الناقد مصطفى الضبع يعاين “سردية الأشياء”

الناقد مصطفى الضبع يعاين “سردية الأشياء”


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    يقدم كتاب “سردية الأشياء” للناقد المصري د.مصطفى الضبع نظرة جديدة على فاعلية الأشياء في تأثيث الحكايات، حيث يرى أن تحقق وجود الحكايات – وإن كان مرتبطاً بالإنسان وحضوره في سياقها – فإن الإنسان لا يستأثر بذلك الحضور ولا يستطيع وحده منح الحكاية قيمتها أو إيصال رسالتها الإنسانية دون مساعدة من عناصر متعددة، يأتي في مقدمتها الأشياء التي تملأ الكون، وتفرض حضورها على الإنسان، وتحقق وجودها عبر وجوده، وتعمل على تطوير نظرته للحياة حين تتطور في ذاتها مستهدفةً تطوير حياة الإنسان نفسه.

    ويرى الناقد في كتابة الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون”، أن الأشياء تقف شريكاً فاعلاً للوجود الإنساني، حيث لا وجود للإنسان دون الأشياء أو بعيداً عنها، ويشير إلى أننا “لا يمكننا تصور حياة الإنسان دون أشياء يعتمد عليها في كل تفاصيل حياته، فالسيارة والقطار والقلم والهاتف والأوراق والصور والبندقية والسكين والمقعد والباب والنافذة، جميعها أشياء لا يتوقف دورها على مجرد شغل حيز من الفراغ”.

    ويوضح الناقد في سياق متصل أن الأقرب إلى المعقول أن نسمّي كل ما تجرد عن الحياة -سواء في الطبيعة أو في محيط الاستعمال- باسم الشيء، كأن يكون كتلة من الصخر، أو قطعة من الخشب، أو كومة من التراب، وهكذا “نكون قد خرجنا من المملكة الواسعة التي سمينا فيها كل موجود باسم الشيء، كما تركنا ما سميناه بالأشياء في ذاتها وأردنا به أسمى الموجودات وأبعدها في الخفاء، لنعود إلى أفق ضيق كل موجود فيه لا يزيد عن كونه (مجرد شيء)، وكلمة (مجرد) هنا قد يُراد بها الشيء المحض”.

    ويوضح أن النص عندما يحكي فإنه يحكي عن الإنسان في محيطه الحيوي، ذلك المحيط المتضمن الإنسان وأشياءه، ويرصد العلاقة القائمة هناك بين البشر وأشيائهم، وبين الأشياء ووظائفها وقدرتها على تصوير راهن الحياة، وتشكيل ثقافة الإنسان، وجغرافية الفضاء الحكائي ومن قبله الفضاء الإنساني، مؤكداً أن هناك الكثير من النصوص السردية التي رصدت الأشياء متحركة بين مفهومين: أشياء الحكاية، وحكاية الأشياء.

    وبيّن الناقد أن المفهوم الأول يعني أن الأشياء تستمد منطقيتها من وجودها في سياق الإنسان، ومن تحققها في سياق الحدث، ومن منطقية شغلها حيزاً من الفراغ، فما دام هناك بشر وأحداث وحياة فهناك أشياء، وفي المفهوم الثاني تستقل الأشياء في وجودها لينشغل الحكي بطرح حكاياتها الأكثر فاعلية، ويمنحها بعض المساحات التي تنازع فيها الإنسان سلطتها لتكون موضوعاً للحكايات، وتدشن نفسها بوصفها سلطة سردية تجعل من البشر عناصر تدور في فلكها، وهي تحقق وجودها الزمني دون ارتباطها بزمن الإنسان.

    وخلافاً لما قد يبدو من عنف البشر – بحسب الناقد – تلتزم الأشياء حالةً من الصمت، وقدراً من المسالمة، وجانباً من الهدوء الداعي لاستشعار الجمال، مانحةً الفرصة للمتلقي لاكتشافها وإدراك مساحات العمق لصناعة دلالتها، ويقول في ذلك: “في لغتنا العربية لا نكاد نجد لفظاً يمكنه -تعبيرياً- أن يحل محل الألفاظ معظمها، وأن يقوم بدورها قدر ما يفعله لفظ الشيء مفرداً أو جمعاً، وربما كان لفظ (الأشياء) أكثر قدرة على التعبير عن الأشياء المتآلفة أو غير المتآلفة، ومن السهل أن نستخدم المفردتين للتعبير عن عناصر معروفة للمتلقي أو غير واضحة تماماً أو يكتنفها جانب من الغموض، عندها نقول هي (أشياء)”. وهذه الأشياء لا تكتفي بوجودها الواقعي الذي قد لا يعيرها البعض فيه أدنى فاعلية؛ فتأخذ في تحقيق هذه الفاعلية عبر النص الإبداعي حيث كل الأشياء لا بد أن تكون دالة وفاعلة.

