محمد رمضان الجبور
عندما يصبح الشعر شراعاً يحملك إلى عوالم شاعرٍ أحبّ الحياة وعشق الأمل، فأنت بلا شك في حضرة الإبداع وأنت في حضرة شاعر ميّزته تجارب عديدة قبل أن يمتطي حصانه «تحت سماء واحدة» فقد صدر له: «مصاطب الذاكرة « عن بيت الشعر الفلسطيني، «مصيدة الحواس» عن دار أزمنة، «مطر على قلبي» بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، «مجاز خفيف» عن دار ورد، «ذئب المضارع» عن دار الأهلية للنشر والتوزيع. فالشعر ما هو إلا مجموعة من التجارب الإنسانية التي تُعبر في أغلب الأحيان عن رؤية عميقة يختزنها خيال وفكر الشاعر، يتخللها الكثير من الإشارات والدلالات.
وقد ضمّ الديوان بين دفتيه أربعاً وعشرين قصيدة توزعت على صفحات زادت عن المائة والثلاثين صفحة واتسمت العناوين الفرعية أغلبها بالطول، فقد جاء الكثير منها يتألف من خمس كلمات وأكثر، حاملة في طياتها دلالة ومعنى يُدخل المتلقي إلى محراب القصيدة، وقبل أن نلجُ إلى أعماق ديوان شاعرنا (نضال برقان)، لا بد لنا من وقفة عند أو تحت « سماء واحدة «، فهي العتبة الأولى التي من خلالها نستطيع الولوج إلى أغوار النص، فقد اختار الشاعر مفردة السماء لتظلل على ما جادت به قريحته من صورٍ وعواطفٍ وخيالٍ وحروفٍ وكلماتٍ. فمفردة السماء في معاجم اللغة من معانيها: كلُّ ما علاكَ فأَظَلَّك.
وقد وردت هذه المفردة في الكثير من العناوين الفرعية، (طائر في سماء بيضاء)، (رصاصة ذهبية من السماء)، (في سماء الدعاء)، بالإضافة للقصيدة التي جاء عنوانها ليضم كل قصائد الديوان: (تحت سماء واحدة). ولم يقتصر الأمر على ظهور هذه المفردة التي تحمل دلالات عديدة كالعلو والارتفاع، الصفاء، على العناوين الفرعية والرئيسة، بل نلمحها في متن العديد من القصائد، ففي القصيدة التي عنونها الشاعر (تحت سماء واحدة) نرى وكأن الشاعر يريد أن يرسل رسالة لكل من مرّ بالقرب من ديوانه:
«أحلامنا/ مهما اختلف لغاتها/ فأننا نطلقها في الرياح ذاتها/ أنتِ من هناك.. أنا من هنا/ وكلانا دائماً تحت سماء واحدة» ص7 وفي نفس القصيدة يكمل الشاعرة الفكرة التي بدأها وكأن الشاعر يريد أن يقول: كلنا سواسية…لا فرق بيننا…ما دمنا كلنا تحت سماء واحدة:
«حِداء الرعاة/ أغاني الحصّادين/ صراع الباعة والصنّاع/ أدعية المؤمنين/ نقاشات الملاحدة/ كل تلك الأصوات تتصاعد من مختلف الجهات/ لتصبح أوكسجيناً في رئتي الكون/…/ نحن من هنا… أنتم من هناك/ وكلنا دائما تحت سماء واحدة» ص 9
ويتوالى ظهور مفردة السماء في متن الكثير من النصوص وكأنها الوتر الذي استولى على قلب وفكر الشاعر، فقد أجاد الشاعر توظيفها في الكثير من القصائد، مرات كثيرة مفردة وأحياناً بصيغة الجمع (سماوات) كقوله في قصيدة بعنوان (كنتُ عود ثقابٍ قبلك):
«قلبي غسلتُه بمائك من درن السماوات وحراسها / والأرض وزبانيتها « ص 46
وقوله « اترك السماوات مقفرة/ مقفرة وجرداء/ جرداء ومفضوحة/ ولا أقرضها نجمةً أو قمراً / من بستان الطفولة» ص 56
فكم هو عزيز بستان الطفولة على الشاعر حتى عزّ على الشاعر إقراض السماء ومنحها قمراً أو نجمة، وتركها جرداء مقفرة.
