“ثلاث برك آسنة”… 11 رواية قصيرة في كتاب

“ثلاث برك آسنة”… 11 رواية قصيرة في كتاب


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    رشيد عبد الرحمن النجاب
    كاتب أردني

    اختار د.إبراهيم غبيش “ثلاث بِرَك آسنة” عنواناً لكتابه الأخير الذي يضم إحدى عشرة رواية قصيرة. والآسن من الماء هو الراكد الذي لا يصلح للشرب، إلا أنه كان كافيا للترفيه عن الطفولة التي تعيش شظف العيش بين الخيام، فحول البركة طالما لعب “عاهد” وشقيقته “عهد” إلى أن غادرت “عهد” بقرار ليس لها إلى الولايات المتحدة، ولم تعد.
    حتى هذه المتعة البسيطة التي يشكلها اللعب حول مياه البركة الآسنة، ومشاركة الضفادع في رقصها وغنائها، لم تعد متوفرة لعهد وشقيقها، فإلى جانب البرد القارس، وشظف العيش في المخيم، عانى عاهد وشقيقته الحرمان من الحياة العائلية الطفولية الجميلة. تساءلت وأنا أقرأ: لكن لماذ “عهد” و”عاهد” فقط؟، فمن غير شائع في هذه المجتمعات أن يكتفي الأهل بولد وبنت؟! هل أراد الكاتب أن يعمق تأثير الصورة وإظهار مدى قسوتها؟! ثلاث برك في ثلاثة أماكن لكل ظروفها التي نشأت فيها، والذكريات والقصص المتعلقة بها والخيالات، ارتبطت الأولى بقدر من الفرح الطفولي وكرنفالات الأطفال بملابسهم الملونة ذات الروائح المميزة، وشكلت البركتان الأخريان صدى للحياة التي كانت حول البركة الأولى، ومحاولات حزينة لاستعادة ما مضى، وتبديد الوحدة. تحضر فلسطين في خلفية المشهد باستمرار، فنكبتها خلقت مبررات وجود هذه الخيم والمخيمات، لكن المشاهد تبحث في تفاصيل أخرى، في مزيد من التفاصيل القاسية التي تتوالى على حياة الناس في هذا العراء المكشوف حتى بعد أن انتقلوا من خيم القماش إلى الخيم الإسمنتية.

    • آدم
    في رواية “آدم” يلتقي الإنسان بالإنسان بعيدا عن الأسماء التي ارتبطت بالأقطار، فلا هذا من رجال السنوسي ولا من قبيلة القذافي، ولا ذاك يمت بصلة للبشير، فقط إنسان التقى بإنسان، كلّ اكتوى بظروف بلده بطريقة ما، فقد عبد النور أفراد عائلته في دارفور، وذهبت أحداث ليبيا بابن آدم وزوجته (هل كان اختيار الاسم صدفة؟)، وألقي على كاهل آدم الجد أمر العناية بآدم الطفل المريض، فإلى أي حد بلغ التفاعل الإنساني بين آدم الليبي، وعبد النور السوداني؟