    ويطرح الكتاب تساؤلات حول مدى هذه الفاعلية للأشياء، وإلى أيّ حد يكون لها هذه الأهمية في سياق النص، وهل يمكن دخول النص عبر مفاتيحه الشيئية؟! ويحاول الناقد الإجابة في كتابه عن هذه التساؤلات بأن النص الروائي العربي قد شكّل جغرافيته من أشياء بنى عليها معناه ودلالاته “للدرجة التي لا يستطيع هذا الكتاب أن يدعي لنفسه القدرة على الإحاطة بها أو التوصل لكل تقنياتها”. مؤكداً أن الكتاب “محاولة تنصت لصوت الأشياء في السردية العربية، مستنطقاً إياها، ناظراً إليها بوصفها تقنية وليست موضوعاً نصياً”.

    جاء الكتاب في مقدمة وتمهيد وثمانية فصول، تناول الفصل الأول “الدال والمدلول”، مؤكداً على دور النظريات النقدية الحديثة التي أعلت من دور المتلقي الذي يمتلك من القدرات ما يجعله يحسن التفاهم مع المبدع عبر منطقة تفاهم تُنُوزِعَ عليها، ويسودها المبدع الذي رفعت النظريات القديمة من راياته على النص بوصفه صاحب الحق الأول في المملكة (النصية)، والمتلقي الذي تجعله نظرية التلقي الأب الروحي للنص، ومنطقة التنازع وإن حملت نتاجاً معنوياً/ تخييلياً، فإنها تمثل وسيطاً يُعَدّ بدوره الأداة/ المساحة التي يبث فيها المبدع مجموعة الإشارات والأدلة والموجهات التي يستثمرها المتلقي في ممارسة دوره المنتظر، وهي مساحة ورقية (فضاء نصي) تعد مسرح اللقاء الذي يدخله المبدع والمتلقي متتابعين، يجتمعان في المكان ولا يجمعهما الزمان، يتأثر كل منهما فيه بالآخر وإن ظهر تأثير أحدهما متفوقاً.

    وناقش الفصل الثاني “الوظيفة من أشياء النص إلى نص الأشياء”، مشيراً إلى أن العين تعرض لنا الأشياء ونحن نراها عبر هذه العين، وإدراكنا لها يكون أعمق إذا ما أدركنا بداية من الذي يرى، وعندها سيتكشف لنا لماذا تبدو الأشياء مغايرة لما نعرفها عليه في واقعنا، ويقع الاتفاق على أن مساحةً ما (كبيرة أو صغيرة) تستقر بين ما نراه في واقعنا وما نراه في واقع النص من أشياء، وأن الصخور التي نراها في الواقع ليست هي الصخور التي تطالعنا في النص الروائي مثلاً.

    فالروائي – وفقاً للناقد – يبدأ من الواقع ولكنه لا ينتهي إليه، وإذا كانت نقطة انطلاق الروائي في التقاليد الواقعية هي عالم الواقع، فإن نقطة الوصول ليست هي العودة إلى عالم الواقع، بل إنها خلق عالم مستقل له خصائصه الفنية التي تميزه عن غيره، ولأن الكاتب يبدع شخصياته مستقلة بعالمها وإن اشتركت مع غيرها في مساحة هذا العالم، فإنه يستفيد من غيرية السارد في تحقيق هذه الاستقلالية، بحيث لا تتماهى شخصيته (الروائي) مع شخوصه، ومع هذا التعدد تتعدد زوايا رؤية الأشياء، مما يؤثر في طريقة عرضها وإدراك المتلقي لها.

    وفي الفصل الثالث، بحث الضبع في “المستويات الوظيفية للأشياء”، موضحاً أنه من الصعوبة بمكان أن نحصي الوظائف متعددة الأشياء خارج النص أو داخله، إذ يصاحب عملية رصد العلاقة بين الإنسان وأشيائه قدر من التعقيد الذي قد لا تفسره نظريات علم النفس، والعلاقة الروحية -أو شبه الروحية- الرابطة بين الشخصيتين: الأولى الحقيقية (الإنسان)، والثانية الاعتبارية (الأشياء) لا تخضع لقانون واحد أو عدة قوانين محددة يمكن خلالها أن نفسر هذه العلاقة الموسومة بالتعقيد.

