أحمد الشيخاوي
إن كتابة الرواية التاريخية كتابة عصيّة، ولا تتسنّى لغير المتمكن من أدواتها، البارع في ترتيب أحداث التاريخ، بما يتيح كتابة جديدة للتاريخ نفسه، خاصة ونحن نعلم أن هذا الأخير، إنما يكتبه المنتصر.
وهذا صلب ما ركّز عليه الكاتب الأردني تامر راضي، بحيث أفلح في كتابة تشويقية لحقبة تاريخية عربية معينة، والجميل أنه أسسّ منجزه هذا، والذي عنونه «ال«وبّاص»»، نسبة إلى أحد شخصيات البطولة درجة أولى، في الرواية، وهو ملك جبار عانت من بطشه وجبروته قبائل ومدن شتّى.
لقد بُنيت الرواية الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون (2018) على أنقاض المجالس والمسامرات المنكَّهة بالحديث عن النساء، فهنّ الحافز بعد السلطة والمال، لنقش الركائز أو الدعامات في كاريزما التغطرس والطغيان. يقول الرواي على لسان «ربيع»: «شرّهن نحيفة الجسم قليلة اللحم، الممراض المصفرة العسرة، سريعة الوثبة كأن لسانها حربة، تضحك من غير عجب وتبكي من غير سبب، كلامها وعيد وصوتها شديد، كثيرة الدعاء قليلة الإرعاء، تأكل لمّاً وتوسع ذماً، تبكي وهي ظالمة وتشهد وهي غائبة، قد دلى لسانها بالزور وسال دمعها بالفجور، ابتلتها الآلهة?بالويل والثبور وعظائم الأمور. أما أحسنهنّ يا قوم: فضحوك الثغر، جميلة من بعيد مليحة من قريب، شريفة في قومها وذليلة في نفسها وأمينة لبعلها، ملساء اليدين، ردماء الكعبين، ناعمة الساقين، حمراء الخدين، كحلاء العينين، زجّاء الحاجبين، لمياء الشفتين، بلجاء الجبين» (نص «الجوزل»، ص12).
تُستهل الرواية بعودة «شيحان» الملقب بـ «لجوزل»، أي صغير الحمام، إلى مدينة «الحرجف»، مستغلّاً غياب زعيمها «الغازي»، من أجل فتح حوار مع «الجاسم» (شقيق «الغازي»)، اتسمت فصوله تدريجياً بتأليف القلوب وترك الضغائن والحسابات وتنويم هواجس الثأر الدفين، خاصة وأن «شيحان» يُعَدّ العدو اللدود لأهل هذه المدينة بعدما عاث فساداً في الأرض، وهتك العرض، وسلب خيرات الضرع والزرع.
بعد أن دخل «شيحان» المدينة أعزلَ، باسطاً يداً بيضاء، ومعتمداً على خطابه الحجاجي الإقناعي، الذي قد يمكّنه من تجاوز الخلافات وطي صفحات ماضي الاقتتال والتطاحن الذي ظل يصب لصالح «ال«وبّاص»».. حاول نهج سياسة حكيمة في التأليب على «ال وبّاص»، كملك كان الكل يدين له بالطاعة العمياء والخدمة التي يطغى عليها الطابع الاستعبادي، ونجده وقد أفلح بذلك في الرمي بورقتين رابحتين غيّرتا معطيات ذلك المجلس المشحون بأحاسيس الحقد والغضب وانعدام الثقة، لصفّه، حين عرض أدلّة ملموسة، تخوّن «أصهب» و«سعد»، وهما من بني جلدة «الغازي» ويحك?هما عهد ووثيقة الإخلاص والولاء له، غير أنهما تقنّعا وراحا يخدمان «الوبّاص» سرّاً ويشعلان الفتنة داخل حدود المدينة بما يفيد عدوها في النهاية، أضف إلى ذلك تكفُّل «شيحان» بمسألة توفير الماء كمصدر أساسي في الحرب على الموالين لعدوّ يحاولون جمع كلمته ضد واقع تراميه على مصالح قرى ومدن كثيرة، واستفحال طغيانه، وفوق ذلك كونه صابئاً، ترك عبادة آلهتهم وانصرف لعبادة النجوم.
يحيلنا فصل «العلقم والحنظل» من الرواية إلى طقس ذاكراتي، يبين نقل السلطة من رمزية غير فعالة لشيوخ القبيلة، إلى حقيقة تجسد كامل معاني الفتوة والقوة والانضباط، تحت لواء «شيحان»، مثلما تسوق تفاصيل ذلك شقيقتُه «بدور» في مجلس النساء، وقد قابله مجلس للرجال بالتزامن للبحث في أسباب وملابسات تأخر «شيحان» في مهمته إلى «الحرجف». وقد قضى «شيحان» على قطاع الطرق وعصابة «علقم» التي ما انفكت تنهب القوافل عبر عروض بطولية لجيش من السكارى تمّ تنظيمه بشكل محكم.
أما فصل «خيانة وقيود»، فيحدّثنا عن واقع تخوين «أصهب» وتنكّر صديقه «سعد» له، وكشف العديد من الخبايا من قبيل حبس» الغازي» على يد «ال«وبّاص»».