    • طائر اللقلق البري
    يقال إن طائر اللقلق عندما يطير لا يحلق فوق البحار، ربما لهذا أسموه “طائر اللقلق البري”، ويجد بعضهم في قدومه نوعا من التفاؤل دفعهم لتسميته “أبو سعد”، وهو اللقلق من اللقلقة أو كثرة الكلام، أما إبراهيم غبيش فقد جعل من هذا الطائر مخلوقا عجائبيا، وفي كثير من المزج بين الخيال والواقع رسم صورا لتواصله مع مخلوقات هي مزيج من الطير والبشر.
    ثلاثة هم؛ فقسوا من ثلاث بيضات بنية اللون بدت غريبة لطائر اللقلق، لكنه حضنها حتى فقست، لا يدعي أبوتهم بل يدعو نفسه أبا روحيا لهم، منهم من يطير، ومنهم من يشعر برغبة في الطيران ويتواصل معهم عن طريق “التخاطر”، ولا يعرف الواحد منهم عن الاثنين الآخرين غير كونهما موجودين.
    يقول أحد هذه المخلوقات واسمه سعدون غبش: “معلومة صغيرة علمتها من طائر اللقلق البري؛ حينما تعود إليه روحه، تعود إلي ولشقيقيَّ روحنا ونطير في الفضاء”.
    ويقول شقيقه الحويس الذي يستطيع الطيران: “أنا حر، لاحدود لحريتي، أرض كون وفضاء شاسع”.
    أما أختهما أم شكردم، فتقول في سياق التعريف بنفسها كما فعل شقيقاها: “أطمع في شروق دائم للشمس، أطير معها في الاتجاه نفسه، أطير، أطير، أطير بلا توقف”.
    يتوصل المحققون إلى أماكن هذه المخلوقات، ويجمعونهم مع طائر اللقلق البري، ويتمكنون من ذلك بواسطة الأساور الخمسة التي ثبتوها في أطرافه ورقبته، ورصدت معلومات التخاطر. فكّوا أساوره الخمس وحذروه بأنه ذاهب للموت، فأجاب طائر اللقلق البري: “لا، أنا أعود للحياة، للحياه”. هو إجماع على توق للحرية.. ثم تأهبوا وحلقوا فجأة وسط حيرة المحققين.

    • قنفذ وديـــر
    “أجراس تدق، تدق، متواصلة وبعنف..
    عربتان، عاصفة من غبار أصفر، تغمرهما، تسبقهما وتلحق بهما”.
    كان هذا مشهد البداية، ولكن مهلا، لم يكن هذا على شاشة سينما، ولا تلفزيون ولا حتى شاشة كمبيوتر أياً كان شكلها، بل كان بين دفتي كتاب، وعلى بعد تسع صفحات جاء المشهد الأخير كما يلي:
    “وبقيت وحيدة في الدير، شجر ونباتات، وماء ودجاج، وأجراس تدقها كل يوم، كل يوم”.
    تباين في إيقاع الأجراس، بين مشهد البداية لهذه الرواية القصيرة أو –ربما- القصة طويلة؟! تثير الأولى ضجيجا يرافق حدثا جلل، أو يعلن عنه؛ توفي الدكتور نادر الذي كان يسكن الدير برفقة الأخت كلير، كان مريضا بالسرطان، لكن السرطان لم يقتله، فمن الذي قتله؟ ولماذا؟
    أما أجراس المشهد الثاني فجاء إيقاعها رتيبا، كئيبا، يعكس رتابة وكآبة العيش في الدير بعد هذا الحدث، وفي المشهدين وما بينهما ثمة صور لعلاقات إنسانية؛ صداقة، رِفقة، محبة أو حب ربما! احترام، رعاية بصورة أو بأخرى، ثم فراق في ظروف مختلفة، وحزن وبكاء، إلا أن بعض الحب تجسد إيقاعا صاخبا أوقعه زكريا ثم صمت كئيب.