    وفي الفصل الرابع “أشياء النص/ نص الأشياء” بين الناقد أن قراءتنا للأشياء عبر النصوص المعتمدة تتم بوصفها تقنية لا موضوعاً، حيث ننتقل مع الأشياء من الواقع الذي انتقلت منه إلى النصوص التي استقرت فيها، وهناك نوعان من الأشياء النصية التي ركز عليها الباحث، هي: أشياء النص، ونص الأشياء.

    ووفقاً للناقد؛ يطرح هذا التقسيم تأكيد قدرة الأشياء على أن تكون مفاتيح للنصوص وموجهات قراءة، وعوامل تكشف قدرات النص الفنية على توظيفها لهذه الأشياء، ويضيف بأن أشياء النص تعبير يمكن إطلاقه على النص السردي القديم حين ملازمة الأشياء للقصة، أما نص الأشياء فتعبير يمكن استخدامه مع النص الحديث، ذلك الذي لا تمثل الأشياء لديه موضوعاً قد يُحكى عنه أو هامشاً يتردد ملازماً للأفراد أو حكاياتهم بل ينطلق من كون الأشياء موظفة بوصفها تقنية لها حضورها الجديد.

    ودار الفصل الخامس حول “أشياء القصة القصيرة”، وفيه أن القصة لا تعتمد على شيء واحد أو على عنصر شيئي واحد، كما أن العنصر الواحد لا يستقل بالحضور بل يخلق الشيء مجالاً حيوياً يعتمد على تناغم بين عدد من العناصر الشيئية، وهو ما يبدو واضحاً في كل القصص التي ليس بإمكانها أن تخلو من الأشياء، وبخاصة تلك التي تستعيد شخصية تاريخية للحلول في لحظة تاريخية حاضرة.

    وتناول الفصل السادس “أشياء نجيب محفوظ (الصورة)”، مبيناً توظيف نجيب محفوظ للأشياء ولغيرها من عناصر السرد، حيث يعد نجيب محفوظ بمثابة النموذج الأعلى للسردية العربية عبر عصورها المختلفة، فالسردية المحفوظية تشكلت وفق منظومة سردية فريدة خارج التنافس على مستويات فنية متعددة تمتد من اللغة إلى التصوير ومن المضامين إلى طرائق التعبير، ومن التشكيل الجمالي إلى توظيف العناصر المتعددة للسرد والقدرة على تشكيل العالم المسرود.

    وفي الفصل السابع “بلاغة الأشياء في رواية القدس”، يؤكد الناقد أن القدس جزء لا يتجزأ من وعي الشخصية العربية، وهي تمثل حالة روائية شديدة الخصوصية، تتجاوز كونها مدينة يمكنها أن تحتضن حدثاً روائياً أو تكون مسرحاً لأحداث روائية أو مساحة من الرمز تفرض نفسها على أقلام كتاب الرواية عربياً وعالمياً، فهي حاضرة في كل ما يكتبه الروائي العربي عن فلسطين أولاً وعن الكيان العربي ووجوده ثانياً، وتفرض وجودها حين مقاربة قضايا الذات العربية ومواجهتها قوى الاستعمار في العصر الحديث، إنها “رمز عابر للنصوص والأزمنة، مستقر في وعي الكاتب العربي عبر العصور وعلى امتداد جغرافيا الوطن العربي”.

    ودرس الناقد في الفصل الثامن الأخير “مدونة سهام العبودي السردية”، موضحاً أن نصوص الكاتبة تشكل لوحة سردية تشبه الحياة في جوانبها الحيوية، وتقارب الحياة في فهمها لها، وتقاوم القهر بكشفه والوقوف على أسبابه محاولة لتطوير الإنسان المؤمن بوجوده في عالم يحد من هذا الوجود، ويضيف: “إنه وعي الأنثى بالتفاصيل، فالأنثى تستشعر الجمال في تشكيل الأشياء وانتظامها، والساردة تفسح المجال للمتلقي لاستشعار الجمال، الأنثى قد تصنع الجمال إرضاء للذات”، مشيراً إلى أن الساردة تصنع الجمال تنبيهاً للمتلقي بأهمية وجوده أولاً، وقيمته ثانياً، وما بينهما ينشأ كيان نصي جدير بأن نتابع نتائج عمله ومخرجات مخططاته وما يقيمه أمامنا من عالم له طبيعته الجمالية وله دلالاته الإنسانية.