كما يتحدث عن التقاء «شيحان» بـ«سوار»، بوصف «شيحان» طبيباً استُقدم لمعالجة جروح «سوار»، حفيد «آزاد» الذي علّم «شيحان» سابقاً صناعة السيوف وزوّده بجملة من الحكم المسعفة في خوض النضال ضد الذات والآخر والحياة. وينقل «سوار» لـ «شيحان» قلق عمته «آرام» عليه، وهو المجنون الذي عقد راية حمراء على «شجرة النذيرة» سالباً إياها البعد القداسي والأسطوري، كونه أُغرم بابنة معلمه «آزاد» التي تزوجها أقبح الرجال خُلقاً وخَلقاً، ذلك الذي قَتلَه «شيحان» بعد أن علم أنه أساء معاملتها ونبذها بالعراء. ثم شاءت الأقدار أن يُنقَض عهد «?يحان» و«آرام» ولا يجتمعان.
هكذا يقفل هذا الفصل بمساومة، يفرضها الطرف الأقوى المتمثل في «ال«وبّاص»» وحاشيته، ربما تنجد رأس «الغازي»، وتبطل الحرب المحتمَلة ضد «الحرجف».
وتتوالى المشاهد وتتطور الأحداث، ما بين صفحتَي خروج «شيحان» في مهمة توحيد الصف ضد «ال«وبّاص»»، واستكمال شروط معاهدة «الحرجف» و«الجوزل»، حتى تسنح فرصة محاصرة مدينة «العصوف» تحت لواء مشترك، وحّد «الجوزل» و«الحرجف» بقيادة كلّ من «شيحان» و”الغازي».
يقول الراوي في رسالة على لسان «أوس”: «اسمعوا يا أهل العصوف، اسمعوا وعوا قولنا؛ فلن تسمعوا بعده إلا صلصلة السيوف. إن أردتم النجاة فاخلعوا عنكم ال«وبّاص» وألقوا لنا برأسه، وولّوا عليكم من يحسن فيكم فنتعاهد معه ونرحل عنكم ونترككم آمنين. وإلا فستموتون جميعكم ميتة بطيئة؛ بل ستموتون كل يوم، فلن نبرح مكاننا هذا ولن نقترب من أسواركم حتى تخرجوا مرغمين، فتلقاكم سيوفنا ولا تغادر منكم أحداً. حسبتم بالأمس أننا سنهلك عطشاً فخابت ظنونكم، أنتم من ستهلكون جوعاً وهزلاً. نحن أسياد رأس الخيل وأسودها، نعشق الترصد والافتراس ولا?نضرب إلا الرقاب، وما أنتم إلا جرذان تختبئون بجحوركم، وإنا هنا قاعدون. سنتربص بكم يا أهل العصوف حتى تفروا من شدة بلائكم مهما طالت بنا السنين، فلن تروا فيها حقولاً ولا زرعاً، وستضمر بطونكم من جوعكم فلا تجدون لكم ولأبنائكم ما تأكلونه. هيا انجوا بأنفسكم أو قتّروا طعامكم وشدّوا بطونكم، فأمامكم أشْهُر عجاف لن تأكلوا بها إلا المرار والحنظل» (فصل «شجرة النذيرة»، ص321-322).
من هنا يتضح أنّ في الاتحاد قوة، وفعلاً سوف تسقط «العصوف» ويُهان ملكها ولا يغادرها إلا على جثث رعيته ومرارة هزيمته النكراء، ليستسلم في الأخير، ويحتال مذكّراً «شيحان» وحليفه «الغازي» بوعدهما إنْ هو رفع الراية البيضاء، فيولّي ابنه على «العصوف»، وبعدها يتعرّض «شيحان» للغدر والخيانة، إذ سيسممه رجل يدعى «قابس»، غير أنه سيمتطي صهوة جواده وهو في شبه غيبوبة فيعود إلى الديار كي يتم إنقاذه، فتختم حياته بأول ما بدأ به، تطويع الحديد سيوفاً، واسترجاع زمن الحكمة التي طالما زوّده بها معلمه وزعيمه الروحي «آزاد».
بذلك، شفّت هذه الرواية التاريخية المحبوكة، عن جملة من المعاني والدوال التي تفيد دورة التاريخ. وهي إسقاطات على راهننا الموبوء والملطخ بالعديد من الأخطاء والرواسب، مثلما تجود بها الذاكرة.
هذه الرواية ترغّب بالتكتل والوحدة العربية ضد أيّ تكالب أجنبي، وقد أشارت في متونها إلى خطورة التغاضي عن بعض الثغرات المتسببة بالتشرذم والتفرقة والانصياع إلى وصايا الفرس والروم، من باب النموذج ليس إلّا.
وفي النهاية، فإن «ال«وبّاص»» منجَز سردي، استطاع تقديم لوحات تاريخية بدافع النهل من دروس التاريخ وعبره، على نحوٍ تدافعت وتزاحمت وتشاكلت من خلاله، صورُ الديني والأيديولوجي والمجتمعي، على حد سواء، ووفق منسوب تعبري متفاوت.
• شاعر وناقد مغربي