تيار الوعي والسرد الروائي الحديث “طرقات بمزاج سيىء” لمصطفى النفيسي

تيار الوعي والسرد الروائي الحديث “طرقات بمزاج سيىء” لمصطفى النفيسي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    منال رضوان
    كاتبة وناقدة

    يعرف تيار الوعي في الأدب: أنه ذلك الانسياب المتتابع والمتواصل للأفكار، كما يعبر عن سريانها باطنيا وذهنيا؛ حيث يصاحب ذلك العديد من التغييرات والتقلبات والتفاعلية، بالشكل المتواصل للأفكار داخل الذهن، وهو ما عبر عنه وليم جيمس(W.James) في تعريفه لذلك النمط السردي، المستند إلى السمت الانسيابي.

    ومع الإقرار بأن هذا النمط لا يعد شكلًا مستحدثًا للسرد الروائي، وإنما وفقه، قدمت بعض الروايات لعديد من الأدباء كأعمال لفيرجينيا وولف، والبير كامو وفيودور دوستوفيسكي وغيرهم؛ غير أنه يتميز بطبيعة خاصة، وكما أوجد “جيمس” ذلك المصطلح، فقد أوجد معه دلالته المهمة عندما أقر بأنه يمثل: ”جريان الذهن الذي يفترض فيه عدم الانتهاء والاستواء” حيث تكون الجمل مفككة وغير مترابطة؛ لتحدث أثرها في تفجير النص، ومن ثَم “مواجهة النص بالنص”والتساؤل عن التعارضات والتراتيبيات؛ ليتم استنباط التناقضات وعدم الترابط؛ إذ أنه يتخذ من التفكيكية أسلوبا يمكننا أن نتعرف إليه بوصفه ” التيه الفعال والمنهجي” كما ذكر مؤسس النظرية في هوامش Marges ( دريدا ١٩٧٢ج).

    لذا فالقراءة التراتيبية لنصوص كتلك يصعب معها متابعة العمل إلا بشىء من التتبع الحصيف، وربما لا يصل القارىء إلى تكوين النص النهائي الخاص به عقب الانتهاء من العمل أو ما يعرف باللقاء فيما بين (النص المكتوب والنص المقروء)؛ حيث تندرج كل نقطة بالنص في أفق مرجعي أكثر تكثيفًا؛ فلا يستطيع القارىء أن يمنحها صبغة سيميائية قاطعة لا التباس في رؤاها، أو أن يحررها من ربقة الدلالة الواحدة، حتى أننا نجد في هذا الطيف من الكتابات، النص القصصي وقد تعرض لا للتماهي فقط بل للطمس؛ وما ذلك إلا لصالح ” ما هو فوق نصي، أي لصالح الإيهام الذي ينتجه المتلقي تحت إغراء النص”.
    كما أنه يقسم وفق “فرانسيس بار” لا إلى مقاطع طويلة من الاستبطان فحسب؛ بل تسجيل الوعي الخام بما يحويه من مدركات وأحاسيس وأفكار وأحكام وتداعيات وذكريات.

    ومع كل ما سبق ينبغي لنا أن نذكر النزر اليسير عن (اللغة) في ذلك النمط السردي، والتي يكون لزاما عليها أن تظل حاملة لمهمة توصيل التأثيرات فيما بين العالم الخارجي المحيط مع عالم الشخصيات الداخلي، ولا يتم ذلك إلا عبرها؛ إذ تلتزم بالمحافظة على هذا التداخل والامتزاج فيما بين هذين العالمين ومدى تأثير كل منهما على الآخر وكذا تأثره به.

    ومن أبرز الأمثلة الروائية الحديثة لذلك النمط السردي رواية… “طرقات بمزاج سيىء” للروائي المغربي مصطفى النفيسي، ومنذ العنوان الذي يحمل توترا في الدلالة؛ حيث يترواح فيما بين السوء الذي تتسم الطرقات به، وهي جمع (طريق) أي الدرب المتسع والممتد والذي يقبل وجود التفرعات على جانبيه، في دلالة على التشتت والضياع بين نوازع إنسانية ورغبات نفسية تسيطر على أبطال الرواية، وبين المزاج وهو: الحالة العقلية الجسمية التي تتأرجح كذلك في ما بين الإيجابية والسلبية، والمرح أو الكآبة، و الأمل أواليأس،
    لكن في الأحوال جميعها، فإن الكاتب بإيراده الكلمة الثالثة لهذا العنوان (سيئ) قد قطع علينا التفكير في تلك المراوحة التي تصاحب الاعتلال المزاجي المصاحب للسائر في الطريق بين إيجابية وسلبية؛ نتيجة ذكرياته وبواعثه النفسية أو نتيجة وعورة تلك الطريق ترميزا وتشبيها بعقبات الحياة والتي يكابدها الإنسان المعاصر.

