بين الوثيقة والتخييل.. قراءة في رواية “تسجيلات يوناذم هرمز” لبولص آدم

بين الوثيقة والتخييل.. قراءة في رواية “تسجيلات يوناذم هرمز” لبولص آدم


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    مروان ياسين الدليمي

    ست وعشرون ساعة من التسجيلات الصوتية على أشرطة كاسيت، مضى على تسجيلها ثماني سنوات، وبصوت يوناذم هرمز، الشخصية الواقعية الذي سيتحول إلى شخصية نصيّة ينطلق منها السرد، في رواية بولص آدم “تسجيلات يوناذم هرمز.. ابن قرية عراقية”، الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” نهاية عام 2024، حيث يستعيد ويفكك أزمنة مقصية من ذاكرة التاريخ، بقيت عصية على مخالب النسيان، في وجدان سكان قرية ديري، أينما حطت بهم الرحال في بلدان المنافي والشتات. أزمنة تفيض بحكايات وأغانٍ وأشجار العنب والخوخ وينابيع المياه، مثلما هي معبأة بأحداث ومرارات وتدمير وأسماء راحلين عن الحياة بلا ثمن.. والأسئلة التي ستفرض نفسها عند قراءة هذه الرواية: هل من إضافة يمكن أن تتيحها وثيقة التسجيلات الصوتية، بالشكل الذي تتيح للمؤلف أن ينفتح بالسرد على أبعاد سردية مبتكرة، لينعتق من نمطية التدوين الصوتي ووثائقيته، ليصبح التخييل خيارا استراتيجيا، يمنحه بطاقة الدخول إلى مناطق قصية في مغاور الزمن والشخصيات والأحداث، ربما تجاوزتها التسجيلات؟ أو السؤال الآخر: هل الانتقال بالسرد إلى أشكال فنية ذات أنساق انزياحية، يمكن أن تنعتق فيها الوثيقة الصوتية من نمطية استعادة الحدث الواقعي المسرود صوتيا على لسان يوناذم هرمز الواقعي، وتدفع به إلى واقع تخييلي يؤثثه سرد بديل؟

    واقع سردي جديد

    إن المادة الخام في هذه الرواية أراد لها المؤلف أن تنفتح وبقوة على التاريخي والسياسي والديني الذي سيحيط بالنص التخييلي وبدائرة واسعة، لكنه شاء أن يجعلها تضيق من جديد وبكثافة عالية، حتى وصلت إلى جريمة قتل والد وشقيق يوناذم هرمز، وأراد بذلك أن لا ينصرف عن الحدث المركزي الواقعي وينحرف عنه بفضاء التخييل. ويمكن القول إن آدم عمل على ثماني ساعات من التسجيلات، وكان عليه أن يستكشف فيها فراغات كثيرة هي في حيز الخيال أثناء الكتابة، فالسرد الذي يعتمد على مرجعيات وثائقية مهما كانت صيغتها، صورية صوتية، ورقية، لا بد من أن يدفع المؤلف إلى تشييد واقع سردي جديد، يستمده من الفضاءات الرحبة في ممكنات المادة الخام، منطلقا من فرضيات الاحتمال والتأويل والممكنات النصية، فدائما هناك مساحات فارغة في النصوص التي يتعين علينا ملؤها، والانصراف إلى خلق بنية سردية ذات أنساق انزياحية، وبما أن التوازي التاريخي حاضر في الواقع بقوة، فهذه نقطة تستحق الانتباه.. والمؤرخون يفرضون قيودا على أنفسهم أكبر مما يفرضه الكاتب الروائي، عندما يتعلق الأمر بملء هذه الفراغات.

