بيت رحـــــــيم.. بيت، ومخيم، وغربة

بيت رحـــــــيم.. بيت، ومخيم، وغربة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    رشيد عبدالرحمن النجاب

    راودني قدْر من الحيرة وأنا أقرأ العنوان “بيت رحيم”، هل التنوين غائب عن البيت والرحمة صفة للبيت؟  أم أن البيت “مُلكٌ” لرحيم؟ وكان الخيار الثاني هو الأصح، ولكن، مهلا عن أي بيت يتحدث؟ وأي بيت يصف الطبيب القاص إبراهيم الغبيش في هذه الجمل القصيرة، المكثفة، المتتابعة بإيقاع سريع؟  هل هو البيت الأول في رحم الأم؟ أم الخيمة التي في ظل شجرة التوت؟ أم الوحدة السكنية في المخيم التي دلفت إليها المحامية اليهودية “لانغر” وقالت لرحيمة مجاملة أنها تود أن تشرب الشاي في البيت؟ أم هو بيت المزرعة؟ أم هو بيت تبحث عنه رحيمة في الفيافي والبراري؟
    اسمه ذيب، وهل للذيب من مأوى؟ ولكن اسمه أيضا “رحيم”، أرادته الأم رحيما بها، وأسماه أباه ذيب فكيف يكون الذيب رحيما؟  سلسلة من تساؤلات يتنقل د. الغبيش بينها مرافقا لرحيمة في البحث عن مولودها، هي أيضا ذيبة هكذا نادوها في المخيم، ولم تهدأ في مسيرة البحث عن “بيت رحيم” فأين ترى كان هذا المأوى؟!
    وسم الغبيش فصول هذه الرواية بعناوين ذات دلالات عميقة (خريف، مأوى، بيت آخر، جواز سفر، “المزرعة -خالد حنا نجار”)، أسهمت في رسم المعالم الرئيسة للرواية وربطها ببعضها، وبقليل من جهد القارئ وتركيزه يستطيع الوصول إلى مفاهيم الرواية ورسالتها. قصص قصيرة ومواضيع مترابطة والنتيجة رواية قصيرة.
    بيت، ومخيم، وغربة لدراسة وأخرى للعمل، ونكسة تتبع نكبة، ثم تصميم على العودة إلى الأرض
    بأي طريقة، أرض، وزراعة، وضريح في خميلة، وآخر يحمل رقما في مقبرة الأرقام، وتضحية.
    أراده الأب ذيبا وهكذا كان. أرادته الأم رحيما، ولم تمارس الدورية الإسرائيلية أيا من أشكال الرحمة. في التعامل مع رحيم.
    كانت هذه الرواية هي الأولى في المجموعة الصادرة عام 2022، عن دار الآن ناشرون وموزعون، لم تكن الأولى من حيث التسلسل ضمن المجموعة، والبداية كانت هنا لأنها حملت نفس عنوان المجموعة. “بيت رحيم”
    ضمت المجموعة إضافة إلى هذه الرواية ثمان روايات أخرى قصيرة، بنيت كل منها على مجموعة من القصص القصيرة، وإن كانت مضامين هذه الروايات مختلفة شكلا، إلا أن ثمة ما يجمع بعضها كما سيتضح لاحقا عبر هذه السطور، وقد ضمت المجموعة أيضا عددا من قصص قصيرة وأخرى قصيرة جدا.
    في “رواية الربيع الذي يلي” ثمة إشارات إلى الارتباط باللغة وبالجذور العربية، عبر العديد من الإشارات والدلالات، منذ أن تعلم أليخاندرو ومعنى اسمه “المدافع” اللغة العربية وانتقل بمساعدتها موظفا في السلك الديبلوماسي ليعمل في الشام حيث بات اسمه “عبد الله” ثم عمان، زوجة من  الناصرة الفلسطينية، وولدا أسماه “زياد” واستقرار انتهى بمخبز أسماه “مخبازة زياد”.
