“وكالة الأنباء العُمانية”
يتضمّن كتاب “بلاغة الشارع” -الذي صدر مؤخرًا للناقد د.غسان إسماعيل عبد الخالق- مجموعةً من البحوث التطبيقية في النقد الثقافي، يمكن للقارئ العام والباحث المستجد -على حد سواء- أن يسترشدا بها بيُسر وسهولة، إذ يتضمن الكتاب دراساتٍ يمكن من خلالها تجسير الفجوة الواسعة بين النظرية والتطبيق.
ونقرأ في مقدمة الكتاب أن العنوان “بلاغة الشارع” يستغرق كثيرًا من مواصفات النقد الثقافي الذاهب باتجاه “إعلاء أدب الجمهور”؛ إذ تتمظهر بلاغة الشارع من خلال “مركباته وأبواقه وأرصفته وأشجاره وروائحه وبيوته ومحلّاته وواجهاته وأصوات ناسه وملابسهم وملامحهم”. إنه –وفقاً لعبد الخالق- “التمثيل الأعلى لثقافة الشعار والملصق والنكتة والمذياع، وهو التجسيد الحقيقي لتيار الحياة المتدفّق دون انقطاع”.
يتضمن الكتاب -الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون”- تمهيدًا تثقيفيًّا عمليًّا، أُتبع بالفصل الأول (بلاغة الشارع ومعجم ألفاظ “الربيع العربي”)، الذي حاول المؤلف فيه إبراز الجانب السياسي في البلاغي، والجانب البلاغي في السياسي.
أما الفصل الثاني (مدخل إلى نظرية الفوضى في الأدب العربي) فقدّم عبد الخالق من خلاله الجانبَ الأدبيّ في العلمي والعلميّ في الأدبي. وفي الفصل الثالث (أين أبو الفتح الإسكندراني في رسالة أبي دُلُف الخزرجي؟) نفّذ المؤلف تمرينًا طريفًا من منظور التاريخانية الجديدة المحسوبة على النقد الثقافي، وفي الفصل الرابع (ناصر الدين الأسد وتحرير المصطلح السياسي والاقتصادي) حاولَ إبراز اللغوي في الاقتصادي والعكس من ذلك، وفي الفصل الخامس (عصْف الصّور في زمن الاستعمار) أبرز الأدبيَّ في الحضاري والحضاري في الأدبي من منظور نقد ما بعد الاستعمار.
ويوجز عبد الخالق في التمهيد أبرزَ أطروحات النقد الثقافي، ومنها: إعلان موت الأدب بوصفه ثقافة النخبة، ثم إعلان موت النقد الأدبي بوصفه المنهج الوحيد لدراسة أدب النخبة وإعادة الاعتبار للثقافة بوصفها أدب الشعب، ثم الإعلاء من شأن المقاربات غير الأدبية والعابرة للتخصصات مثل الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ، وأن الأدب المحض والنقد الأدبي المحض أسطورتان أكاديميتان، وأن النقد الثقافي في أبرز جوانبه يمثّل انقلابًا على المسلّمات الأكاديمية التقليدية التي تضطلع بدور المرسِّخ والمبرر لسلطة المؤسَّسة الرسمية.
ومن طروحات النقد الثقافي أيضًا -بحسب المؤلف- توجيهُ طلبة ومؤسسات التعليم العالي في حقل الأدب لتفعيل منهجيات التحليل الثقافي بدلًا من الاشتغال بأحاجيّ وألغاز الدراسات الأدبية المنغلقة ومحدودة التأثير جرّاء النمطية والتلقين، وتشخيص الدور الإشكالي الذي تضطلع به تكنولوجيا الاتصالات خاصةً على صعيد ترسيخ الثقافة السمعيّة والبصريّة على حساب الثقافة المكتوبة وما قد يترتب على ذلك من أُمّيات وشفويات جديدة، والانعتاق من قمقم الدراسات الجامعية المتخصّصة والانفتاح على مشاكل وقضايا المجتمع والحياة.
وفي الفصل الثاني يتناول عبدالخالق نظرية الفوضى مشيرًا إلى أنّ أكثر ما يمكن أن تفي هذه النظرية بتفسيره في موروثنا القديم يتمثّل في ذلك الكم الهائل من الاستطرادات والالتفاتات والاستدراكات والحواشي والهوامش التي قد تتمخّض عن دراستها -بوصفها أنظمةً أو أنساقًا أو أنشطةً فوضوية- نتائج مفيدة في الحد الأدنى، إضافةً إلى الكثير من القيم التي يمكن أن تتحقّق جرّاء التشبيك المطلوب بين الأدب من جهة والعديد من حقول العلوم التطبيقية البحتة والإنسانية الاجتماعية من جهة أخرى.