    ووفق “بارت” فإن المتلقي يقع عليه عبء البدء في تأويل النص حتى قبل الشروع في قراءته، وهو ما نجح النفيسي فيه بإيراد العنوان والذي أعقبته عدة عبارات مأثورة لإدواردو غاليانو وهاروكي موراكامي وفيرناندو بيساوا… وهي عبارات فلسفية عميقة – في مجملها – تنم عن الحاجز الذي يتكيء الإنسان المأزوم عليه؛ لينتج من خلال اللغة التعبير عن حالة من التشرذم واللا انتماء، وبذا يمكن تكوين الفرضية العامة؛ والتي لاتكتمل في صيرورتها النهائية بحال بمجرد ذكر الكلمة الثالثة من العنوان، وإن كانت تصرفنا إلى أن هناك ثمة شيء ليس على مايرام قد حدث، بيد أننا كي نتعرف إلى بواعثه أو أحداثه أو نتائجه على أقل تقدير ، وبالتالي مهمة تأويل المضمون النهائي عقب قراءة الكلمة الأخيرة في النص الروائي؛ عندها فقط يتم تكوين القراءة الخاصة بالقارىء وتقدير مدى العطب الذي أصاب شخوص من ارتادوا تلك الطريق بأمزجتهم السيئة،
    السرد:
    عبر التقنية السردية المباشرة، التي اعتمدها الروائي مع الحرص على إبراز المشاعر والرؤى والخيالات التي تعج بالحركة والتفاعل بين شخوصه واستخدام المونولوج الداخلي أحيانا مع دوره الرقابي الذي تتطلبه التقنية لكل شخصية على حدة مع إمساكه بزمام مهمة السرد، وقبوله الانسحاب من تلك المهمة في مواضع عدة وترك الحكي لأبطاله، مكتفيا باستخدام الأسلوب السريع سرديا، وتجاوز الكثير من أدوات الربط والعلاقات السببية مع التكثيف في العبارات والتشبيهات التي تزيد من التناثر أحيانا لكنها تمنح النص الملاءمة لذلك الأسلوب أو تلك الطريق التي اختار صاحبها أن يسير فيها.

    – الشخصيات:

    تعمد النفيسي ألا يشير إليها بأسماء، مكتفيا بخلع صفات ووظائف لتحديدها، فالأبطال يشار إليهم ب الزوجة، حارس المرمى وحارس العقار؛ هذه المساحات التي تتحرك الأبطال فيها، لم تقدم لنا بصورة مباشرة؛ بحيث تبدو وكأن خيوط اللعبة كلها بيد الراوي العليم، بل على العكس فإننا نجد اللغة هنا وقد أخذت على عاتقها مهمة التقديم والتوظيف؛ حيث يظهر التناسب بين طبيعة الوعي وبين نظريات علم النفس أو الفلسفات الحديثة، ليقدم العمل شخصية حارس المرمى وحارس العقار -على سبيل المثال- ثم يقوم بتقسيمهما إلى نموذجين أقرب إلى النموذج الانبساطي والنموذج الإنطوائي وفق “ليبدو”… فبينما حارس المرمى والمفترض فيه المواجهة والإقدام، يتخاذل عن صد ضربات الجزاء ويترك الملعب متخليا بذلك عن الدور الأساسي في الحياة والذي قرر أن يلعبه، فهو في تخبطه وتردده يشير إلى أزمة الإنسان الأزلية حول انسحابه تحت وطأة الضغوط أو الاستمرار في آداء دور البطولة، حيث يقرر حارس المرمى أثناء مباراة مصيرية ترك الأمر برمته:

    ( ارتبكت الغربان التي كانت تتكدس على المدرجات وأمعنت في نعيقها قبل أن يغمى على الحكم لأنه أجهد نفسه بتلك الصفارة المدسوسة دائمًا بين شفتيه كأنها سهم صغير على أهبة الانطلاق…)

    في ذلك المشهد المقترن بالتشبيه الفنتازي، والذي يتجاوز فكرة خسارة مباراة لكرة القدم مهما تعاظمت أهميتها؛ لكنه الاسقاط المتعمد والمقصود من النفيسي لتوضيح مدى الأزمة التي يعانيها البطل، وفي الوقت ذاته نجد أن حارس العقار المتوقع منه أن يقبع منزويا في ركن من أركان المنزل القائم بحراسته؛ لكنه يتخذ المبادرة والتفاعل، فيقوم بالإبلاغ عن حالة اختفاء لأحد سكان العقار؛ لتتجلى المفارقة فيما بينهما وكأنهما قد تبادلا دوريهما وإن كانت المهنة واحدة وهي تلك التي تعتمد الترقب والحراسة واليقظة كأسلوب تحول إلى النمط السلوكي.

    هذان النموذجان يتماثلان فيما بين الواقعي والمفترض، وكأن أحدهما بات إنعكاسا للآخر في ظروف تتفق أو تختلف، لكننا نجد عراها لا تنفك على طول الخط السردي؛فهي علاقة مقاربة تارة أو مفارقة تارة أخرى بحيث لا يمكننا إنكار وجود أحدهما حتى أثناء الحديث عن الآخر:

    (حارس العقار لم يسقط فيزيائيًا؛ لأنه تماسك محاولًا استحضار القوة من مكان ما في الكون. تذكر جدته وأدعيتها مثلما تذكر مخاوف أمه الكثيرة، كانت تسرد تلك المخاوف على مسمعه قبل أن يخرج من المنزل: ” لا تتأخر!” “لا تكن مغفلا”
    إلى أن يكتب: ( لكنه مغفل الآن إنه المغفل الوحيد الذي يستحق شارة ما تجعله يصبح معروفا كغبي بين الجميع، فعلى الأقل لم يكن هناك أي سبب يجبره على أن يأتي إلى مخفر الشرطة للتبليغ عن اختفاء أحد سكان العمارة. وما الذي يدريه أنه اختفى فعلا…..)

    ومن الملاحظ هنا استخدام مفردات ‘شارة – السقوط فيزيائيا – بينما المقصود بالحديث حارس العقار، لكن هذا الانسحاب الحادث من (ح) المرمى يقابله التفاعل الجاد والإيجابي من (ح) العقار والذي تمثل في عدة خطوات أعقبها ذلك التصرف فهو ينتظر من بطله أن يتحرك تجاه صد الكرة والانتصار للفريق، فيصيبه الخذلان جراء تصرف الأخير تجاه الموقف الذي مثل في مخيلته حتمية الانتصار في الصراع، والتفكك والضياع على أرض الواقع، كما أنه لم يجد إجابة شافية عند الزوجة التي اكتفت بزم شفتيها وآثرت الصمت إزاء تصرف زوجها الغريب؛ لذلك فإن تلك الساحة الخاوية استوجبت التحرك الإيجابي لملء الفراغ والتفاعل مع العالم الخارجي والذي مثلته العمارة بالنسبة لحارسها، بينما كان الملعب بمثابة العالم الخارجي لحارس المرمى المنسحب والمتخلي عن دوره، كذلك فإن مسكن الزوجية هو عالم الزوجة الذي تركته فور مشاهدتها انسحاب الزوج عبر شاشة التلفاز.
    فهل يكون تحرك البسطاء مجديا صوب تركة اعتبرتها الطبقة الوسطى إرثًا ثقيلا بينما ظن من هو دونهم اجتماعيا واقتصاديا أن ذلك التخلي رفاهية لا يستطيعون الوفاء بتكلفتها؛ فيكون لزاما عليهم التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!
    لتظل هذه هي الفكرة الرئيسة التي تمحور حولها العمل والتساؤل الذي يطرحه الشاعر والروائي ومدرس الفلسفة مصطفى النفيسي في ذلك العمل ونحاول معه الإجابة عليه.

    جريدة #القدس_العربي