    • مرمور.. صعود هبوط
    مرمور، من المر والمرارة، يقف مرمور ببذلته الزرقاء مديرا لصالة الفندق، يوزع الابتسامات، يغطي الذل والمهانة، ويعيش في عتمة وحيرة مستمرة، لكن من هو مرمور هذا ؟! ربما لو دقق القارئ في الجملة التي سبقت هذا التساؤل، لأدرك من المقصود؟!.. نعم، إنه أيوب الذي غادر المخيم إلى المخيم، في رحلة بدت شديدة البعد، شديدة القسوة، عبر وسائل نقل متعددة إلى حيث جدته التي لم يحب، توفيت الجدة، فعاد إلى مخيمه الأول، بل إلى المدينة القريبة منه، عاد يرى أمه، لكنه لم يفلح في إقناعها بترك الساقية التي كانت وظلت تدور فيها إلى أن توفيت، أكرمها فبكت قسوتها وحنانه.
    يستدعي الكاتب في هذه الرواية القصيرة بطلا من مجموعته القصصية السابقة “أيوب في حيرته” ويتتبع سيْرَ حياته عاملا مجدا، مثابرا، دارسا، جامعيا، موظفا، يرتقي السلم إلى أن أصبح مديرا براتب ومكافآت وله بيت معقول، لكن حيرته تراوح في مكانها، فأي شيء أكسبه هذا الحيرة المزمنة المحزنة رغم الصعود؟ علاقته بأمه، أو ربما علاقتها به؟ هذا التجوال اليومي للذاكرة بين الماضي والحاضر والمستقبل ماذا عساه يكون هذا المستقبل؟! الناس الذين عرفهم في المخيم ولم يعرفوه؟! تلك الحياة التي يحياها وحيدا؟ المخيم! أيهما؟ المدينة، البلاد، الزوجة، الأولاد؟ أين هم؟ لقد قال لوالدته في زيارته لقبرها إنهم لن يأتوا، لن تصبح جدة، ولن يكون أبا، ربما خشي أن يورثهم حيرته!
    لطيفةٌ فكرة التجوال هذه، تجوال الشخوص من عمل إلى عمل لعل أيوب يكشف للقارئ في الجولة التالية عن سر حيرته.

    • شارع الظل
    من خلال أوراق فاطمة وأوراق مصطفى، يلقي الكاتب إبراهم غبيش الضوء على سيدة تتعامل مع ثلاثة نماذج من الرجال، تحب أولهم، تتزوج ثانيهم، وثالث هو “المدعي العام”، لم تكن معالم علاقة فاطمة به واضحة (بالنسبة لي على الأقل)، ربما كانت لقاء عابر! والشخص الثاني هو الأستاذ الجامعي، وهو زوجها، ووالد ابنتيها وابنها الذي أكلته الشكوك بشأن طبيعة وأبعاد علاقتها مع مصطفى فتنفصل عن هذا الزوج. أما مصطفى فهو صديق الطفولة الأول الذي أحبته، من طرف واحد، وربما أحبها هو! كان لها مكانة خاصة عنده، لكنه لم يستطع أن يحددها، لم يكن الزواج بالنسبة له خيارا لا من فاطمة ولا من غيرها. كان مسكونا بحادث أودى بحياة شقيقته سارة إثر انفجار “البابور-البريموس”، تراوده أحلام يرى أمه دجاجة أحيانا، وحصانا في أحيان أخرى.
    كان مصطفى عبثيا، تائها، ليس للزمان عنده قيمة، دائم البحث عن شارع الظل، وطالما صارحته فاطمة بأنه لا يصلح لشيء، كان مشردا يصادق الكلاب المشردة أحيانا ولكنه خشي من الموت ككلب ضال، فكيف قضى وأين؟

    ——————–

    لوحات مبعثرة تنقل الكاتب بينها بمرونة ليكمل بعض تفاصيل الصورة هنا وهناك، أما القارئ فربما احتاج بعض الجهد ليرتب هذه اللوحات، وربما أضْفَت هذه الطريقة بعض التشويق إلى السرد.
    تتميز الروايات التي يضمها الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” (2022) بتنوعها من حيث الموضوع وطريقة السرد وبيئة الروايات، ناهيك عن طولها أو قصرها، إلا أن ثمة معالم مشتركه بينها تبدو واضحة في بعض الأعمال، بينما تحتوي أعمال أخرى على إشارات أقل وضوحا، “المخيم” كان ماثلا بوضوح، وفلسطين لم تبتعد أبدا، وكان ثمة إشارات إلى مهنة الطب والتشخيص، والرعاية وربما المعالجة بمقدار أقل، ولا غرابة في ذلك مع الكاتب الطبيب ابراهيم غبيش.
    تغلب مشاعر الحزن والكآبة والحيرة على مشاعر الشخوص في هذه الروايات، إلا أن الكاتب شديد الالتصاق بالطبيعة بمياهها وغيومها وطيورها وحيواناتها، وكثيرا ما يصفها بإيقاع موسيقي جميل.