    باختصار شديد ينتقل د. الغبيش إلى عهد “زياد” إذا جاز التعبير فيقول زياد: “بت وحيدا في البيت”، وبجملة أخرى قصيرة يصف زياد مرض والديه ثم رحيلهما، ويعيش على ذكراهما بقدر كبير من الإيجابية والتفاؤل، ويشغل وقته عدا العمل في تعلم اللغات، ست لغات أوروبية، والعربية لغة أولى، بين اللغات كانت اللغة الفرنسية، ولكن المعلمة كانت عربية، وتقارب عاطفي  ينشر في الأجواء مزيدا من التفاؤل “انبثاق ربيع من ربيع”، و “الحياة تتسع لكل شيء”، حتى هدية عيد ميلادها كانت أسطوانة “فالس الربيع” لشوبان فإلي إين كان مآل هذه العلاقة ؟ وكيف تفاعل زياد مع الأحداث؟  عناوين القصص القصيرة كانت تشي بأجواء من التفاؤل “ذات ربيع”، “ينبوع”، “شوبان.. حديث موسيقى”.  أي علاقة لهذه الأجواء بمصير زياد؟  وماذا تراه فعل؟

    “الشتاء غواية” هو عنوان الرواية التالية؛ والأجواء هنا بعيدة عن الربيع، إليكم هذه الصورة التي استهل بها الغبيش هذه الرواية:” مطر غزير، عواصف تلاحق كل شيء، ثلج يغطي الأشجار. كائنات تبحث عن مأوى مؤقت، طيور، قطط وكلاب شاردة، وبشر”. صورة شديدة التكثيف لهذا المشهد الشتوي العاصف، من هنا يبدأ د. الغبيش، متحدثا عن “رجا المؤيد” ويصف على لسانه ذلك المشهد الشتوي العاصف، هل نضيف “والكئيب؟” ربما فقد كان ينتظر بقلق قادمة طال انتظارها.  وربما زاد هذا المشهد من كآبته!
    ثم يعود الغبيش بما يشبه تقنية الاسترجاع السينمائية “Flash Back” إلى البدايات، إلى حيث تشكلت العلاقة مع الزائرة التي كان في انتظارها، موظفة في الشركة التي يمتلكها، ظروف أسرية صعبة، زواج منفصل، وأبناء، ومسؤوليات، وحاجة للعمل، تلتقي برب العمل الذي يعيش ذكريات طفولة معذبة قاسية من الناحية العاطفية في غياب الأم، والجفاف العاطفي بوجود عمته ووالده، وجملة واحدة يتلقاها من والده ومن عمته؛ “رجا، أنت رجل، ها، رجل” ويكبر الطفل الرجل، وتكبر معه مشاعر القسوة والحرمان (العاطفي)
    تصاب رجله بكسر نتيجة الانزلاق على الثلج، وتغير سلافة وظيفتها مؤقتا لصالح العناية به للمساعدة على جبر الكسر، وكانت فرصة لبوح متبادل، والنتيجة الشفاء من الكسر والتئام بعض جراح الطفولة، ثم ماذا؟  هذ ما سوف يعرفه في ذلك اليوم العاصف، فأي شيء كان في جعبة زوار الضحى؟
    وينتقل الغبيش إلى أجواء مختلفة في روايته (ملذات شفيق غانم الشهير ب “شقروق”) وبنوع من السخرية السوداء يستعرض سَعيَ فرج الكفيف وصديقه شقروق “الضاحك الباسم” في البحث عن الملذات رغم كل المعاناة، عرج في الرجل اليسرى من شلل الأطفال، يضاف إليه قطع الرجل اليمنى بسبب الغرغرينا (نتيجة الإصابة بالسكري) وبؤس آخر متعدد الأسباب لا يد له فيه، ويجد فرصة للبحث عن الملذات الممكنة؟!، ويتبادل ورفيقه فرج أخبار بؤسهما وتشردهما، ويضحكان.
    منشورات سرية توضع بجانب الكفيف وحجز في المخافر مع دورة تأهيل (ضرب)، يدرك الضابط الحقيقة بعد فوات الأوان ويفرج عنه، وشقروق المُجِد في “عمله الحر”، الباحث عن علب المشروبات الفارغة والفُرجة على المظاهرات يلقى القبض عليه لضعف حركته، وبلا ذنب سوى أنه جمع فيما يجمع من علب فارغة زجاجة وجدوا فيها بقايا بنزين فضموه إلى دورات التأهيل.
    يتفكر شفيق غانم في الملذات المتاحة المترتبة على العمل الحر الذي اختاره (جمع العلب الفارغة)، يفكر في “أقراص فلافل وأرغفة ساخنة…. و …و…. وبقايا مشروب غازي في علبة”
    ويقول لذاته “بذخ، ملذات لا يمكن مقاومتها، قد لا تأتي أو كاملة، لكنها تأتي، اليوم أو غدا”،
    ثمة طموح وأمل لدى شقروق الذي يستنتج “أصول العمل الحر، ودفء الملذات الصغيرة”.
    هو ذا فرج يسدي النصح لشقروق بحكم التفاوت في السن فيلخص فلسفة الحياة واللذة قائلا “شقروق، الحياة، بقايا من ملذات ومُتع، مسرات أحيانا خائبة، ولكن بلا ملاذ، بلا ملاذ تشرد”.
    ولا يلبث فرج أن يتأمل اللذة المشتهاة قائلا: “أنا الأعمى، أحاول استحضار اللون الأبيض، لا شيء غيره يمكن أن تستعيد لذة عابرة، مسرة، ملاذا، يجعلك تغفو، تنسى القهر والازدراء”.
