟
    وهنا تأتي حاجتنا لتعريف الجمال، وأتحدث هنا عن جمال المدينة وتناغم العمارة.. ومحاولتي لتجاوز مالا يعجبني في فكرة تمييع الطابع العمراني الخاص بالهوية.
    يجيب المهندس عمر على ذلك في حواره مع صديقه فراس: “لقد فقَدَت المدينة الطابع البشري”.
    اتفق مع عمر أكثر من صديقه فراس، الذي كان يُقيّم الحياة بمنظور هندسي رياضي صرف، بعيدا عن الحس الإنساني.
    ففي عالم يفيض بالقيم السائلة الافتراضية، فإن العمارة التي لا تدعوك لبناء علاقة حميمة معها تبقى عقيمة إلى الأبد.

    قد تكون هذه إحدى القراءات فيما يخص العمارة التي نسكنها يوميا، والتي أصبحت تسكننا بشكل غير مُدرك أو غير مراقب. وهل إن راقبناها وأدركناها سيكون باستطاعتنا الهروب من براثنها؟
    من أنا في كل هذا الاختلاف! أو أين أنا من كل هذا التباين تحت المسمى الواحد!

    هذا التعانق المشترك بين الطبيعة والمدينة، هل سيتنافر أم سيتناغم في حال فهمته أو استطعت أن أجيب على تساؤلاتي!
    أم أننا جميعا سنظل نتشرّب شيئا من هذا الانصهار في العلاقة!

    والأدهى أنه على الرغم من أن لا علاقة تربط المباني ببعضهم أو أجزاء المدينة ببعضها إلا أنها ستبقى تعبِّر عنا!
    العمارة هي صورة “سيلفي” جماعيّة شِئنا ذلك أم أبينا