وتتكرر مفردة (السماء) في قصائد كثيرة، وفي كل مرة نرى أن الشاعر قد أصبغ على السماء صفة جديدة ونعتها بأوصافٍ جديدة رغم أننا في النهاية تحت سماء واحدة، فهي سماوات ناشفة، عندما علّق الشاعر فأس النسيان الذهبية على كتفه بعد أن حطم السماوات الناشفة:
«هذا العام سأحتفل بيوم مولدي جيدا
سأضع ماءً كثيراً للعصافير على السور
سأغني للياسمينة حتى تتدفق
سأعلق فأس النسيان الذهبية على كتفي
بعد أن أحطم بها سماوات ناشفة
وذكريات من دون روائح
وناساً نيئين» ص 67
وتأتي ذكر السماء في أكثر من مناسبة وفي أكثر من قصيدة، ففي قصيدة بعنوان (في طور جثة) وفي حديث الشاعر عن الحرب والدمار والجثث، تنهدم السماء على أطفال وهم نائمون:
«أمهات يُقصفن وهن يسقين نباتاتهن الصغيرة
أطفال تنهدم عليهم السماء
وهم نائمون في ملكوت الدعاء» ص 111
ويظل الشعر في نهاية الأمر، ما هو إلا تجربة تعتمد على الشعور بما يدور في نفس الشاعر وحولها، أو رؤية يحاول الشاعر أن يوصلها للمتلقي معتمداً على ذخيرته اللغوية وخياله الخصب وإيحاءاته المدهشة، والمتصفح لديوان الشاعر (تحت سماء واحدة) يرى تنوّع الموضوعات التي تناولها الشاعر والسمات الفنية التي لم تخلُ منها قصيدة من قصائد الديوان ونكاد نقول أن من ابرزها الصورة الشعرية التي نراها حاضرة وموجودة في الكثير من الأساليب البلاغية وفي كل قصائد الديوان، فأكثر ما يشد القارئ، وما يميز هذا الديوان، توظيف الشاعر للصورة الشعرية بأساليب متعددة تُحفز المتلقي للمتابعة، فالصورة الشعرية في معظم الأحايين تُعتبر من المقومات الجاذبة للمتلقي، فقد أجاد وبرع الشاعر في رسم العديد من الصور المستحدثة وغير المسبوقة، بأسلوب سلس وجميل، ينم عن ثقافة الشاعر، وعمق معجمه اللغوي والمعرفي، ففي قصيدة بعنوان (أستنشق أنفاسك…وأحلقُ)
«أبدد غيمة النعاس في عين الرتابة
أعكر الماء الساكن في بئر البلادة
أشعلُ ثوب الطمأنينة
وهي تصلي في محراب الفراغ
وانتظر مرورك عند فاتحة المنام
الحرب تمر على مهله
وانتظر
الموت يمر كبرق مالح في القلب» ص 13
ففي الأبيات السابقة نرى العديد من الصور الشعرية، فعنوان القصيدة يحمل في طياته صورة شعرية جميلة، فمفردة الاستنشاق تحمل في طياتها العديد من الدلالات، فاستنشاق الهواء دليل الحياة، والاستنشاق غالباً ما يكون للروائح الزكية، فعنوان القصيدة صورة شعرية تحمل دلالات متعددة… فبعد استنشاق الأنفاس هناك التحليق دلالة على السعادة، واذا نظرنا إلى الأبيات الأخرى نرى صور عديدة (غيمة النعاس، عين الرتابة، بئر البلادة، أشعلُ ثوب الطمأنينة، محراب الفراغ، فاتحة المنام، الموت يمر كبرق مالح..) جميع هذه الصورة في جزء من القصيدة، فهناك العديد.. العديد من الصور التي لم نذكرها.
المتصفح للعناوين الفرعية للقصائد، يرى أن معظم العناوين التي اختارها الشاعر، اختارها بعناية فائقة، وجاءت تحمل في طياتها صورة شعرية أو أكثر، مما يدل على ثقافة الشاعر الواسعة في انتقاء العناوين… (لِمنْ تزرعينَ النجومَ في حوضِ النعناع؟، في أيّ من أجسادِكِ تنامين الليلة؟، تعشيبٌ في حديقةِ البهجةِ، كنتُ عودَ ثقابٍ قبلَـكِ، احتفال من أجل حصان النشيد، رصاصة ذهبية من السماء، قصيدٌة تتأمل ذاتها،…) وتظل الصورة الشعرية ركناً هاماً، بل وأكثر العناصر تأثيراً في تميز القصيدة ونهوضها.
«أتذكر
يركض النسيم قبل تنفس الصباح
يُوقظ الياسمينة
يمسك ذراعها كما يمسك شاعر فكرة
ويدوران
يموجان تارة ويحلقان أخرى
يتباعدان تارة ويتعاشقان أخرى
ولا يهدآن
حتى تستيقظ الأغاني على الشفاه
والأماني في الصدور» ص 25
في الأبيات السابقة نرى أن الشاعر يرسم لوحات جميلة بأسلوب قصصي عذب وسلس، موظفاً الصورة الشعرية لتكمل جمال المشهد أو اللوحة « يركض النسيم قبل تنفس الصباح، يُوقظ الياسمينة، يمسك ذراعها كما يمسك شاعر فكرة.. أحداث متتالية، وفي النهاية تُشكل لوحة جميلة.
وتزداد القصيدة جمالاً ومعنى، عندما تجد شاعراً يمتلك لغةً تميزه عن غيره، فاللغة هي جوهر القصيد، وهي من العناصر الجاذبة في النص الأدبي، ومن خلالها يستطيع الشاعر تجسيد مشاعره، وتعميق تجربته الشعرية، ويظل لكل شاعر لغته الخاصة، فهو ينهل من مخزونه الثقافي والمعرفي، فهي من العناصر الأساسية في عملية الإبداع الفني والأدبي. والشاعر نضال برقان صاحب مفردة ولغة مميزة، فالشعر أو القصيدة تكتسب قيمتها الجمالية والفنية من تواجد مجموعة من العناصر، موسيقاها… مفرداتها… صورها… لغتها، وتظل اللغة من أبرز العناصر فهي بمثابة الوعاء الذي يضم كل ذلك، فهي تُظهر للمتلقي الثراء اللغوي والمعرفي فهي العنصر الأهم في تكوين القصيدة.
«العزلة أكثر قتامة مما توقعت
أوسع من جرح في خاصرة العالم
وجافة مثل كوكب
لم تحط على سطحه فراشة أبداً
العزلة
ترى أينكِ الآن
كيف فرت عصافيرك من جسدي» ص 32
قد تكون هذه الأمثلة التي حاولنا من خلالها توضيح صورة، ولو بسيطة عن هذا الديوان، وبعض العناصر الجمالية التي وظفها الشاعر لإخراج هذا الديون إلى حيز الوجود.
نشر في (الدستور الأردنية)
7-يوليو-2023