سرايا
تبقى الرواية فنًّا تخيليًا مستمدًّا من الواقع ، يبثُّ فيه الكاتب مواقفه الاجتماعية والسياسية والفكرية والوجودية ، لتعبر عن رؤية استشرافية ممتدة بامتداد الرواية زمانيا ومكانيا ونفسيا لتعيد خلق الواقع لتتوافقَ و أمالَه. تعد رواية خبز وشاي ” سيرة أبو وئام الكركي” للكاتب الأردني أحمد الطراونة الصادرة سنة ٢٠١٦م عن دار الآن ناشرون وموزعون من أهم الروايات في السنوات الأخيرة ؛ ومهما تطاول الزمن تبقى الأعمال الأدبية الإنسانية بجماليتها فاتنة تغري عشاق الكلمة بمراودة بيانها، وهي تأخذ هوية أردنية خالصة من خلال حركية الأحداث في الأمكنة المتعددة وصور الشخصيات وحواراتها ومواقعها ، وفي الرواية فكر متكامل مبطنٌ بنقد لاذع اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا مستوحًى مما قَرَّ في ذاكرة المجتمع وجرى على الألسنة وتناسخته
البيئات المتشابهة ، ولعلها بنسيجها الأدبي الحكائي تنتمي إلى الروايات الواقعية الطبيعية الناقدة ؛ واقعية : بكشفها عن سلوكيات فردية ومجتمعية مشاهدة تتناول شرائح بائسة في معيشتها لكنها قلقة تعي سيرورة الحياة وتناقضاتها ، وطبيعية بنقلها ممارسات مقززة وألفاظ نابية وعلاقات لا يجرؤ كثير من الكتاب على تصويرها؛ لتعرِّيَ الواقع المترع بالخيبات، وهي تذكرني برواية الأرض الطيبة لبيرل باك ، ونقدية بإضاءة مجهرية ثاقبة لكثير من القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. مكانان رئيسيان تتحرك فيهما المشاهد ، خربة نخل في الكرك، وعمان عاصمة المتناقضات التي لم تعد لأهلها ، وفي خربة نخل تتحرك الشخصيات الرئيسية أحمد ( أبو وئام) وأبوه وعمه أبو خليل وأستاذ التاريخ يوسف وجمال بحثا في مقبرتها القديمة عن
نفائس مدفونة مع الموتى، فنبش القبور مهنة احترفها الأخَوان المتقاعدان أبو أحمد وأبو خليل لكن نتائج البحث لم تشي بشيء ذي قيمة مالية فلم يعثروا إلا على أنتيكات ونقود قليلة. ثنائيات المواقف : تنهض الرواية على ثنائيات متضادة ، وتمايزات بين طرفين متنافرين، لتتشكل منهما رؤية متكاملة ؛ وهي ثنائيات تسير مع الشخصيات والأحداث فتؤدي أدوارا وظيفية تكشف عما وراء المعنى من خلال الألفاظ والأحداث والشخصيات، فمن الأرض والسماء يتشكل الكون، ومن الرجل والمرأة تتكامل الحياة، والليل يُذكِّرُ بالنهار، والموت يذكر بالحياة والغنى يذكر بالفقر… فمن العناصر الثنائية تُخْلَقُ بنيةٌ متكاملة تتقاطع مع ما يريد الكاتب قوله في العمل الأدبي. الخبز والشاي طعام البؤساء بل هما هم ، وأبو وئام كنية ألحقها تجار الإرهاب ببطل الرواية أحمد، الذي تحولَ في لحظة استذكاريةٍ لوجه أمه في سوريا من إرهابي مفترض إلى وطني يتواءم مع الحالة السلمية ليعبر بلسانه عن حقوقه لا بسفك دماء الأبرياء، وخربة نخل تحولت من أرض كان أهلها أغنياء مخصبة بالنخل (وللنخلة قداسة تاريخية في الذاكرة العربية) إلى خربة جرداء فقير ساكنوها،