    تطويع المرجعيات

    إن مادة السرد هنا في النص الروائي تتشكل من إخضاع وتطويع المرجعيات من قبل الروائي، وصولا إلى إنتاج نص جديد بمواصفات فنية وتقنية تقطع صلته بما استند إليه من مرجعيات، سواء كانت معاصرة أو تاريخية، صوتية كانت أم مكتوبة. ومن غير الممكن فعل ذلك في السيرة الذاتية، لأنه يتوجب على الكاتب أن يختار الإصدار. فالقصة والرواية ملزمة بالاستمرار من خلال أجزائها الخيالية، ولكن أيضا من خلال أنفاسها بأكملها مثل كل الأعمال الخيالية. وأحيانا لا يكون الأمر بهذه السهولة. إذن لا بد من إيجاد النسخة التي يؤمن بها الكاتب، وفي الوقت نفسه تثق بها أيضا الشخصية الواقعية يوناذم هرمز، والشخصية الساردة للأحداث في ما بعد في النص الأدبي .
    تبقى المسألة مرهونة بكيفية الاشتغال والتوظيف، بالتالي انفلات النص من الخلط والتداخل التجنيسي، ونظرة نقدية متفحصة لهذه الرواية، وما جاءت عليه بنيتها، نجد فيها انتهاكا لسكونية لغة السرد وصيغها، حتى يتمكن المؤلف من مواجهة مادة واقعية خام اتسمت بالسعة من حيث الشخصيات والأزمنة والأحداث، فكان ملاذ التخييل خيار تقني لاستيعاب تعقيدات الواقع المتشابك، والتعبير عن الرغبة في الخروج من وطأة الأطر والمفاهيم السردية التقليدية، وليكون على مقربة وتماس من هذا المنطق، تمسك بولص آدم بما هو مقنع وموحش، فما نزل من ثقوب غرباله السردي، وتجمع في حوض الذاكرة الجماعية، هو مبدأ الغطرسة، وهو أحد العناصر الأساسية لأسطورة الرجال المتنفذين من أي جهة مهما اختلف الأزمنة والأمكنة.. فمجتمع القرية سياسياً واقتصادياً واجتماعيا ودينياً مثل مجتمع قرية ديري في هذه الرواية، بدأ يعتمد كُلياً على المساحة الحياتية اليومية والمساحة الأقرب المحيطة به، وتلك المساحة تتفاعل وهي محاصرة بجهل نشيط وديناميكي، هو متشدد وعدواني، وبامتداد أوسع وأعمق لا يقتصر على الأميين وغير المتعلمين، ولكن يتم نشره على أعلى المستويات في البلاد! مُتنكراً بلا خجل في هيئة معرفة ومعرفة المصلحة العامة، والواقع يقول إن المتغطرس كاذب مقنع وإلى حين.

    إعادة صياغة الواقع

    تمكن بولص آدم من أن ينقل كل أزمة مرّت بها الشخصية في الواقع، وفي الوقت نفسه متجاوزا الواقع بإعادة صياغته والخروج به من محدوديته، حتى الجبل جعله يُلقي خُطبة يُذَكِّر القرية بأنها شبكة من الحياة وهو يرعاها، فكل شيء في النص الأدبي أخذه ليتنقل به بين حدود عالمي الواقع والخيال، وشاهداً على ما حدث في القرية حتى أيلول/سبتمبر عام 1961. أنها رحلة داخلية تملأ القارئ من الداخل وتثرية لتجعله ينظر إلى العالم بشكل مختلف، تملأه بالتعاطف وتؤدي به إلى الاستبطان، تمنحه فرصة استكشاف ما هو كائن في مكان آخر (مخفي باستمرار عن الأنظار) وبذلك تخلق الرواية مكاناً للتفاصيل المهمة المفقودة في عالمنا النفعي.
    مصير أهل القرية قرره ما يكفي من الأسباب، وبعد تدميرها من قبل السلطات المتعاقبة حاولوا باستماتة لأحيائها، لكن لا أحد يريد أن يعيش هُناك. وهُنا سبب إضافي لكي لا تُنسى، وفي هذه التجربة السردية يعود إليها بولص آدم بشخص يوناذم هرمز، الذي لم يمر عليه في المهجر يوم واحد إلاَّ وقفز العراق إلى مستوى فوقاني في ذكرياته وأحلامه وآماله، وحتى في هذيانه وصولاً إلى قرية ديري التي ارتُكِبت بحقها عشرات الانتهاكات في الأرض والبشر.
    نوع سردي مثير للجدل
    تضطلع هذه النوعية من الأعمال الروائية بوظيفتين، إحداهما ذات قصدية جمالية قائمة على التجاوز وتشابك الفضاءات في بنية السرد ضمن علاقات مفتوحة مع الإثراء التخييلي لمرجعية النص الواقعية، والأخرى تسبغ عليه أبعادا مختلفة، عبر خلق وابتكار دفقات لا مألوفة في إمكانات النص السردية. والروايات التي تتحدث عن أشخاص عاشوا بالفعل مثل أحداث هذه الرواية، ليست فقط نوعا مزدهرا في العالم، لكنها أيضا مثيرة للجدل. لقد كانت منذ فترة طويلة جزءا لا يتجزأ من الأدب.