ويقدم المؤلف في الفصل الثالث دراسةً لـ”الرسالة الأولى” للرحّالة أبي دُلُف مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبوعي، مشيرًا إلى أنه -على الرغم من الإيجاز الشديد الذي اتسمت به هذه الرسالة/ الرحلة- إلا أنها أثارت العديد من التساؤلات، سواء على صعيد مدى صحة نسبتها لأبي دُلُف، أم على صعيد مدى دقة المعلومات الجغرافية التي اشتملت عليها، أم على صعيد إمكانية قيام أبي دُلُف بهذه الرحلة فعلًا. مشيرًا إلى أن أبا دُلُف الشاعر المغامر، هو نفسه أبو الفتح الاسكندري في مقامات بديع الزمان الهمذاني.
وفي الفصل الرابع يتناول الباحث إسهامات العلّامة د.ناصر الدين الأسد، وما تنطوي عليه كتبه وأبحاثه الأدبية من رصانة وجدّة وجدل حول التعليم أو السياسة أو الاقتصاد، وما تضمنته آراؤه من أفكار واستشرافات تمثل خلاصة خبراته في الإدارة الجامعية والثقافية، والعمل الدبلوماسي، والحوار بين الديانات والثقافات.
ويتناول الباحث كتاب ناصر الدين الأسد “نحن والآخر: صراع وحوار”، موضحًا أن هذا الكتاب لازم الوضوح في اللفظ والمعنى، وتوجّه به صاحبه إلى السياسي والاقتصادي والمثقف والقارئ الجاد وليس إلى الأديب أو اللغوي المتخصِّص، فجاء معجم خطابه منسجمًا مع موضوع الكتاب من حيث الميل إلى الإيجاز والتقرير غير الجاف والمباشرة الحاسمة الحازمة.
ونوّه عبد الخالق بجرأة الأسد على عدم التحرّج من استعمال الألفاظ الأجنبية المقابلة أو ترجمة العناوين أو شرح المصطلحات، فضلًا عن الإحالة إلى العديد من المراجع الإنجليزية، وهي جُرأة تحسَب له في زمن توهّم فيه بعض دُعاة التعريب أن الجرأة تتمثل في استبعاد اللفظ الأجنبي من المكتوب العربي مهما كانت الأسباب.
ويسلط الفصل الخامس الضوء على روائيّ ورواية كاد يطويهما النسيان رغم تميزهما، فعقيل أبو الشعر مؤلّف “القدس حرّة” يستحق -بحسب المؤلف- أن يُعاد إليه اعتباره بوصفه رائدًا من روّاد الرواية في فلسطين والأردن والوطن العربي؛ لأن روايته تنطوي على ملامح تؤهّلها بجدارة للتحليل والدراسة من منظور ثقافي.
ويوضّح عبد الخالق أن عقيل أبو الشعر كتب هذه الرواية باللغة الإسبانية عام 1920 ونشرها في باريس عام 1921، مضيفًا أن الواقعية رانت على أجوائها وكادت تصل إلى حد التقرير والمباشرة، لكنها لم تخلُ من مسحة أسطورية اقتربت بها من تخوم الواقعية السحريّة.
وفي الخاتمة يوضح المؤلف أنه وقف في كتابه هذا عند الخط الفاصل بين التنظير وخشونة التطبيق، منتصرًا لمواضعات النقد الثقافي، وحريصًا على الانسجام مع منهجية النقد الثقافي وقابليتها للتطبيق، سواء أكان الموضوع أو النص المقصود بالتحليل قديمًا أم معاصرًا، وسواء أكان شعارًا أم معجمًا أم رواية أم رحلة أم نقدًا، وسواء قُورب من منظور سياسي أم علمي أم تاريخي أم حضاري؛ لأن المعوّل عليه في الموضوع أو النص هو “القبض على النسق الظاهر والنسق المضمر، واستنطاق هذين النسقين دون مبالغة أو تعسّف”.
وأخيراً، حاول عبد الخالق في هذا الكتاب تضييق الفجوة بين النظرية والتطبيق وربط الفكر بالواقع، مشرعًا نوافذ البحث الأكاديمي وأبوابه على عوالم السياسة والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والفلسفة، فضلًا عن إيقاع الحياة الهادر في الشوارع والميادين.