    وترافقا يبحثان عن ملاذ، عن مآل!!
    “صحبة وأنا معهم أهل الهوى يا ليل”، من أغنية لأم كلثوم يستلهم د. الغبيش وسم هذه الرواية وهي من كلمات الشاعر بيرم التونسي الكلف بهموم الناس، والمعبر عن معاناتهم الإنسانية بشفافية نادرة، وقد برع الغبيش في اختيار هذا الوسم، لما في كلمات الأغنية من دلالات تشير إلى مضامين الرواية، مقهى يجمع هذه الصحبة، يشربون الشاي وبعض الخمر، ويتشاركون الهموم والقصص الحياتية، محاولات ارتباط فاشلة، وخيانات زوجية طويلة المدى مع سبق الإصرار،  وفقد مؤلم بعد أن تعاظم الأمل بفرحة التخرج، وذاك الذي حاول تجميل الشتيمة التي تلقاها من زوجته  “أنت حشرة” قالت له مع التشديد على كل حرف فكر في الأمر، تذكر أن  الفراشة حشرة وهي حشرة جميلة.. . يا لهذه المواساة الذاتية!!
    انتقل بعد مرور ببعض روايات هذه المجموعة إلى عدد من القصص القصيرة التي تضمنتها وفي مقدمة هذه القصص “vagabond” التي عجبت لوسمها باللغة الإنجليزية، فرحات عامل المطعم يردد هذه الكلمة دون أن يعرف معناها، يمازح الزبائن باستخدامها، يضحكون ربما لجهله ثم عندما سأل الأستاذ سميح مدرس القرية، قال له معناها “متشرد” وكان قد علم منه أنه سمعها من الكولونيل الذي كان يعمل لديه عندما ضبطه يتلصص على ابنته الشابة، عندما عرف المعنى فرح فرحات لهذه الحقيقة، وبدا أكثر إصرار على استخدامها.
    ثم قصة “أبو حسن” العراقي الذي أوجدوا له حلا شخصيا، هجرة، علاج، شقة وثلاجة صغيرة يملؤونها كل أسبوعين، ومصروف جيب، بعد أن سيق إلى حروب بلا إرادة منه، مع إيران أولا ثم غزو الكويت، وبات وحيدا في ولاية بعيدة، وحديقة كبيرة في نهايتها مقبرة، هذا النوع من الحروب ثم الحلول مآلها المقابر.
    قصة “حفلة الشواء” وهي تشير إلى حقبة زمنية في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي حين كان الاستماع لإذاعة صوت العرب من الممنوعات، والحديث عن الرئيس جمال عبد الناصر غير مأمون العواقب، وكان هذا هو الحال مع الشيوعيين والبعثيين، استمتع قائد المغفر بالعرق وبالشواء والاستماع إلى صوت العرب ثم ماذا؟
    كانت هذه بعضا من تسع روايات قصيرة وعدد من القصص القصيرة بعضها قصير جدا، هو ما ضمته مجموعة الدكتور إبراهيم الغبيش الأخيرة والموسومة “بيت رحيم”، حافلة بالتجارب الإنسانية، يتشابه بعضها في المواضيع وإن اختلفت في الأجواء والتفاصيل والنهايات. ويختلف
    البعض الآخر.
    يكتنف اللغة بعض الغموض في بعض النصوص، وهو ما لا يخفيه الدكتور الغبيش متمسكا بكونه جزءا من شخصية الكاتب وطريقته في التعبير عن الأشياء.  علما بأن الجزء الأكبر من النصوص يميل إلى الوضوح عبر هذه المجموعة.
    يميل الدكتور الغبيش إلى استخدام الجمل القصيرة، والوصف المختصر المكثف، كأنها لقطات سينمائية يترك فيها للمخرج أمر العناية بالتفاصيل، كما يتخذ الحوار صيغة أقرب إلى السناريو وتبدو الجمل مشبعة بالعاطفة كأن القارئ يطل على معالم الشخص وهو ينطقها.
    ثمة معالم في كتابات الدكتور الغبيش تبدو كطباعة خلفية على ورق رسمي، أو علامات مائية تختلف شدتها من نص إلى آخر إلا أنها ماثلة لمن يتابع أعماله ففلسطين ماثلة دوما وإن لم ينطقها بالاسم، وصور المخيم ووحداته وشوارعه وناسه، وشخص الطبيب الذي ربما يتمرد على القاص ويمضي في الحديث عن التشخيص وربما العلاج أحيانا. هذه السمات لا تظهر بشكل نمطي ممل وإنما تتراوح وفقا لمقتضيات السرد.
          
    نشر في (الاتحاد)
    03/10/2022