    كسر الإيهام

    لعل من أبرز ما توفر في هذا العمل كسر الإيهام، وتوظيف حتى الظواهر الماورائية في القص والروي والسرد، والفجوة بين السيري والخيالي لم تعد محسوسة، مروراً بالطابع البيوغرافي للرواية، وقد اتكأ المؤلف على قصص الصداقة والخيانة، الحمقى والطيبين، الفضوليين واللامُبالين.. الرجعيين والتقدميين، الثوريين والمُنكفئين وهكذا، مستجيبا بذلك إلى كل ما يدفع بالرواية إلى أن يكون إيقاعها متدفقا، لكنه أبطأ عند قدوم المبشِّرة الآنسة أنّا ميلتون إلى القرية، والحادثة التي تعرضت إليها في أوج نيتها على التغيير المذهبي، وعلى مرمى عصا من دير مار عوديشو النسطوري الأسطوري، بعد ولادة هرمز والد يوناذم بأشهر في عام 1893، والسرد عن خوشابا الموظف في محكمة بداءة العمادية ومحاولته الناجحة بعرض أول تمثيلية في القرية، وكان تأثيرها إيجابيا لفترة قصيرة فقط قبل أن يبدأ اغتيال إثر اغتيال عانت منه القرية أيام انحدار الدولة العثمانية، ودخولها كطرف خاسر في الحرب العالمية الأولى، كما أسرع بالروي عندما أخذ المبشر الدومنيكي هرمز إلى دير بعيد في قرية مار ياقو، ثم تناول عودته مُعلماً هارباً إلى قريته ثم دخوله أول سلك للشرطة في العراق.

    متن الحكاية

    هكذا تمضي الرواية في استحضار تاريخ القرية ليخلع عليها مسحتها الدرامية التي كانت عليها في الواقع، وتتشكل العائلة المقدسية خلال كل المراحل، مروراً بمذبحة سميل وولادة الأولاد والبنات، وصولاً إلى ولادة يوناذم بداية الخمسينيات وقتل خاله ياقو وهو في الخامسة، بسبب خيار وطماطة، ولتنزل على عائلته صاعقة قتل أبيه وأخيه بعد سنتين وهو في السابعة، وبعد مضي أقل من شهرين تُقصف القرية بوحشية، فيتشرد الجميع، وتضيق عليهم ضفة نهر صَبنا، فتهاجر العائلة إلى كركوك ويبدأ يوناذم هرمز بالعمل وهو صبي، ثم ينتقل إلى الموصل عند ابن عمه أندي، الطالب الجامعي في قسم المحاسبة ومقاول البناء في الوقت نفسه، الذي يقرر الهجرة إلى شيكاغو في أمريكا، ويكون ولسون شقيق يوناذم قد سبقه إليها. فتضيق الدنيا على يوناذم أكثر في نهاية الستينيات فيهجر العراق هو الآخر مروراً بسوريا ولبنان ليطير إلى شيكاغو ويحط الرحال عام 1972 فيها مديوناً، وفي جيبه خمسة وثلاثون دولاراً فقط وحقيبة سفر، وستكون البداية صعبة، خاصة أنه لم ينجح حتى في الخامس الابتدائي، لكنه يعمل بجد ليكون فاعلاً ناجحاً في الحياة، لينتقم من قاتل والده وأخيه بتقديم نموذج مشهود له في جني ثمرة التدبير، وتصفية الحساب مع الحرمان والاضطهاد بتقديم صورة مناقضة لمن قتل والده ودمر عائلته، فهذا شقيق هرمز الشيوعي الذي قضى بقية عمره في سجن نقرة السلمان، والثاني يموت قهراً في شيكاغو، والأم القوية تهاجر هي الأخرى، والبقية يبقون معه يجترون الذكرى المريرة واليوم الأسود لحظة بلحظة، ويسألون طوال حياتهم السؤال نفسه: لماذا ومن أجل ماذا قتل والدهم؟
    في العشرين من عمره يتحول يوناذم إلى مليونير فيبدأ بمد المساعدة لكل من ينتظر الدعم، سواء في شيكاغو أو العراق وفي أي مكان، والنقلة الإنسانية الكبرى تمثلت بلقائه بأبناء القاتل بصدف غريبة على الأغلب فيلتئم الجرح بالمودة والرحمة والعطف بينهم. وهل هُناك أي شيء نخبوي أكثر من العاطفة، العامل المُلزم للجنس البشري؟
    إن ما قدمته هذه الرواية على مستوى البنية الفنية أنها انفتحت في نموذجها على سمات فارقة في تعامل التخييل مع المادة الوثائقية، بالشكل الذي منحها إثراءً، من حيث تطويع اللغة السردية في تشكيل الحدث، وما تفيض به من اشتغال على كسر المألوف والتوقع، بالتالي نحن أمام نص سردي تشكَّل من الواقع على مستوى المرجعية، لكنه على مستوى البنية النصية أعاد تشكيل التجربة الإنسانية التي عاشتها الشخصية الواقعية، وحلَّق بها في سماء ومجازات التخييل، استجابة لما يتيحه السرد الروائي من نزعة تمنح المؤلف المساحة التي يرغبها في التجريب لبناء مادة خطابه الفني وطريقة سرده.

    (صحيفة القدس العربي, 23/12/2024)