يبحثون في القبور عن حلي قد تكون دفنت مع الموتى، لكنهم لا يجدون في جثثهم إلا ما يلائم فقرهم من خواتم نحاسية ” يساوي أحدها علبة سجائر”، ص١٤ ،حتى لقد كان إبريق نحاسي أخفاه أبو خليل سببا في موت أخيه أبي أحمد مدعيا ضياعه، ويناقض هذه الشخصياتِ شخصياتٌ ثانوية في الرواية لكنها في الواقع السياسي لها اليد العليا، هم السماسرة الذين يسرقون الوطن وتاريخه بحماية الدولة، يمثلهم كثير من المسؤولين، والباحثون عن الآثار الذين ينقّبون عن الكنوز علانيةً، ومعهم رئيس إحدى كتائب فصائل الفدائيين الذي ترك البندقية حينما أُعْطِيَ جرةَ كنز لاختبارها فأخذها ولم يُرَ من بعدُ، وهناك ثنائية الأجهزة والحراكيين ومن هؤلاء أستاذ التاريخ يوسف الذي يتقمص شخصية الحراكي المثقف لكنه في سلوكه الطبيعي كان منحط الأخلاق سيئ السلوك يبتز البؤساء، وقد وقع بطل الرواية أحمد في ثنائيات رافقته في ضنكه في خربة نخل ومن بعدُ خاصةً بين نصائح أمه ومغريات شيخ جامع جعفر بالانضمام للمجاهدين لتنتهي به دورة الحياة إلى ظل الوطن حراكيًّا مسالما. ومن تلك الثنائيات، سلوك المثقفين – سرًا وعلانيةً – الذين يمثلهم يوسف وخليل ( في النهار تسبون أمريكيا وفي الليل تلعبون الطرنيب الأمريكي) ص٢٦ ،وثنائية الدولة ” التي أكلت مواطنيها لحما ورمتهم عظما”، ص٣٤ ،وثنائية البؤساء حماة الوطن وأولئك المسؤولين ” الذين لو سمعوا فتاش أطفال لاختفى صوتهم شهرا”، ص١١٢ .لقد اُسْتبطِنت تلك الثنائيات بصراعات نفسية وفكرية ودينية شكلت رؤية متكاملة امتدت تسلسلا تاريخيا واسترجاعا ماضويا لتكشف عن تناقضات المجتمع، وعن حلم بمثالية وطن مقدس يفتش عنه أبناؤه ليتماهى مع تضحياتهم بعد أن علق في أفئدتهم وسُرِق من عيونهم ، فعلى الرغم من الفقر والقهر والإحساس بهما إلا إنهم في أحرج اللحظات توترا وقسوة ومظلمةً يستديرون نحوه، ويفيئون إليه ولا يشترون به شيئا، فقد ترك أحمد الجهادَ المزعوم عائدا إلى الوطن، مثلما عاد إليه أبوه بعدما جُنِّدَ مع الفدائيين مشبَّعًا بالجندية حينما تكون لتحرير الأرض لكنه ظل مسكونا بالأردن وطنا ونظاما وتاريخا، ففي ذات صباح تغنى في معسكرهم بأهزوجة الأردنيين مع رفيقه أبي سويلم ( يا حسين وانزل بالسهل)، ص١٢٠ ،فكان جزاؤهما الطرد، وكان المنتظر حينما رجعوا أن يبادلهم الوطن أبوةً وإنصافا وعدالة. بنية النقد : للرواية قيمةٌ نقديةٌ متخذة أقنعة رمزية أو نقدا مباشرا لتغيير الواقع، والارتقاء به نحو مجتمع مثالي يحلم به الكاتب من خلال منظومة من العلاقات المتواشجة، وفي الرواية نرى مسافات عريضة بين خطين مسارهما متعاكسان لم يلتقيا قط ، خط يتبناه الكاتب السارد يتجه نحو الوطن الأنموذج، والآخر يركبه السماسرة واللصوص والعابرون، وهؤلاء يتخذون الوطن مطية ليصلوا إلى مآربهم المادية ، إن كثيرا من السخرية الحادة تتكرر ألفاظا وعباراتٍ ومماراساتٍ في صفحات الرواية متكئة على فضاءت الحرية التي يتحرك في ظلالها الكاتب، ومنها : النقد التربوي، السياسي، الاقتصادي، الثقافي، وهي في مجملها تتشابك لتخلص الوطن من الأخطاء والخطايا، ففي النقد التربوي، يقول خالد مخاطبا أمه حينما لم يستطع إكمال دراسته المدرسية ” عن أي تعليم تتحدثين؟ عن مدرسة لم ينجح فيها طالب واحد في الثانوية هذا العام، هل يوجد معك ثمن حصص
الإنجليزي والرياضيات”، ص١٥٣ ،ومن النقد السياسي وهو مكثف متعدد هذه العبارة لنقد جميع السياسبين، ” موالة ومعارضة ! يا ليت أنها للوطن” ص١٧٤ ،ومن ذلك نقد للربيع العربي، ” يموت قذافي ويخرج علينا غدا قذافي جديد ” ص٢٣ .ومن النقد الاقتصادي قول أبي خليل” البلد نُهِب من مجموعة صغيرة، والسواد الأعظم مرتهن للبنوك” ص٨٦ .وأما المثقفون فقد تأمركوا ” فكلهم انتهازيون إلا من رحم ربي ” ص ٥٤ .والحق أن الرواية محملة بدلالات نقدية لاذعة صارمة لم تبق أحدا من أسنة سهامها. الصور شعريًّا : لغة الرواية سردا وحوارا تبوح بالمشاعر والأفكار والمواقف من خلال لغة شعرية معبرة إيحاءً وانزياحا وتصويرًا وإيقاعا ممسوقا، وقد استطاع الكاتب أن يجعلها لغة متحركة محرِكة معا؛ ليخرجها من رتابة المواقف ووطأة الثقل السردي الموجِّه ، وكانت الصور واقعية متخيلة قد نحسها فمنها أنسنة المطلق والجماد أو حيونتهما وتشييئ الإنسان أو بعض صفاته” فاللحية ترتجف عندما يُمضَغُ الحديث”، ص٩ ” ،والعينان تشبهان أزرار قميص وتموءان داخل محاجر واسعة في السماء” ص١٠ ” ،كان القمر يقرص حافة الليل
الكانوني ويلوذ بالغياب” ص٨٨ ،وشبابيك البنايات ” كأنها عيون قطط تبرق في ليل كانوني ماطر”، ص٢١٤. ويوسف ” ارتمى كحزمة قش مترهلة ” ص١٤٥ ،رمت أم أحمد ” كلماتها وهي كقربة ماء ضاعت ملامحها ” ص١٥١ ” ، كان وجه الفتى كجلد جيفة ناشفة تبلل بقطرات مطر عابرة “، ص٥٢ ،وأبو أحمد تحول في خيال زوجه إلى ” اسفنجة يمتص الألم ولا يرتوي ” ص١٨١ “،أرخت أم أحمد جدائلها التي استحال كالمناجل تحت غطاء رأسها “، ص١٨٤ ” ،يفرك خالد رأسه الذي أصبح كحبة بطاطا “، ص١٧٩.
إن رواية خبز وشاي بثنائياتها الرمزية ونقدها الساخر وصورها الشعرية تُعَدُّ تحولا إبداعيا في الرواية الأردنية المعاصرة، تستحق القراءة والتأمل فهي تغوص في أعماق الشخصيات وتسيح في ثنايا المجتمع لتعري الخبايا والخطايا بحق البؤساء القبوريين من الصابرين على الظلم التاريخي من فئة اتخذت الوطن خزائن لمّا تنفد، إنها حُلُمٌ مُسْتَأنَفٌ بمجتمع متخيل يمكن أن يتحقق واقعا، فما زالت فئات اجتماعية في مفتتح العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين ( زمن الرواية) تقوت بطونها بالأسودين : الخبز والشاي في دولة تزعم العدالة والمدنية، إن الرواية إضافة إلى ذلك كله توثق معاناة البؤساء واستغلالهم في زمن ما بعد العولمة.